المنحازون بطربوش الاعتدال!

جان كورد
 عندما خلق الله الكون، وضع فيه بذرتين، إحداهما تنتج الخير والأخرى تنتج الشر، وخيّر رب العباد الكائنات بينهما، فإن ابليس اختار طريق الشر، والملائكة اختارت طريق الطاعة التامة الذي جعلها تعيش في رحمة ورغد وسعادة، على عكس ابليس الذي تم طرده من مملكة السماء والنعمة ليعيش إلى يوم يبعثون في تمرّد وعنتٍ وشقاء ونقمة. أما الإنسان فإنه المخلوق الذي تجده متقلباً، تائهاً بين الخير والشر، يفعل الشيء الذي فيه الفائدة له ولأهله ومجتمعه وعالمه الإنساني، ويرتكب الآثام ويقترف الذنوب، ومن الناس من يستغفر ويتوب ومنهم من يظل على ما هو عليه إلى أن يأخذه الله أخذ عزيزٍ مقتدر. هكذا تقول الأديان السماوية.
أما في السياسة، وهي من الأمور الهامة في حياة الإنسان، فإنها تدخله أحياناً في أنفاق وسراديب، لا يعلم كيف دخل فيها وكيف يخرج منها، فهو في بعض الأحيان ناضح ونصوح، يريد الخير للجميع ويدعو للرحمة والمحبة والألفة والتقارب والتلاقي والتسامح، وفي بعض الأحيان يركب قاربه الذي لا يدري إلى أين يسير به، فهو يتبع نجماً من النجوم، يراه خير دليلٍ له في الحياة، ولا يستطيع العالم كله إقناعه بأن هذا النجم سيضله، وقد يسير به إلى الغرق وسط الأمواج العاتية، وينتهي في ظلمات فوقها ظلمات. 
إلاّ أن أشنع من تصادفهم في الحياة السياسية، هم الذين يزعمون أنهم معتدلون، لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، يظهرون على الملأ كدعاةٍ للخير والمصالحة والتآخي ويكثرون من الكلام عن الوحدة الوطنية والتمسك بالأسس العظيمة للسياسة القومية الراشدة، إلا أنهم في الحقيقة منحازون تماماً إلى صنمٍ يعبدونه بعد أن كسّر إبراهيم عليه السلام أكبر أصنام قومه “الكردانيين” بآلاف الأعوام، أو هم متورطون في دعم سياسةٍ متناقضة جذرا وفروعاً، فهم ضد الولايات المتحدة في معسكرات التدريب، فكراً ونهجاً وسياسةً، ولكنهم يقاتلون تحت رايتها في وضح النهار في جبهات القتال… وهم ضد أردوغان الذي يجدونه أصل بلاء الكورد ولكنهم في الوقت ذاته يمجدون زعيمه “آتاتورك” ويعلنون بصراحة في الإعلام أنهم لا يمسون بحدود الدولة التركية، وإنهم مع البارزاني في “كوباني” وضده في “شنكال”، وهم مع حقوق الإنسان المنتهكة في نصيبين، إلا أنهم يسكتون عن خرقها  بفوهة البندقية في “جبل الكورد”… وإنهم مع تشكيل قوات سورية ديموقراطية في الوقت الذي يصدرون بيانات رفض قدوم “لشكرى روﮊ” إلى غرب كوردستان… ومن بين هؤلاء من يطبل ويزمر لتلاقي الكورد وتحاببهم وتقاربهم، ويدعو لاحترام رموزهم وقادتهم، إلا أنه في الوقت ذاته يهين أو يتجاهل أعظم  رمزٍ جامع للكورد، ألا وهو علم ثوراتهم الوطنية التي قدم فيها هذا الشعب ملايين الضحايا، وصعد قادته المشانق بعزٍ وكبرياء، ولا يتوانى عن اتهام القادة الأحياء بالعمالة والخيانة، في كل مناسبة وبدون مناسبة. 
هؤلاء المنحازون الذين يضعون على رؤوسهم طرابيش “الاعتدال!” أخطر على شعبنا من مرتكبي جريمة خوض الحرب ضد الكورد، فهم الأبواق التي تعمل على تسميم الأجواء، ولها دائماً بين الخير والشر منبر للزعم بأن “الحق مع الطرفين!”، مثل الخوجة نصر الدين الذي أعطى الحق للجميع في المحكمة، وهذا يعني أنهم لا يريدون الاعتراف بانجرافهم مع رياح التسميم والتشكيك والتحريف في كفاح أمتنا من أجل حقوقها القومية العادلة. 
هذه السياسة تحاول إيجاد مكانٍ لها تحت الشمس بين الصالح والطالح، بين الصحيح و الخاطىء، بين السائر على طريق المستقبل الكوردي والذين لا يزالون يعيشون في عالم “الحرب الباردة” ويظنون بأن “ثورة أوكتوبر” لا تزال تدفىء بشعاعاتها الوارفة عالمنا الفسيح.  
إن وضع حدٍ لسياسة “الاعتدال!” التي ينتهجها محترفون منحازون تماماً إلى جوقة العداء للكفاح التحرري القومي لأمتنا يقع أولاً وأخيراً على المثقفين والإعلاميين الذين منهم من هم ساكتون عن قول الحق، وينتظرون حتى يخرج الخبز من التنور، ثم سينبرون آنذاك ليقولوا لنا: “كنا نفكّر مثلكم ولكننا كنا لا نريد الانحياز مثلكم!”
فهل يتبرأ بعض هؤلاء المثقفين من أفعال وبيانات وتصريحات جوقة المنحازين أصحاب طرابيش “الاعتدال” التي تضر بقضيتنا أكثر من حملة السلاح ضد بيشمركة الكورد وكوردستان؟
‏27‏ آذار‏، 2017

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

كفاح محمود حينما كان الرئيس الراحل عبد السلام عارف يُنعى في أرجاء العراق منتصف ستينيات القرن الماضي، أُقيمت في بلدتي النائية عن بغداد مجالسُ عزاءٍ رسمية، شارك فيها الوجهاء ورجال الدين ورؤساء العشائر، في مشهدٍ يغلب عليه طابع المجاملة والنفاق أكثر من الحزن الحقيقي، كان الناس يبكون “الرئيس المؤمن”، بينما كانت السلطة تستعدّ لتوريث “إيمانها” إلى رئيسٍ مؤمنٍ جديد! كنّا…

نظام مير محمدي *   عند النظر في الأوضاع الحالية الدائرة في إيران، فإن من أبرز ملامحها ترکيز ملفت للنظر في القمع المفرط الذي يقوم به النظام الإيراني مع حذر شديد وغير مسبوق في القيام بنشاطات وعمليات إرهابية خارج إيران، وهذا لا يعني إطلاقاً تخلي النظام عن الإرهاب، وإنما وبسبب من أوضاعه الصعبة وعزلته الدولية والخوف من النتائج التي قد…

خالد حسو تعود جذور الأزمة السورية في جوهرها إلى خللٍ بنيوي عميق في مفهوم الدولة كما تجلّى في الدستور السوري منذ تأسيسه، إذ لم يُبنَ على أساس عقدٍ اجتماعي جامع يعبّر عن إرادة جميع مكونات المجتمع، بل فُرض كإطار قانوني يعكس هيمنة هوية واحدة على حساب التنوع الديني والقومي والثقافي الذي ميّز سوريا تاريخيًا. فالعقد الاجتماعي الجامع هو التوافق الوطني…

تصريح صحفي يعرب “تيار مستقبل كردستان سوريا” عن إدانته واستنكاره الشديدين للعملية الإرهابية الجبانة التي استهدفت دورية مشتركة للقوات السورية والأمريكية بالقرب من مدينة تدمر، والتي أسفرت عن سقوط عدد من الضحايا بين قتلى وجرحى. إن هذا الفعل الإجرامي يستهدف زعزعة الأمن والاستقرار، ويؤكد على خطورة الإرهاب الذي يتهدد الجميع دون تمييز، مما يتطلب تكاتفاً دولياً جاداً لاستئصاله. كما يُعلن…