د. محمود عباس
ستظل قائمة، جدلية وجود مكتبة الإسكندرية، ومكتبة كيتسفون(المدائن) وغيرها من مدراس الحضارة الساسانية، والتي خرجت على الأقل أولئك الكتاب والفلاسفة الكرد الذين نسخوا ثلاثون كتابا، تحدث عنهم أبن الوحشية في كتابه( الشوق المستهام في معرفة رموز الأقلام) المدعومون على الأغلب من قبل ملوك الكرد، الذين يذكرهم دون الأسماء في كتابه السالف، الباب السابع كما ورد في الصورة المرفقة ” في ذكر أقلام الملوك التي تقدمت من ملوك السريان والهرامسه والفراعنة والكنعانيين والكلدانيين والنبط والاكرَاد والكسُدانين والفرس والقبط”
والغريب في إشكالية التاريخ، غياب ليس فقط الشريحة الثقافية بل حتى أسماء ملوك الكرد الذين طمسوا تحت صفة الساسانيين، ليفرزوا لاحقا كملوك الفرس دون الكرد، علما لو كانوا أكثر أهمية في ذلك العصر لذكرهم أبن الوحشية في المقدمة، كما هي الدارجة في تاريخي العرب المسلمين والفرس، وضحالة معرفة القبائل العربية بتاريخ الشعوب المحتلة، أدت إلى طغيان العنصر الفارسي في القرون اللاحقة، وتوسعت احتماليات الفبركة أو التفضيل لغايات سياسية قومية، وعلى الأغلب حدثت هذه في مراحل يقظة اللغة الكردية والفارسية التي بدأت من القرن الرابع الهجري إلى مرحلة الاستقلال التام عن اللغة العربية الإسلامية في القرن السابع الهجري، وهيمنة الفارسية على خلفية السلطة الصفوية.
ففي دراسة المؤرخ شاكر مصطفى، للمدرسة الفارسية في الجزء الأول من كتابه (التاريخ العربي والمؤرخون) الصفحة (140) يذكر اسم أحد أهم ممثلي هذه المدرسة، ويقول ” وممثلو هذه المدرسة كثيرون. كانوا جمهرة واسعة ومن أقدمهم وأهمهم: أبو سليمان يونس الكاتب بن سليمان بن كرد بن شهريار –المتوفي بعد سنة 132هـ/750م” ولا شك لولا ورود اسم (كرد) في نسبه والذي عاش في فترة ملوك ساسان وعلى الديانة الزرادشتية، لفرز حفيده مع الصفة الفارسية كما شاعت بين المؤرخين لاحقاً، وهو من أحد اهم مصادر الأصبهاني في كتاب الأغاني، وله كتب عديدة مفقودة، وأمثال يونس كثيرون.
وفي الواقع لا يمكن الفصل التام بين الكرد والفرس وخاصة في الفترة الساسانية الأخيرة، وحيث لغة آفيستا كانت هي اللغة السائدة في الكتابة، والمؤدية إلى أن يحافظ الكرد على ماهيتهم القومية- الشعوبية وعلى لغتهم رغم تمسكهم بلغة القرآن العربي، ورغم تشعب التكيات الدينية وظهور المذاهب الصوفية بينهم، فلم تمت فيهم الثقافة القومية، وبرزوا فيما بعد وخاصة في نهاية القرن الثالث الهجري في طرق صوفية تلاءمت ودياناتهم المانوية أو الزرادشتية والمزدكية وغيرها، وبعضهم ظل يحمل من أسلافه ثقافات حضارية أدبية، وفلكية، وشعر، وكتابة التاريخ، والفن أمثال (زرياب الكردي 777م- 852م) الذي اشتهر في شتى مجالات الفنون الموسيقية والثقافية والاجتماعية، وهو من أسس أول مدرسة منهجية لنشر وتعليم الثقافة الموسيقية، ونحن هنا لسنا بصدد تاريخ ما بعد الغزوات، لكن ما نود قوله أن الشعب الذي نبعت منه أمثال زرياب وغيره كانت تربة ثقافية حضارية، قادرة على الديمومة ومواجهة التدمير لقرون متتالية، إلى أن عادت ونبتت عليها شرائح متتالية من الأدباء والفلاسفة والعلماء وفي جميع المجالات، وهي التي حافظت على لغتها رغم حجم تأثير النص العربي الإسلامي، والثقافة البدوية الجاهلة، ومن بداية القرن الرابع الهجري تنامت الكتابة عند علماء الكرد وحتى عند فقهاءهم بلغتهم الأصلية، رغم طغيان الصبغة العربية والدينية عليها.
لا شك لا بد من الاستمرار بالبحث عن محتويات المكاتب والمدارس التي احتضنت يوما ما أسماء وآثار الأدباء وفلاسفة الحضارة الساسانية-الكردية التي امتدت على جغرافية متشعبة الأطراف، لإعادة بعض التاريخ إلى دروبها الصحيحة، وتنقية العديد من الصفحات المفبركة، أو كتابة ما تم حذفه. وعلى الأقل اكتشاف بعض من تلك الكنوز الفكرية التي ربما لم تطالها الحرق المتعمد أو التدمير المرافق مع العمران أو الإهمال من قبل غزاة القبائل العربية الجاهلة. ولن تحسم (إشكالية التاريخ) هذه، وستستمر عقيمة من حيث النقاشات السفسطائية، تعكس غياب الحكمة، والاستقراء المنطقي، إلى أن تتحرر من الانحياز الديني أو تسيس الإسلام، عند المؤرخين العروبيين المعاصرين، المسلمين منهم خاصة قبل الذين يثبتون حدوثها.
المصاعب جمة في هذا المجال، ومن بينها، هي أن العديد من الأدباء والفلاسفة والعلماء عندما أسلموا أو فرض عليهم الإسلام، غيروا أسمائهم، وحملوا أبنائهم أسماء عربية، وتخلى الأغلبية عن ماضيهم أو ماضي أجدادهم، علماً أن أغلبية المؤرخين العرب المسلمين كانوا من الموالي، على الأقل في القرنين الأولين من ظهور الإسلام، ويقول في هذا المؤرخ شاكر مصطفى في كتابه (التاريخ العربي والمؤرخون) الجزء الأول الصفحة(87) ” ويمكن أن نضيف هنا أن عدداً كبيرا من الأقلام التي كتبت الأبحاث التاريخية- حتى في فيما بعد الفترة الأولى- كانت من الموالي، وهؤلاء وان كانوا مسلمين إلا أنهم ليسوا من العرب…ومن أبرز هؤلاء الموالي: الأولين…شرحبيل بن سعد، وابن إسحاق، وأبو معشر السندي، ثم في التالين الواقدي وأبو عبيدة وأبو مخنف وعوانة بن الحكم والمدائني وذلك قبل أن يظهر منهم كابن قتيبة الدينوري والبلاذري وابن طيفور وأبي حنيفة الدينوري واليعقوبي والطبري “ وهؤلاء لم يكنوا للأدباء والفلاسفة وعلماء ما قبل الإسلام مكانة ولا لكتبهم قيمة مقابل النص الإلهي وسيرة الرسول والصحابة، وفقهاء المسلمين، فطمسوا مع السلطات العربية الإسلامية على مدى اكثر من ثلاثة قرون، كل ما له صلة بما قبل الإسلام من علم وفكر.
وفي هذه الفترة طغى فقط أسماء الرواة والمحدثين والفقهاء، علماً أن معظم الفقهاء أصبحوا من الموالي بعد مرور أقل من قرن من وفاة الرسول، وفي التاريخ العربي الإسلامي يمكن معرفتهم فقط تحت صفة الموالي، ونادرا ما تم معرفة أصولهم أو الشعوب التي انتموا إليها، فقط فرزوا كموالي للأشخاص أو للقبائل العربية، فعلى سبيل المثال يورد محمد بن سعد(168هـ-230هـ)وهو من أحد موالي آل عباس في كتابه (كتاب الطبقات الكبير) الجزء الثامن، الصفحة(518) تحت رقم 3556 اسم الحسن بن ثابت، “من بني تغلب من أنفسهم، وكان يعرف بابن الرُوزكار…وكان معروفا بالحديث” والروزكار اسم كردي منتشر ومعروف حتى اليوم. ويكثر أمثال ابن الروزكار في كتاب طبقات بن سعد، خاصة في نهايات الجزء الثامن والجزء التاسع. ولأسباب دينية، حصر المؤرخون المسلمون العرب والموالي، وعلى مدى القرنين الأولين بعد انتشار العرب في الأمصار، التاريخ في سيرة الرسول، والأشخاص الذين عاصروه والخلفاء، وتلتها رواية الحديث وتاريخ الغزوات، وخارج هذا الحيز لم يكن وجود للتاريخ وإن وجد مثل الأنساب وعن الشعر العربي فلم تكن بذات أهمية، فأما النحويين والفقهاء فاعتبروا غير اللغة العربية لا حاجة للمسلمين بها، استغنت عنها لغة النص الإلهي، والفقه أصبح قمة العلوم، خاصة بعد الصراع المتفاقم بين الجبريين والقدريين، وعليه تم إزالة أو ضياع تاريخ عريق للحضارات التي احتلتها القبائل العربية الجاهلة، إلى أن ظهرت شريحة من أدباء وعلماء الشعوب غير العربية لتعيد تاريخها الثقافي، وهي التي سميت بالحركة الشعوبية، كتهجم، أو كصفة دونية مثل صفة الموالي، وتنامى علم الكلام وبدأت حركة الترجمة، وخاصة من كتب فلاسفة الإغريق في البداية…
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
9/12/2016م