د. محمود عباس
لا شك، البحث في بطون الكتب التي بلغتنا، من مؤرخي المراحل الأولى من سيادة الدولة العربية الإسلامية، ومن فقهاء علم الكلام، ليست بكافية للحصول على المبتغى، ولن توصلنا إلى ما نطمح إليه، وقد أشدنا ببعض من هؤلاء المؤرخين والباحثين، وتفضل الناقد والباحث الكبير (إبراهيم محمود) بأسماء وأبحاث العديد منهم في البعض من مؤلفاته، وخاصة كتابه (الكرد في مهب التاريخ-1995، والذي أهداني إياه مع مجموعة من كتبه في عام 1999م مشكوراُ أثناء زيارتي الوحيدة له ولسوريا، وبمعية الشاعرة أفين والدة أطفالي، والأخ كوني رش) وكتاب (تقديس الشهوة-2000م) و(قراءة في النص الآفستي-2013م) ومن خلال مقالاته التي تناول فيها كتاباتي المتواضعة، والمنشورة في موقع (ولاتي ما) تحت عنوان(وعي الذات الكردية في كتابات محمود عباس)
مع كل هذا يبقى البحث في حاجة إلى عمل ميداني واسع، ولا بد من مخطط أكاديمي للتنقيب في بطون المكتبات القديمة، الموجودة ربما في المدن التاريخية المشهورة بمكتباتها التاريخية ومدارسها، والأهم تلك التي في البلدان التي لم تطالها الغزوات، كمدن الحضارة الهندية والصينية، واليونانية، ولا يستبعد أن تكون مكاتب ومدارس تلك الحضارات قد حصلت على نسخ من مؤلفات وأعمال الأدباء وفلاسفة شعوب الحضارة الساسانية، أو ربما تم التبادل بينهم في فترة سيادة العلاقات بين ملوك الحضارة الساسانية وملوك تلك الحضارات، كالتي كانت بين اليونانيين ومدرسة كنديشابور، وبينها وبين الهنود، والصين، وهناك العديد من المصادر المعروفة تذكر أنه تم التبادل بينهما في عدة مجالات، منها: العلوم والآداب، أو على الأقل بعضهم جاء على ذكر أسماء الأدباء وفلاسفة تلك الحضارات، وخلدوا بعضاً من آثارهم بين صفحات كتبهم.
فما حصل لتلك الآثار، لها خلفية سياسية دينية وقومية، (أو لنقل شعوبية لغياب المفهوم أو الحيز القومي بمعناه الجاري حالياً، رغم أن العصبية القبلية والحاضنة اللغوية كانت تفرض حضورها) تندرج ضمنها الرسائل المتبادلة بين الخليفة عمر بن الخطاب وولاته، بل وفي الخلفية الثقافية للذين حملوا الرسالة المحمدية، واستناد العديد منهم على حديث الرسول الكريم بمجرده ” نحن أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب” وحديثه الآخر كما يوردها ابن عبد البر(توفي عام 463هـ) في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) الصفحة(59) “عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (صلى) قال:” لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن، فمن كتب عني شيئاً سوى القرآن فليمحه” وهو حديث صحيح، لكن في تأويله جدال. ويقول أبن عبد البر في نفس المصدر الصفحة(61) ” أن عمر بن الخطاب (رضي) أراد أن يكتب السنة، ثم بدا له ألا يكتبها، ثم كتب في الأمصار ” من كان عنده شيء فليمحه”. ومثلها ما قيل عن علي أبن طالب(رضي) عن عبد الله بن يسار قال” سمعت علياً يخطب ” أعزم على كل من كان عنده كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حيث تتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم”. وفي نفس الصفحة (61) عن سعيد بن جبير عن أبن عباس (رضي) إنه كان ينهي عن كتابة العلم وقال: “إنما ضلًّ من كان قبلكم بالكتب” ولا شك، هذه الأحاديث لا تمنع من البحث وتقصي العلم في الإسلام، فهي قضية أخرى، وطلب العلم مصون في النص والحديث، وركز عليها جميع الصحابة وفقهاء الدين وعلماءه.
ضياع نتاج الأدباء والفلاسفة المعنيين، إحدى أكبر الجدالات بين المنفيين والمؤكدين، كالرسائل المتبادلة بين الخليفة عمر بن الخطاب وولاته، حول مصير مكتبتي الإسكندرية و(كيتسفون)المدائن وكنديشابور، وبما أن تلك الرسائل مثل جميع مراسلات تلك المرحلة الزمنية، لم تحفظ كما كانت تحفظ رسائل الإمبراطوريتين الساسانية والرومانية أو البيزنطية، والتي تندرج ضمن خانة الإهمال أو الضياع أو الإتلاف المقصود سياسيا-مذهبياً وثقافيا، مثل إتلاف الآثار الأدبية والفلسفية المكتوبة للشعوب المعنية في هذا المقال، فالاحتمالات ستفرض ذاتها، والجدال حولها ستظل بلا نهاية، وكل طرف سيستند على قناعاته وإيمانه، وطريقة ضحده أو تثبيته للأحداث.
رغم أن أعمال بعض الخلفاء تعكس حقيقة ما جرى لثقافة تلك الشعوب قبل بدء حركة الترجمة والاهتمام بالعلوم والكتب. فيقول أبن الجوزي في كتابه (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم) الجزء 13 الصفحة 220 فيما فعله الخلفاء العباسيين ومن بينهم الخليفة العباسي الثالث المهدي(127هـ-158هـ) ” وفي نصف رمضان أحرق على باب العامة صورة ماني وأربعة أعدال من كتب الزنادقة فسقط منها ذهب وفضة مما كان على المصاحف له…” ويذكر الذهبي في كتابه تاريخ الإسلام، في حوادث عن الخليفة المهدي نفسه، فيقول ” وبالغ في إتلاف الزنادقة وأحرق كتبهم لما أظهروا المعتقدات الفاسدة كابن ديصان وماني وابن المقفع وجما دمجرد…”. ويقول أبن الجوزي في حوادث سنة 420هـ وبأمر من الخليفة العباسي القادر بالله: “… نظر فيما أختزنه رستم بن علي الديلمي من الأثاث فعثر … على حول من الكتب خمسون حملاً ما خلا كتب المعتزلة والفلاسفة والروافض فإنها أحرقت تحت جذوع المصلبين…”.
ولا شك هذه الكوارث الأدبية تعكسها ثقافة القبائل العربية الجاهلية التي دمجت بشكل ما مع نهج الرسالة، والمبان في قول الإعرابي المذكور في كتاب (أبن عبد البر) نفس المصدر الصفحة(66) “حرف في تامورك خير من عشرة في كتبك”. ويضيف في نفس الصفحة قول لأبو عمر: “من ذكرنا قوله في هذا الباب فإنما ذهب في ذلك مذهب العرب، لأنهم مطبوعين على الحفظ، مخصوصين بذلك، والذين كرهوا الكتاب كابن عباس، والشعبي، وابن شهاب، والنخعي، وقتادة ومن ذهب مذهبهم، وجبل جبلتهم”. الطعن في هذا ملئت العديد من المصادر، استناداً إلى قوله تعالى، من سورة طه، الأية 51 ” عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ” وكذلك التشكيك في صحة حديث الرسول والأحاديث السابقة للخلفاء والصحابة، ومثلها من المصادر التاريخية تثبتها، إلى أصبحت ككل الأحاديث المتنازعة عليها، مندرجة ضمن جدلية الصراع المذهبي، لكن تبقى فيها ما تعكس الخلفية الثقافية التي أدت إلى تدمير المكتبات وكتب الحضارات الغازية، وبالتالي ضياع أثار الأدباء والفلاسفة وعلماء تلك الشعوب، وخير مثال على ثقافة تدمير الكتب، ما يورده أبن عبد البر في المصدر المذكور سابقاً في الصفحة(63) عن أبي بردة قال:” كان أبو موسى يحدثنا بأحاديث فقمنا لنكتبها. فقال: أتكتبون ما سمعتم مني؟ قلنا: نعم قال: فجيئوني به، فدعا بماءِ فغسله. وقال: احفظوا عنا كما حفظنا”.
كانت تلك هي الثقافة السائدة عند العرب قبل الإسلام، والدين الجديد لم تشذبه، وكانت مستفحلة بين الشريحة الأولى من المجتمع العربي وفي قريش أو المقربين اليهم، والتي قادت الغزوات العربية الإسلامية، والعامة والقبائل الأخرى البدوية كانت أكثر نفورا منهم ومن الكتب والمنسوخ، وتتبعهم بمطلقه وبالنقل ودون نقاش، ولا ننسى أن هذا كان موقفهم ورأيهم في المنسوخ بلغتهم العربية المفهومة، وجلها تبحث في الفقه والحديث وتفسير الدين الجديد، وفي بداية انتشار الإسلام، فلا شك أنها كانت كارثية بالنسبة للغات الأجنبية غير المفهومة، لغة المجوس والكفار، والكتب المتضمنة مفاهيم الكفر والزندقة والمنافية للدين الإسلامي. ورغم ذلك، يمكننا أن نعرضه على أنه جدال سفسطائي، بين المنفيين للحقيقة والمؤكدين، فمعظمه يستند على التحزب للإسلام، دون الفصل بين دور قادتها وثقافتهم، وبين ترسيخ الإيمان بالنقل أو العقل، والتي لا علاقة لها بالنسخ والكتب، فحتى ولو أقحم في هذه الجدلية الثقافية والمجازيات اللغوية، والتلاعب بالتاريخ المفبرك أصلا، مقابل الأخر الذي لا يزال يريد إعادة الاعتبار للشعوب المغلوبة على أمرها، ديناً وقومية وثقافة، إلا أنه يعد من أحد القضايا الأكثر (إشكالية في التاريخ) عند البحث في الآثار الأدبية والعلمية للحضارات التي تم غزوها وتدميرها من قبل القبائل العربية الإسلامية الجاهلية.
ومن وجهة نظر الرافضين للحدث فإن ما جرى لمكتبتي الإسكندرية والمدائن المشهورتين خير مثال على ما نحن بصدده (سنتناسى وفي هذه العجالة مدينتي دمشق، والقدس أول القبلتين، وما كانا فيهما من آثار أدبية وفكرية وعلمية بـ (لغة المسيح) واللغة الأفستية (لغة زرادشت) والبهلوية (لغة الحضارة الساسانية) والهيروغليفية (لغة الفراعنة) ولغة الأقباط، ولغات الشعوب الحضارية المجاورة كاليونانية، والهيلينية اليونانية-الرومانية، والهندية وغيرها، والجامعة فيها نتاج وآثار أدباءهم وفلاسفتهم والفلاسفة اليونانيين، الذين آثارهم تملأ مكاتب العالم.
ونحن في هذه العجالة نكتفي بكتابة حلقات، وندرك بأنها لن تعطي الإشكالية التاريخية هذه حقها، فهو عمل على مستوى أكاديميات ومراكز أبحاث استراتيجية، ويحتاج إلى إصدار مجلدات، فتاريخ ومحتويات المكتبتين المذكورتين (الإسكندرية وكيتسفون-المدائن) الواردة اسميهما في جميع المصادر التاريخية المختصة بهذا الحيز الثقافي، واللتين وجودهما وتدميرهما وضياع الأثار الأدبية فيهما، أصبحت جدلية للصراع حتى بين بعض الفرق الإسلامية ذاتها، فتاريخهم لوحده، ستزيل الغطاء عن الكثير المتعلق ببقية المراكز الأدبية والعلمية والفلسفية لشعوب الحضارة الساسانية على الأقل الأكثر تضرراً من حملات الغزو العربي الإسلامي. بعض المسلمين يبررونها، بناءً على أنه كان تكريم من الخليفة عمر بن الخطاب للنص الإلهي، وآخرون ينفون دور القبائل العربية في التدمير. وتبقى القضية مثارة، مطعونة فيهما أم لا؟ كالطعن في حقيقة رسالته لواليه سعد أبن أبي وقاص حول مكتبة المدائن، “أن اطرحوها في الماء. فإن يكن ما فيها هدي فقد هدانا الله بأهدي منه وإن يكن ما فيها ضلالاً فقد كفانا الله” ومثلها إلى واليه عمر بن العاص حول مكتبة الإسكندرية. فالفرق التي تنفيها بمطلقه وتحت حجج تاريخية، لهم فيها مداخل ومخارج.
وبدراسة سريعة للمثالين، يمكن أن نستقرأ على أساسها مصير مكاتب المدن الأخرى في جغرافية كردستان الحالية…
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
9/12/2016م