هل سيكون أحفادنا بخير؟

د. آلان كيكاني
لم نعش حياتنا كما ينبغي، لا نحن ولا آباؤنا. وكما تنذر الوقائع على الأرض، فإن أبناءنا هم الآخرون سوف لن يكونوا بأسعد منا ومن آبائنا، إذ لا يبدو المستقبل القريب ينتظرهم في فسحة من الهناء والرخاء، بل كل ما يمكن للعاقل أن يتنبأ به في الآتي المنظور هو المزيد من الخراب والدمار، والمزيد من سفك الدماء وقتل الإنسان في دواخل أبنائنا وتحويلهم إلى وحوش بشرية مشحونة قومياً أو دينياً أو طائفياً والزج بهم في حروب قذرة لا تبقي ولا تذر. 
لكن ماذا عن أحفادنا؟
كثيراً ما يعقب العقلُ الحماقةَ، وتتولد الحكمة من التجربة المريرة، وغالباً ما يأتي السلم والوئام والـتآلف بعد الصراعات الداخلية والحروب الأهلية في الدول. وقد كان أحد الرجال ممن أعرفهم يمتنع عن التدخل بين أبنائه حين ينشب  صراع بينهم، بل كان يجلس مستمتعاً بمراقبتهم وهم يتشاتمون ويتضاربون ويتراكلون، وإذا سأله أحدٌ لماذا لا يصلح ذات بينهم يكون جوابه: ” دعهم يتقاتلوا حتى ينال منهم التعب ويكفوا عن القتال ويجنحوا إلى السلم من أنفسهم، فإن الصراع بحد ذاته درسٌ مهم في الحياة يعلمهم أن لا طائل وراء العنف ولا فائدة ترتجى منه، وأن العنف لا يجلب سوى الكوارث والويلات، وعليه لا بد من العقل، وهو وحده سر الحياة الهانئة الكريمة “.
في الغالب نتناسى أن لكل ولادة مخاض. وأن المخاض العسير غالباً ما تعقبه ولادة مهمة. ولا أود هنا أن أكون كلاسيكياً في دعم فكرتي وأقول ما يقوله المغالون في التفاؤل أن الضيق يعقبه الفرج، وأن النفق المظلم سرعان ما ينتهي بمخرج يفضي إلى النور والحرية، بل أود أن أورد شواهد تاريخية حصلت لأمم وشعوب كثيرة قبلنا ومن خلالها نستطيع أن نبرهن أن ضريبة الحضارة لا بد وأن ندفعها إذا كنا بالفعل ننشد حضارة. وخير شاهد يحضرني من التاريخ هنا هو ما حصل في أوروبا في عهود الظلام والانحطاط، إذ كانت هذه القارة ترزح تحت ظلام دامس من الجهل والتخلف والصراع الطائفي المرير بين البروتستانت والكاثوليك الذي أودى بحياة عشرات الملايين من الأبرياء في مجازر تقشعر لها الأبدان، ويكفي أن نشير هنا إلى أن حرب الثلاثين عاماً الدينية  التي اشتعلت عام 1618  قضت على نصف سكان ألمانيا وحدها. وقد أنشأت في تلك الحقبة المظلمة محاكم التفتيش بقصد محاربة العقل وملاحقة كل من يفكر خارج إطار الكنيسة واتهامه بالهرطقة والإلحاد ومن ثم اقتياده إلى المذابح أو المشانق أو الأفران وقتله إما ذبحاً أو شنقاً أو حرقاً حتى ليخال للمرء أن مظاهر العنف والوحشية التي تسود في عالمنا الشرقي في هذه الأيام ما هي إلا نقطة من بحر الوحشية التي سادت في أوروبا في عصور ظلامها. لكن لا الظلام ولا النور يدومان إلى ما لا نهاية، وكلاهما ما إن يصل إلى أوجه حتى يبدأ بالإنحدار باتجاه ضده، فمن رحم الظلام في أوروبا انبثقت شمس المعرفة وأشرق نور العلم الذي أنار العالم بأسره.
ربما كانت الوسيلة المثلى لتصحيح مبنىً أُنشئ على أُسسٍ هندسيةٍ خاطئة وبدأ بالتهاوي، هي نسفه من أساسه ومن ثم تشييده من جديد بصورة أكثر متانة وجمالاً وبهاءً. وقد مرَّ عليّ في كتب التاريخ أن القيصر الروماني المعروف نيرون لم يأمر بحرق روما حباً في الإجرام، وإنما أملاً في إعادة بنائها من جديد بصورة تروق له.
يقول الفيلسوف الألماني هيغل: 
” إن مجرى التاريخ الكوني بحد ذاته أمر عقلاني ” 
وإذا سأل سائل هيغل : وهل المجازر والجرائم والفظائع التي تحصل في التاريخ على شيء من العقلانية؟ فإن جوابه يكون:
” نعم! كل ما يجري له ضرورته المسجلة في أحشاء التاريخ، فلولا الحروب الاهلية التي اكتسحت أوروبا وطحنتها طحناً، لما شعر الناس بالحاجة إلى توليد فكر جديد ولا إلى نظام جديد. ولولا الظلامية ومحاكم التفتيش، لما كان التنوير “
وعليه أرى أن الكوارث والمصائب والمآسي التي تلم بنا وتفنينا وتحرمنا من الحياة الحرة الكريمة هذه الأيام ورغم بشاعتها ما هي إلا ضرورة تاريخية ومقدمة لحياة جميلة سيعيشها أحفادنا. 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف تعود سوريا اليوم إلى واجهة الصراعات الإقليمية والدولية كأرض مستباحة وميدان لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى والإقليمية. هذه الصراعات لم تقتصر على الخارج فقط، بل امتدت داخليًا حيث تتشابك المصالح والأجندات للفصائل العسكرية التي أسستها أطراف مختلفة، وأخرى تعمل كأذرع لدول مثل تركيا، التي أسست مجموعات كان هدفها الأساسي مواجهة وجود الشعب الكردي، خارج حدود تركيا،…

روني آل خليل   إن الواقع السوري المعقد الذي أفرزته سنوات الحرب والصراعات الداخلية أظهر بشكل جلي أن هناك إشكاليات بنيوية عميقة في التركيبة الاجتماعية والسياسية للبلاد. سوريا ليست مجرد دولة ذات حدود جغرافية مرسومة؛ بل هي نسيج متشابك من الهويات القومية والدينية والطائفية. هذا التنوع الذي كان يُفترض أن يكون مصدر قوة، تحوّل للأسف إلى وقود للصراع بسبب…

خالد حسو الواقع الجميل الذي نفتخر به جميعًا هو أن سوريا تشكّلت وتطوّرت عبر تاريخها بأيدٍ مشتركة ومساهمات متنوعة، لتصبح أشبه ببستان يزدهر بألوانه وأريجه. هذه الأرض جمعت الكرد والعرب والدروز والعلويين والإسماعيليين والمسيحيين والأيزيديين والآشوريين والسريان وغيرهم، ليبنوا معًا وطنًا غنيًا بتنوعه الثقافي والديني والإنساني. الحفاظ على هذا الإرث يتطلب من العقلاء والأوفياء تعزيز المساواة الحقيقية وصون كرامة…

إلى أبناء شعبنا الكُردي وجميع السوريين الأحرار، والقوى الوطنية والديمقراطية في الداخل والخارج، من منطلق مسؤولياتنا تجاه شعبنا الكُردي، وفي ظل التحولات التي تشهدها سوريا على كافة الأصعدة، نعلن بكل فخر عن تحولنا من إطار المجتمع المدني إلى إطار سياسي تحت اسم “التجمع الوطني لبناء عفرين”. لقد عملنا سابقاً ضمن المجتمع المدني لدعم صمود أهلنا في وجه المعاناة الإنسانية والاجتماعية…