وعي الذات الكُردية في كتابات محمود عباس.. حلقة 7- عرب مسلمون أم مسلمون عرب ؟

 ابراهيم محمود
” بُغْضُ جنس العرب ومعاداتهم كفر أو سبب لكفر (لأن منهم رسول الله (ص) وعامة أصحابه)، ومقتضاه أنهم أفضل من غيرهم وأن محبتهم سبب قوة الإيمان “
شيخ الإسلام ابن تيمية
ليس من لوم على العربي إن تباهى بماضيه” العربي- الإسلامي ” إلى درجة الإنتشاء، فلولاه- ربما- كان شبيه شعوب أو أمم كثيرة في وضع الانقراض، أو شِتاتية، والمشكل يبدأ من هنا وهو أن الفضل الأعظمي للإسلام عليه: أنساه أمرين، عدم الإخلاص لفضل ما كان ليكون أكثر اتزاناً، والتعدّي على الآخرين، حتى أقرب المقربين إليه باحتوائه، واعتبار ذلك امتيازاً له .
نعم، ثمة فرق كبير بين انعطافة تاريخ، لها منحى أسطوري، يجد شعب ما نفسه محط أنظار الآخرين، فيبقي نفسه في التاريخ، ومن يسعى عبرها إلى تجاهل درس التاريخ، بتجريد من تمكَّن من التحكُّم فيهم وفرض نظامه الثقافي والسياسي واللغوي والقيمي عليهم، وكأنهم دون تاريخ يُذكَر، وأنه بالطريقة هذه يغفل عن حكمة التاريخ، إذ لا يعود كائنَ التاريخ الفعلي.
ولعل العرب فيما تهيأ لهم عبر الإسلام من حيث الفرصة التاريخية، بأن يلملموا شتاتهم، وينتقلوا من عالم الصحراء المميتة إلى عالم المدينة، والدخول في حاضرة التاريخ، لم يحسنوا الاستفادة من المكابدة الصحراوية وثقافتها بأن يهذّبوا أنفسهم، ويفلتروا قواها ” الوحشية ” بالمفهوم الخلدونية، بقدر ما احتموا بالصحراء، ومارسوا خلطاً، وإلى يومنا هذا بين التنعم بما توافر لهم، والاستهانة بما كان، وقد أحالوا إليهم أراض لم يحلموا بها وحمَّلوها إمضاءتهم التملكية، وشعوباً أفقدوها تمايزاتها في كل ما يعنيها، فيكون لدينا هذا البعد المفارقاتي الرهيب: العرب هم الذين شكلوا جيش الإسلام، وحملوا رايته، وهم أصل الإسلام، والإسلام محال على العرب، وهذا الخلط هو الذي أفقدهم السير في طريق التاريخ، والتوجه إلى أنفسهم، ورؤية المفارقات.
إلى درجة أنهم حوَّلوا الغزو” التقليد المتَّبع ” فيما بينهم، داخلياً، وربما كان له مبرّر تاريخي: سياسي، اقتصادي وثقافي، إلى الآخرين، وقد لملموا شُعثَهم، وأنزلوا وحشيتهم في أولئك الذين عرَّضوا لغزو تحت راية الإسلام، مع طي المفردة وإبدالها بأخرى مثاب عليها وباسمهم هذه المرة ” الفتح “، إنما دون أن يحرّرهم ” الغزو- الفتح ” من جاهلياتهم المتبادلة حتى الراهن، وما في ذلك من ابتلائهم بهذا ” الداء المزمن “، وابتلاء الآخرين، إلى ما وراء المنظور دينياً !
إن أكثر من مثّل هذه ” الإيديولوجيا ” المشدَّد عليها في هذا السياق، والتزم بها العرب ممن جعلوا الإسلام دينهم، والإسلام مفهوماً عربياً، على مر التاريخ، وحتى الذين خضعوا لحكمهم السيادي الصارم هذا، أو أخضعوهم، أو وجدوا أنفسهم داخل ” حظيرة ” هذا النظام، هو الشافعي ” ت204هـ/ 820 م “، وكتابُه ” الرسالة “، كما هو محتواها، جليُّ الأبعاد بتوجهه.
أليس هو من قال في كتابه هذا” النسخة الالكترونية، ص 13 “: ( ” ولسان العرب : أوسع الألسنة مذهباً وأكثرها ألفاظاً ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها حتى لا يكون موجوداً فيها من يعرفه…)؟
صاحب الرسالة خرّيج مضارب البدو الصحراوية، وليس مشارب المدينة المستقرة مقارنةً !
كما لو أن شافعيَّنا كان عالماً بلغات العالم كافة، ليصرّح بقول خطير كهذا، سوى أنه، كما يظهر، يستند إلى النص القرآني، وكونه بلسان عربي” مبين “، وكأن تلك الإمضاءة التي تجيز له ما انطلق منه، وبناء عليه أحال العالم المعلوم والمجهول إلى ” ملكيّة ” عربية مستثناة، وما في ذلك من تأثر غير مسمَّى بمقولة ” شعب الله التوراتية “. أو كان الشافعي توراتي التأثر؟
ذلك يتطلب بحثاً آخر، في إطار تعامل العرب مع اليهود واليهودية على أصعدة مختلفة !
وربما كان الكرد أكثر الشعوب التي انخرطت في هذه ” اللعبة “، وكانوا اليد الضاربة تاريخياً على المستوى العقيدي/ المذهبي” مع الأيوبيين، بجلاء “، في ” شفعنة ” الكرد والآخرين، وعلينا ألا ننسى ما يكون عليه تصريف شيخ الإسلام الكردي: ابن تيمية، في ” بعث ” الشافعي وتبعيثه، بالمفهوم السلفي المستجيب لحيثيات العروبة وهي محمَّلة بدمغة ” الجَّمَل” للتمايز !
وأحسب أن باحثنا عباس، على طريقة ” عرب اليوم ” إجمالاً، حين يذهبون من الحاضر إلى الماضي، ليشحنوا أنفسهم بما عرِفوا به ذات يوم” في العصر الأموي، خصوصاً “، وليثبتوا للآخرين أنهم ما زالوا كما كانوا، وما في ذلك من غواية إيديولوجيا مثيرة للسخرية، وبالطريقة هذه، وعلى النقيض تماماً، يتحرك قلم عباس إلى الماضي، ليس لتأكيد ما يؤكده العرب كما تقدَّم، وإنما بالعكس، للتشديد، على أن ما هُم عليه حاضراً، لا ينفصل عن جملة السياسات التي كانت تطبَّق بالمفهوم ” التعصبي “: العنصري، إزاء ليس الآخرين حصراً فحسب، وإنما في تقييمهم لأنفسهم، وأن عدم اهتدائهم إلى جادة صواب التاريخ، والاعتراف بحقيقة التاريخ المرّة، له صلة ببنية التراكمات الثقيلة الوطء، ليبقوا في تاريخ محدد، واعتبار كل ما يمارسونه صواباً.
ولعله، حتى وهو يسترسل في الكتابة، كما نوهت إلى ذلك أكثر من مرة، يفصح عن قراءة ضمنية، وإن لم يسمّ مصدراً، وفي موقفه من هذا الجانب، يحدد على أنه ليس خصماً لا للإسلام كدين ولا للعرب كشعب، ولا للعربية كلغة، وإنما في مواجهة المواقف التي تعدِم الآخر: مفهوماً وموقعاً وكينونة ذات وهوية، وحين يُحوَّل بالإسلام إلى ” جمل طروادة ” لا حصانه، والعرب يجدون في أنفسهم ما هو مباح لهم من تعال ٍعلى الآخرين، وتأليه العربية أو تقديسها، إلى جانب ذلك التعاطف، لا بل والتجاوب كثيراً مع أكثر الحركات المسمّاة ” جهادية “، وهي إرهابية: داعش، وخصوصاً أكثر تجاه الكرد، لعله من هذا المنطلق يمرّر خطاباً، ويؤكّد سلوكاً.
 إن ملاحظتي الرئيسة على ما تناوله من موضوعات هنا، هو جانب التكرار، أو إعادة الفكرة الواحدة، في سلسلة أجزاء موضوعه، وما ينمُّ عنه هذا التكرار من تأثر نفسي، وهو يترجم بدوره وضعية السخط إلى درجة التوتر في الكتابة، حيث يختلط الإنشائي/ العاطفي بالجدّي .
نجد ما أشرنا إليه في مقاله ” من الإسلام إلى التعريب ج1:11-9/2015 “( غاية البحث ليس الانتقاص من اللغة العربية ولا مهاجمة الشعب العربي، بل الهدف هو تبيان التشوهات التي سايرت المسيرة التاريخية والتي خلقت على أثرها صرعات دموية متتالية، منذ ظهور الإسلام العروبي السياسي، ومثلها الواقع المأزوم الجاري في المنطقة…).
وما يشرح أو يضيء معالم هذه الفكرة ( فمنذ بداية الغزوات، ركبت معظم القبائل العربية العقيدة ولم يحملوها، واستخدموها مطية لغايات ذاتية، كالخلاص من الفقر وعوز الصحراء، لهذا لم تولج الإسلام إلى أدمغة العامة كعقيدة لرفع قيمة الإنسان، بل كثيرا ما أستخدم بدروب لتدميره، فلم تنتهي الحروب الأهلية من المنطقة منذ حينها، لأن الأعراب وثقافة العصبية القبلية ومفاهيم العنف والسبي والغزو للكسب المادي في الإسلام غطت على مفاهيم الرحمة فيه .) .
وفي العودة، ولو من باب التأكيد هذه المرة، في ” ج2: 13-9/ 2015 “( وعلى بنية هذه الحقائق، تظهر أن نشر الإسلام كانت تغطية لغايات أوسع وأعمق تكالبت عليها القبائل العربية تحت غطاء الدين الذي لم يقدم فكرا بقدر ما قدم مفهوم الجهاد من أجل كسب المال والنهب والاغتناء من ورائها..).
 سوى أنه يظهر ما استجد في الحالة هذه، في ”  ج3: 17-9/2015 ” ( استطاعت بعض الشعوب المستعمرة، وبعد قرون، التحرر وعودة قادتهم لسيادة أوطانهم. كالفرس الذين تبنوا المذهب الشيعي، فسخروه بعد أن أنموه ووسعوا فيه لغاياتهم القومية، ومثلهم فعلها أغلب الدول التي كانت سابقا تابعة للإمبراطورية الفارسية كخرسان وما ورائها. وفي الطرف الآخر تمكن الأتراك من بناء إمارات شبه مستقلة إلى أن بلغوا السيادة، بل وسادوا على القبائل العربية والإسلامية ولقرون من الزمن. وشعوب أخرى حافظت على ماهيتها لكنها لم تتمكن من التخلص من عبئ الاستعمار الجغرافي والديموغرافي والثقافي العربي، كالكرد والأمازيغ والقبط والنوبيون، وخسروا الكثير من ديمغرافيتهم لصالح العرب الذين استوطنوا، والبعض من الشعوب المستعمرة خسروا ذاتهم ديمغرافيا وثقافيا، ومنهم من ذابوا مع القبائل العربية واندمجوا في قوميتهم بسبب التأثير الديني واللغة، مثل جميع شعوب سوريا الكبرى، والذين لم يبقى منهم سوى مجموعات قليلة حافظت على دينها دون القومية، وهم الأن أكثر تعصبا للعروبة من العرب الأصليين، وعلى أثرها تغيرت وجه سوريا الكبرى الحقيقي، وشمال أفريقيا، وهما في بعدهما التاريخي لا ينتميان إلى العروبة بشيء.”.
إنه مقبوس طويل نسبياً، ولكنه جدير بالقراءة، وكيف تحوَّل الدين إلى عصا غليظة، والنص الديني إلى قوة احتوائية وتأديبية، والدعوة وقد فجَّرت حروباً، إلى جانب الاجتهادات، والمواجهات، والتفرقات بين من دخلوا الإسلام اضطراراً، ومن دخلوه طواعية، وهذه النقطة بحد ذاتها لا تمرَّر بعيداً عن حسابات التاريخ وما كانته قائمة الظروف ليحدث ما يحدث، ليبز عدد الداخلين في الإسلام العرب أنفسهم، وقد حمّلوا أسماء عربية، وأنساباً عربية.
وليعاد القول ولو من باب التأكيد المضاعف في ” ج4: 20-9/ 2015 “( تحت سيادة القتل وبعباءة الرهبة الإلهية، توسعت الخلافة الأموية على مساحة جغرافية واسعة، وإلى أن قضيت عليها، لم ترفع صرحا حضاريا واحدا، ولم يدرك قادتها مفاهيم الدولة المدنية رغم احتلالهم لها، وكانت غائبة لسابقيهم من الخلفاء الراشدين).
وما جرَّه هذا الإكراه على تجريد الآخرين من هويتهم البيئية والثقافية والتالريخية من ويلات، لا يظنن أحد أن ما يعاش اليوم بمفارق لما كان.
وهو في عودة شارحة لما تقدم في ” ج5: 24-9/ 2015 ” ( شعوب سوريا الكبرى وشمال أفريقيا، أصحاب الحضارات العديدة والمعروفة لكل مؤرخ أو مطلع على التاريخ، لم تعرف مدنهم العنصر العربي، قبل مرحلة الاجتياح، إلا تاجراً عرضياً، دخلوها عند الاجتياح العربي-الإسلام كجيوش غازية.).
ولعله في عملية الربط بما يجري الآن، يلفت إلى فطنة تاريخية ومعرفية، أو ذكاء عملي ، في ” ج6: 2- 10/ 2015 ” ( من المؤسف أن قسم واسع من المعارضة السورية، تطالب بإعادة تطبيق النهج الثقافي العروبي، تحت غطاء الثورة، رغم كل الأهوال، والنداءات الوطنية، ضمنها شريحة واسعة تمثل خلفية الفكر الاستعماري الإسلامي-العروبي..)، وحتى في ” ج7: 5-10/ 2015 ” ( وما يجري الأن من إلغاء الآخر، وابتذال الشعوب، تحت غطاء الوطنية، طفرة جديدة، تنميها القوى العروبية الإسلامية، وهو الوجه العصري لإعادة تركيب المخلفات الثقافية والسياسية المتراكمة من استعمار القبائل العربية الجاهلية الغازية تحت غطاء الجهاد في سبيل الإسلام.).
ولا أخفي حماسي لتقديم مقاله ذي الأجزاء بالمقابل ” الإسلام دين العرب “، ولو أنه يتحرك لصْق تخوم سالفه، إذ إن الحركة التي تنتقل بالإسلام إلى التعريب، هي ذاتها التي تتضمن خاصية التعريب التي استولِد بها الإسلام، وأن ذلك من شأنه إحالة الإسلام كدين إلى العرب، كما هو مؤكد في أمكنة كثيرة، وفي ذلك يكتب عباس.
في ” ج1: 17-12/ 2015 ”  يقول متسائلاً، ذلك التساؤل المقلق طبعاً( دين ظهر للعرب وحدهم، أم للبشرية جمعاء؟ سؤال بحث فيه العديد من الكتاب والمفكرين. بناءً على مبدأ الإسلام ذاته، والراسخ بأن الله أرسل لكل قوم نبياً من ملتهم، فمحمداً كان من أوسط القبائل العربية، قاد الإسلام وغزواته وسيطر عليه قادة العرب الجاهليين، نفسهم الذين كانوا قادة قريش في الجاهلية، ونادرا ما ظهر بينهم من العامة، أو من بؤساء القبائل العربية الجاهلية أو من قريش، وسجالات سقيفة بني ساعدة تؤكد على هذه الحقيقة، كما ولم يبرز أحد من الموالي إلا في نهايات العصر العباسي، وهذه لها خلفيات سياسية عميقة. ).
وهو إذ يتعقب خطوط تحركات الإسلام عربياً، وتبعاً لما تحقق عملياً، وبالنسبة للعرب قبل سواهم، فإنما لا ينسى أن ينوّه إلى ما هو تاريخي، في “ج2″ 21-12/ 2015 ” بقوله ( لاشك كان الإسلام ثورة بأبعاده الزمنية والفكرية في شبه الجزيرة العربية، بعكس الشعوب الأخرى التي دخلت الإسلام إما رغبة أو عنفا، ودون أن تفهم القرآن واللغة العربية، وأرضخت عنوة لتتبع السلطة السياسية الإسلامية القريشية أو العروبية، وفرزوا كموالي على مدى قرون من الزمن..).
ومن ثم ليعرّي واقعة تاريخية من خلال مستمسكات التاريخ ، في ” ج3: 4-1/ 2016 ” بقوله عن أن ( الإسلام في مجمله، أو في جزئه العنفي، التجسيدي دين نبع من ثقافة القبائل العربية وبني عليها، ورسخت تلك الثقافة ونشرتها بين الشعوب تحت غطائه، واللغة جسر ينقل عبرها وعلى متنها ثقافة وعادات وتقاليد شعب ما إلى الآخرين)، وما ينوّه إلى ذلك آخر، ولو بنوع من الاستعادة الأخرى، في ” ج4:5-1/ 2016 ” ( لا يمكن فصل الإسلام عن اللغة وعادات وتقاليد القبائل العربية، والعديد من معتقداتهم الدينية الجاهلية، لهذا يفرض على كل مجلس إسلامي أو فقيه ديني أن يكون عالما بتقاليد العرب ولغتهم وثقافاتهم القديمة وتاريخهم وعباداتهم السابقة، أي أن يتعرب.)…الخ.
هذا يصلنا بمجريات أحداث التاريخ، ووضع العرب اليوم، وكيف يفتخرون بالإسلام من خلال ما كانوا يتميزون به، وأفضاله عن الآخرين، دون إشارة رسمية، إلى عملية الاحتواء المتعددة الأبعاد لهم حضور هوية، ومكاناً وثقافة.
ولا شك أن أكثر الأحزاب ارتباطاً بالقومية ” العروبية “، أي البعث، هو من يساوم على هذا الماضي، والدين بالطريقة التي تشده إلى مبشّر دعوي، تعظيماً للحاضر رغم فظائعه، وبغية الخروج من الحضيض التاريخي الذي حل فيه ممثلو العرب.
أليس هذا ما ذهب إليه ” القائد المؤسس “: ميشيل عفلق، في ” البعث والتراث- 1976″ مثلاً،أي في أوج التعالي الإيديولوجي البعثي، وادعاء تمثيل عروبة الأمة، كحرب البعث العراقي على الكرد في العراق، ومن تضامنوا معه من العرب خارجاً، ليكون لدينا شافعي آخر، مع فارق المكانة طبعاً ( حرية الأمة العربية تحرير للعالم والإنسانية، واشتراكية الأمة العربية تحرير للاشتراكية من سجن التبعية وفقر القالب الواحد، وإخصاب لها بخصائص الشعوب المتنوعة وإرواء لها من معين الواقع الحي.ص 119 ).
تُرى، عن أي واقع يتحدث، منظّر البعث المتأسلم هذا، وإلى أي غنىً يشير ؟ 
كما هو حال نظيره العقائدي الآخر، وفي موقع بعثي مختلف مذهبياً: زكي الأرسوزي، كما في ” رسالة البعث العربي1- العبقرية العربية في لسانها، دار اليقظة العربية، دمشق”، وهذا العبارات تفي بالمشار إليه ( دراسة قواعد اللسان العربي تكشف عن تكوين العقل البشري، وعن وجهة نظر الحياة في الكائنات.ص 11- إن أسطورة آدم ” خلق الله آدم من تراب فجعله على صورته ونفخ فيه من روحه ” عبرت بها الأمة العربية عن نظرتها في الوجود، تكمل هذه الصورة الشعرية، وتشير إلى رسالة هذه الأمة في التاريخ.ص 13…لم تختلف الأمة العربية عن سواها بنشأتها السماوية وبنيانها الخالد فحسب وإنما امنتازت على الخصوص بذهنيتها المنبعثة عن تلك النشأة، وبمفاهيمها الإنسانية ذات الصلة بهذه الذهنية.ص 218.. إن الكلمات التي تزينت بها الأمم الإسلامية، تشهد على تفوق هذه الثقافة وفضلها على الناس جميعاً.ص 223..في النهاية: إن الأمة العربية لم تكن شهاباً خطف البصر بسرعة، ولكنها منارة يتموج شفقها، تموج الحياة التي عبرت عنها.ص 224.).
وفي حال منظّر ومثقف بعثي صدامي آخر، هو الشاعر العراقي  حميد سعيد، في ” التراث والثورة- 1983″، في توحيده بين الإسلام والعروبة وتحت راية صدَّامية ” ص26 “…الخ.
وبمفهوم أوسع لهذا التوجه العروبي الذي يحيل إليه الإسلام، وباسم العروبة في حميّاتها الأحدث طبعاً، وتحديداً في النصف الثاني من القرن العشرين، كانت الدعوة إلى لزوم إعادة كتابة التاريخ العربي من جديد، وهي تعني في الجوهر” تأكيد الماضي العروبي لما هو إسلامي، واعتبار المسلم جلي الاعتبار بفضيلة عربية “، وهو ما يمكن تبينه في دائرة واسعة من الاهتمامات، من التوجه القومي العربي في الجوهر” جواد علي “، إلى الماركسي المعرب ” الطيب تيزيني “، والتوجه الإسلامي ” رضوان السيد “، فالتوجه الإسلامي العصبوي المعرَّب ” محمد عابد الجابري، علي أومليل، أبو يعرب المرزوقي “، فالتوجه الإسلامي الأصولي” طه عبدالرحمن”، إلى التوجه الحداثي العروبي” مطاع صفدي “، فالتوجه الحداثي ” هشام جعيّط “، وما بعد الحداثي” فتحي المسكيني “….الخ.
ولا شك أن الإيديولوجيا الأصولية المتشددة تلتقي في نقطة واحدة، بغضّ النظر عن لغاتها، ومذاهبها، وهي أنها تتنكر لحقيقة كونها وجِدت في زمان ومكان معلومين، وهي بالطريقة هذه تعدِم حقيقة كونها تاريخية، وأن مستجدات التاريخ هي التي تضمن ” إيجاد ” دواء ناجع لعلتها: هزيمتها، وهو تنكُّر يمثُّل نتيجة منطقية لتجاهلها لحقيقتها وحدودها النسبية لحماً ودماً وفكراً !
أو لم تكن الكمالية من حيث التبني الإيديولوجي الصارم والفتاك أخلاقياً، معتمدةً على توجه من هذا النوع؟ في اعتبار نفسها شمساً تشرق على الإنسانية جمعاء، وكذلك الحال مع الفارسية وسياسة التفريس، ليكون لدينا هذا الثالوث اللامقدس: التعريب- التتريك- التفريس “، وأن هستيريا الدعوية المستفحلة لما تزل تشد على بقاء أو استمرار هذه ” العدوى “.
هذا يعني أن العرب نسوا أنفسهم إذ لم يحسنوا اكتشاف هويتهم المتميزة عن الآخرين، ونسوا الآخرين، إذ نسوا التعرف إلى حقيقتهم، ومن أين انطلقوا، وإلى أين يمضي بهم هذا الخراب، وأنهم على عداء من معرفة النفس حتى اللحظة، وفيهم، ومن حولهم هذه التنظيمات التكفيرية والإرهابية، ولا يمتلكون في غالبهم الحد الأدنى ، من الاعتراف بأن لهم أصولاً في ماض متسلسل، وهم داخلون فيه، وأنهم في عجزهم عن الاعتراف بهذا الخراب المستفحل، إنما يعيدون تصحير أنفسهم، بقدر ما يعيدوننا إلى عالم الصحراء وأشباح لياليها، إنما هذه المرَّة وهي تجتاح مدنهم، قصورهم المنيفة، وحتى مساجدهم التي يتردد فيها صوت: الله أكبر. وما في ذلك من استعادة للحظة طوفان نوح. هل يمكنهم التنبه إلى الخراب المستطير قبل فوات الأوان ؟
دهوك، في 2-3/ 2017 
حلقة 11- عن الكرد وأدبائهم قبل الإسلام 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس   إن حملة وحماة القومية النيرة والمبنية على المفاهيم الحضارية والتنويرية لا يمكن أن يكونوا دعاة إلغاء الآخر أو كراهيته. على العكس، فإن القومية المتناغمة مع مبادئ التنوير تتجسد في احترام التنوع والتعددية، وفي تبني سياسات تعزز حقوق الإنسان والمساواة. ما أشرت (هذا المقال هو بمثابة حوار ورد على ما أورده القارئ الكريم ‘سجاد تقي كاظم’ من…

لوركا بيراني   صرخة مسؤولية في لحظة فارقة. تمر منطقتنا بمرحلة تاريخية دقيقة ومعقدة يختلط فيها الألم الإنساني بالعجز الجماعي عن توفير حلول حقيقية لمعاناة النازحين والمهجرين قسراً من مناطقهم، وخاصة أهلنا الكورد الذين ذاقوا مرارة النزوح لمرات عدة منذ كارثة عفرين عام 2018 وحتى الأحداث الأخيرة التي طالت مناطق تل رفعت والشهباء والشيخ مقصود وغيرها. إن ما يجري…

المهندس باسل قس نصر الله ونعمٌ .. بأنني لم أقل أن كل شيء ممتاز وأن لا أحداً سيدخل حلب .. فكانوا هم أول من خَرَج ونعم .. بأنني كنتُ مستشاراً لمفتي سورية من ٢٠٠٦ حتى الغاء المنصب في عام ٢٠٢١ واستُبدل ذلك بلجان إفتاء في كل محافظة وهناك رئيس لجان افتاء لسائر المحافظات السورية. ونعم أخرى .. بأنني مسيحي وأكون…

إبراهيم اليوسف بعد الفضائح التي ارتكبها غير الطيب رجب أردوغان في احتلاله لعفرين- من أجل ديمومة كرسيه وليس لأجل مصلحة تركيا- واستعانته بقطاع طرق مرتزقة مجرمين يعيثون قتلاً وفسادًا في عفرين، حاول هذه المرة أن يعدل عن خطته السابقة. يبدو أن هناك ضوءًا أخضر من جهات دولية لتنفيذ المخطط وطرد إيران من سوريا، والإجهاز على حزب الله. لكن، وكل هذا…