كامران قره داغي
كلما طرح موضوع استقلال إقليم كردستان، علناً أو في لقاءات خاصة رسمية أو غير رسمية، أثيرت بالضرورة، الى جانب مسائل أساسية، نقطة مهمة تتلخص في كلمة واحدة: «التوقيت». أكيد أن طرح مسألة الاستقلال للنقاش او للمطالبة به أو لإعلانه يحتاج الى اختيار توقيت يأخذ في الاعتبار عوامل عدة ضرورية لطرح مشروع الاستقلال والرهان عليه. هذه العوامل يمكن اختصارها ايضاً بثلاث كلمات بات الجميع يعرفونها لكثرة تكرارها، خصوصاً من قبل الرافضين للمطالبة بالاستقلال او المتحفطين عنها على اساس أن «التوقيت» غير ملائم في هذا الظرف. العوامل الثلاثة معروفة وهي: الداخلي والاقليمي والدولي.
الجديد في مسألة الاستقلال المحتمل أنه على رغم عمر الإقليم القصير فهو تحول «شحصية معنوية»، متمتعاً بوضع معترف به دستورياً وقانونياً على صعيد العراق وبعلاقات سياسية وديبلوماسية واقتصادية وحتى عسكرية أحياناً مع دول المنطقة والعالم، ليس بصفته اقليماً عراقياً فحسب، بل مباشرة أيضاً، أي باستقلالية عن الحكومة المركزية ومن دون استئذانها. فوق ذلك لم تعد شخصيات سياسية في المنطقة والغرب، حكومية وغير حكومية وفي دول تقيم علاقات ودية مع العراق، تنأى بنفسها عن الحديث بصوت عالٍ عن حق الكرد في إقليمهم في تقرير مصيرهم والتطلع الى الاستقلال، حتى إن بعض هؤلاء يعتبرون أن استقلال الإقليم يمكن أن يلعب دوراً في الاستقرار الأمني لدول الجوار.
هذا التعامل مع الوضع الكردي في العراق يمضي أبعد من اقتراحات طرحت قبل سنوات، منها مثلاً تحويل العراق كونفيديراليات بين «مكوناته» الرئيسة الثلاثة، العرب الشيعة والعرب السنة والكرد، كحل يضمن بقاءه دولة موحدة.
ما سلف يشكل تعاطياً خارجياً غير مسبوق حيال الوضع الكردي في إطاره العراقي. يُضاف الى ذلك تطور جديد آخر يتمثل في أن ممثلي إقليم كردستان، حكومة وأحزاباً، باتوا بدورهم يتحدثون عن الاستقلال المحتمل بصوت عالٍ في إطار العلاقات والاتصالات والزيارات المتبادلة مع دول الجوار المتاخمة والأبعد، وهم يطرحون الاستقلال للبحث ويثيرون إمكان تحقيقه مشددين على أن مشروعهم يقتصر على استقلال إقليمهم ولا يطمح الى توسيعه خارج حدوده، وعلى أن استقلال الإقليم لن يسعى الى معاداة أي من دول الجوار، بل بالعكس إن الدولة المرتقبة ستحرص على مبدأ حسن الجوار ضماناً لاستقرار أمنها.
نعود الى مسألة التوقيت. يدرك دعاة استقلال الإقليم أن البيت الكردي ليس موحداً، الأمر الذي يضعف مواقفه عموماً، خصوصاً في حال التفاوض على الاستقلال مع بغداد. وهناك طبعاً مخاوف دول الجوار المباشر، التي يشكل الكرد نسباً مهمة من سكانها، من فكرة استقلال أي جزء من كردستان التي تتقاسمها هذه الدول، وغياب دعم دولي صريح لاستقلال الإقليم على رغم التعاطف مع هذا الحق المشروع في تقرير المصير. وطبعاً على صعيد الجغرافيا، فإن كردستان مغلقة لا يملك أي جزء منها منفذاً بحرياً.
لكن في المقابل تمكن الإشارة الى مستجدات وتطورات نشأت خلال السنوات القليلة الماضية على صعيد الأوضاع الراهنة في المنطقة والعالم أفرزت رؤى مختلفة في التعاطي مع حقائق في المنطقة. وهذه عناصر لم تعد ثابتة وغير قابلة للتغيير، خصوصاً في ما يتعلق بثوابت الجيوبوليتيك التي أسسها اتفاق سايكس-بيكو الذي مر العام الماضي قرن عليه، فكان مناسبة حملت كثيرين في المنطقة والعالم على اعتبار أنه آن الأوان لدفنه.
الى ذلك هناك من يرى، بين الكرد وفي دول عربية عدة، أن العراق في ظل نظامه الحالي يبتعد أكثر فأكثر عن محيطه العربي مفضلاً التحالف مع إيران التي بدورها تستخدم كل نفوذها لإبعاد حليفها العراقي عن العرب، ما يجعل هذه الدول العربية غير معنية ببقاء العراق موحداً.
والى ما سلف يشير هؤلاء وآخرون الى أن تفاقم الصراع المذهبي في المنطقة وتغير الموقف الأميركي المحابي لإيران في ظل الرئيس السابق باراك أوباما من شأنه أن يدفع الإدارة الأميركية الجديدة الى مزيد من التقارب مع إقليم كردستان، حيث لم يعد خافياً أن الوجود العسكري الأميركي فيه يكبر ويتعزز باستمرار في مواجهة «داعش»، وذلك لأسباب عدة منها لوجستي يتمثل في أن الإقليم يتاخم «الدولة الإسلامية»، ما يخفف الكلفة العالية للحملة العسكرية الأميركية وإدامتها انطلاقاً من قواعدها البعيدة في الخليج وحاملات طائراتها في الأبيض المتوسط، في ظل تقلب الموقف التركي حيال إطلاق يد الأميركيين في استخدام قاعدة انجيرلك، وهذا بينما تجد أميركا كل الترحيب من قبل حليفها الكردي على صعيدي سلطاته وشعبه. يساعد في تعزيز هذا الوجود الأميركي وفي إدامته، كما يأمل الكرد، التصعيد الحالي وتفاقمه بين واشنطن وطهران، الأمر الذي يمكن أن يصب في مصلحة الإقليم.
توقيت إعلان استقلال الإقليم هو المفتاح الذي يبقى، في النهاية وعلى رغم كل شيء، في يد الكرد أنفسهم: هل يراهنون على ما سلف فيستخدمونه مفتاحاً لفتح الباب المؤدي الى إعلان استقلال الإقليم أم لإغلاقه؟ ففي الحسابات النهائية لا يوجد وضع مثالي مريح يجعل أي استقلال من دون عواقب. هل يمكن تحقيق التوافق الكامل في البيت الكردي وحل كل الخلافات الداخلية كشرط وحيد لإعلان الاستقلال، أم يمكن تجميدها ثم تفعيلها في إطار الدولة المستقلة؟ هنا تجوز الإشارة الى أن استقلالات كثيرة، في آسيا الوسطى والقوقاز والبلطيق والبلقان وجنوب السودان وتيمور الشرقية وغيرها، لم تتحقق في ظل أوضاع مثالية، بل إنها شهدت صراعات ونزاعات داخلية حادة الى حد أن بعضها تفاقم الى حروب أهلية، كما نشأت أخرى في ما بينها، كحال اذربيجان وأرمينيا، أو بين بعضها والدولة الأم كما بين روسيا وجورجيا وبين روسيا وأوكرانيا.
ما سبق ليس هدفه التحريض على إعلان استقلال الإقليم، بل تحريض الكرد على حسم الإجابة عن السؤال: «يكون الآن أو لا يكون»، مع التنبيه الى أن ربط توقيته بتوافر «وضع مثالي» هو ضرب من العبث!
—————
المصدر: جريدة الحياة