ابراهيم محمود
1-إنها ليست ركلة الحمار
في المجتمع المقهور بأهله، ما أكثر الكتابات المزيَّفة وهي تطفو على السطح، حال الطحالب، فهي تحتاج لمذراة للتخلص منها، تجنُّباً لأي تسمُّم جسدي، والسباحة في مائها مؤذ. والرد عليها مثل من يردُّ على ركلة حمار بركلة موازية، شأن الكثير من الردود الكرديّة ِالدمغة على ما أثرْتُه في مؤلفات مختلفة لي سابقاً، خصوصاً ” وعي الذات الكردية “. لقد سبقت ظهوره، وأثناءه، وبعده، وحتى الأمس القريب جداً ركلات تلو ركلات، فلم أعرِها أي اهتمام، إذ لا أوجع من ركلة الحمار، عملاً بحكمة شهيد الفلاسفة التليد سقراط: إذا ركلك الحمار فلا تركله !
ومن المؤكد أن سقراط كان على بيّنة مما يقول، وهو محاط بكم لافت من ركلات حمير زمانه، ولهذا مات شهيدَ معرفة، مهما تردَّد عن حقيقة موته، إذ إنه يواجهنا بحقيقة رحّالة في التاريخ، وفي البيئات الجغرافية التي تتنوع بثقافاتها، ولغاتها وأعراقها، وكما يعلِمنا الاثنوغرافيون.
وإذا كان لي أن أقرّب ” كاميرا ” التاريخ، وهي بوساعتها الخاصة في الحالة هذه، فلا بد أن يكون الكرد وهم طريدو التاريخ وملفوظو الجغرافيا عنوة، أكثر المرئيين من خلالها.
ولا بد أن يعايَن في الواجهة من يتحدثون من باب تمثيلهم، وكيفية تجسيدهم لقيمهم، ووضعياتهم، وفي النطاق الاجتماعي والثقافي تحديداً، أي ما يؤكّد وظيفة المثقف المثلى هنا، فهو أول من يُسأل عنه، لمعرفة ما يدور، قبل أن ينبري السياسي، أو يتراءى ظل العسكري، وآخر من يُصغى إليه ، لأنه هو من يمتلك سلطة إنارة الحقيقة القائمة، وكما هي شهادة التاريخ.
إنما، السؤال هو أي مثقف يكون ؟ إنه ذاك الذي يمتلك قابلية التعاطي مع المستجدات بوصفه أهلاً لها، وعليه أن يكون ملءَ ” فم الحقيقة “، لا المتهرب من دوره.
يتم ذلك، عملاً بما يذهب إليك جيرار ليكلرك ، في كتابه ” سوسيولوجيا المثقفين “، وتجسيداتهم المتفاوتة: من الجدّية إلى السخرية، إلى لعب دور الأمير،فمضحك الملك ” ص 23 “، وعلي أن أضيف تجسيداً آخر وهو المتخوف منه: ماذا يحصل لو كان مثار سخرية التاريخ ” قشمراً ” كما هو المتداول في وسطنا، حينها تحضر ركلة الحمار وهي تسمّي كماً وافراً من نوعه، ولعل الذي شددت عليهم ومن هم على شاكلتهم، ومن تكاثروا في ظل الوضع الراهن ومنذ سنوات، يظهر الحجم الكارثي لذلك، حيث الجمع بين نهيق الحمار وركلته: لبطته، جرّاء تخاذله فيما يطلب منه.
ولِعلم من يجسّد كردياً مثل هذا التوصيف، في أمكنة مختلفة، ومن أعمار مختلفة، واللجوء إلى الصمت، أو القيام بأعمال استعراضية، لصالح هذه الجهة أو تلك، ومضاعفاً امَّعيته المخضرمة بالتأكيد، يجدر بي التأكيد، على أن محاولة الكتابة على طريقة ” وعي الذات الكردية “، تمتلك سحر الموعود بالمنتظَر، سوى أن القيمة ستكون مختلفة ودون الأولى، لهذا كان ما قمت به تجربة تاريخية لافتة، حيث ” قعقعة ” ركلات الحمير- كتابياً- لما تزل تُسمَع هنا وهناك.
أقول ذلك في ضوء حالات الخلط غير الاعتباطية التي نعيشها في المنطقة، وكردياً بشكل رئيس جرّاء وضعهم الخاص، بحيث يسهل القول بأن هناك انحسار حتى من كان شبيه المثقف سابقاً وانسحابه، أو انسكانه بالمخاوف إزاء الجاري كردياً- كردياً وتهميشه المضاعف قصداً، واستيلاد فزّاعات ” مثقفين ” ، وبصيغ شتى، إيحاء إلى أن هناك من يمارسون ما هو ثقافي، ويلازمون المسماة بـ” الحركة السياسية الكردية “، وإسكات من تُشتمُّ منه رائحة الثقافة عموماً، والنقد خصوصاً، في وضع يفتقد الأمن.
لهذا، أجدني، ومن باب تعزيز مقام خفة من لا يروَّض، أو يصَم بصدى ما تقدم ذكره، متحمساً من منظور ثقافي إلى تتبُّع وثبة نمرية، ولا صدى لصوته، وإنما لعمله. أي من يراهن على القول الفاعل والمشدود إلى الواقع، مأخوذاً بحرارة المستجدات، مهما كانت المسافة التي تفصله عن المعترَك ، لأن المعايشة الوجدانية هي المحك، ففيها تُطوى الأبعاد.
بناء عليه، تتمثل تجربة ثقافية، اجتماعية، نقدية وسياسية معاً في كتابات الباحث الكردي الدكتور محمود عباس، تجربة تتركز على كم هائل من الموضوعات التي تمثّل أرشيفاً يكاد يكون يومياً ليس للحدث السوري، كما أسمّي، أو امتحان الكرد في تاريخ مواجهة الذات ضمناً، وفي دول الجوار، وكل ما ينعطف على ما هو كردي، وفي مضمار مغاير لوعي الذات الكردية، الوعي الذي يرابط على تخوم التصادمات، والنزاعات، والرهانات ومخاضاتها.
وإذا كان من كلمة قبل الأخيرة أقولها توضيحاً لفكرة البحث، فهي أن ما خططتُ له، لا ينفصل عن جملة اهتمامات بجوانب ثقافية وأدبية وغيرها كردياً، عدا المنشور من مقالات هنا وهناك، وأن لا صلة البتة، بهذا البحث بما تعرَّض له باحثنا محمود عباس لما أكتب في أكثر من مقال، لأن الكتابة من حيث المبدأ ليست ديْناً وردَّ دين، إنما هي مكاشفة المستجد في الواقع ومحفّزاته.
وهو ما سيستغرق منّا زمناً لا يستهان بمحتواه الدلالي، بما يتناسب ومتضمنات كتاباته .
دهوك، في 18-2/ 2017
ح2: عناوين تتقدم بأوراقها