د. محمود عباس
هناك من يتحدث في الأروقة الدولية بأنه في جنيف-4 سيعرض بند لإجراء انتخابات في سوريا القادمة. إنها الديمقراطية واللعنة معاً، وأية لعنة أبشع منها، وهم سيجرون الموتى وأنصاف الموتى، من الشعب، إلى صناديق ستنصب على أطراف بنايات نصفها مدمرة، وتحت النصف الآخر أشلاء أطفال لم تتم إنقاذهم، وعلى بعد أمتار سيتم وضع صناديق الخبث والنفاق، لتمتلئ بالدماء السوريين الباقين على الحياة، والنتيجة هي تنصيب المجرم أو أحد المنافقين الانتهازيين على سدة الحكم.
ستسبق الانتخابات مرحلة حكم انتقالي، وفرض الدستور الروسي المقترح، وهو جزء بسيط مما يطمح إليه الشعب السوري، الحالم ببعض السلام والهدوء، وتخفيف المعاناة، ليعود بعض الروح إلى الجسم المنهك المثخن بالجراح، ويرجع البعض منهم إلى مناطقهم.
لكن تتبين على أرض الواقع بأن الدول الكبرى لا تريد السلام للشعب السوري، ولا تغيير شكل النظام، في السلطة والمعارضة معا، الوجهين الشريرين لمأساة سوريا، وبالتالي الأمل أضعف من أن يتحقق الحلم، وتستقر الأوضاع، وتهدأ الحرب، واحتمالية أن تكون جنيف-4 مثل غيرها من مواخير الجنيفات والقاهرات والرياضات والإسطنبوليات، ومثل أستانة 1 و2 سوق آخر لوشوشة الخبثاء بين بعضهم، حول سعر الحورية السورية، وعلى الفترة الباقية لاغتصابها، ومن سيكون مولاها في المرحلة القادمة.
القضية السورية تباع في مواخير الدول الكبرى كعاهرة، تنافسوا عليها ومنذ البدء من سموا ذاتهم بأصدقاء الشعب السوري، وأعدائه، تعالت الأصوات، وأرتفع السعر، وتصاعدت المساومة إلى المليارات من الدولارات، دفعت للمقاولين، استلمت تركيا جزء منها، وصرفت عليها أئمة ولاية الفقيه وملوك العهر في السعودية وقطر، بعضها على المنافقين والانتهازيين من المعارضة الإسلامية والبعثية، وبعضها ليحافظ المجرم بشار الأسد على سلطته، وبها ظل راسخا لا يتزحزح، والمعارضة المنافقة مستمرة في الداخل والخارج.
وعندما تم تشويه القضية السورية، تحولت حورية العموريين والأراميين والفينيقيين إلى سبية في أقفاص المنظمات الإسلامية الإرهابية، الشيعية والسنية، واغتصبت وعلى مدى السنوات الست الماضية من قبل فاجرين، من الداخل والخارج، بدءً من المعارضة الإسلامية الراديكالية إلى سلطة بشار الأسد المجرمة، حينها تخلى عنها الجميع وتناقصت سعرها، وأبتذلها من أدعى بأنهم من المقربين، وعلى رأسهم تركيا والسعودية وقطر، وتناقلوها بين أسوق النخاسة، من جنيف والقاهرة واستانبول إلى سوق العهر في الرياض، وها هي تعاد عارية منهكة إلى جنيف وللمرة الرابعة، بعد أن تم البيع الأخير لها في سوق استأنه للنخاسة، وبيد تاجرين فاجرين اشتركا على تقسيم الحصة، روسيا وتركيا، وتابعيهما من المعارضة وسلطة بشار الأسد وإيران.
بعد تشكيل المعارضة المسلحة، العائدة من مؤتمر أستانة، تحالفات عسكرية بينية، قابلتها تحالفات (النصرة) جبهة تحرير الشام، وبينهم فصيل من منظمة نورالدين زنكي المدعوم تركيا بشكل مباشر، تحت حجة درجات التطرف والتكفير، لإبعاد شبهة الإملاءات الخارجية، أدخلت روسيا وعن طريق تركيا المعارضة المسلحة في صراع داخلي مميت من جهة، فلم يعد من ضرورة لروسيا بقصف المدن، ومن طرف آخر أسقطت المعارضة السياسية الخارجية والمتشكلة من الائتلاف والهيئة العليا المدعومة من السعودية، في صراع داخلي، فاقمت فيها التصريحات الدولية الصادرة من روسيا ومسؤول الأمم المتحدة، وآخرها حول تشكيل الوفد الذي سيحضر مؤتمر جنيف-4.
تظل الأمور غير واضحة بالنسبة لجنيف-4 لعدم تبيان الإدارة الأمريكية الجديدة موقفها، ففي أستانة كانت في طور التشكل من جهة، ومن جهة أخرى المؤتمر لم يكن لطرح القضايا السياسية، بل كانت عملية إخضاع للمعارضة المسلحة، وهو ما ترغبه إدارة ترمب، المتفقة مع بوتين في هذا المجال. واحتمال أن يكون المؤتمر القادم نسخة عن سابقاتها، في النتائج، أقرب إلى المنطق من خلافهم، خاصة وأن موازين القوى على الأرض السورية ضبابية، والمشهد لا يعكس الحقيقة، فالبعض الذي يرى أن سلطة بشار الأسد ربح المعركة يتجاوز المنطق، وأن المعارضة انتهت بانتهاء التكفيريين والإرهابيين، رغم أنها حقيقة، لكنها لا تعكس مطامح الشعب السوري، المطمور تحت ركام المدن، لكنها لم تمت، فهؤلاء لم يعكسوا يوما مطامح وأهداف ثورة الشعب السوري. ومعظم المحللين السياسيين يوافقون على أن المنتصر الأكبر هي روسيا، وليست إيران ولا تركيا، ولا سلطة بشار الأسد، والأخيرة صورة بالإمكان تغييرها في أية لحظة، ونحن الأن على أبواب تشكيل قوة عسكرية جديدة لسوريا، قد يكون البديل عن جيش الأسد العقائدي، وبها ستزول قوته كليا، وآخر ما قد تطمح إليها الطائفة العلوية وبشكل منطقي، هو إقليم فيدرالي، إما تحت الهيمنة الروسية حيث قواعدها العسكرية، أو كونفدرالية مع جيش للإقليم لحماية الطائفة من ثارات ستخطط لها الطائفة السنية.
والغريب أن المعارضة والسلطة تتفقان على رفض النظام الفيدرالي، علماً بأنه النظام الوحيد الذي سينقذهما من حروب أكثر دموية، ثارات قادمة لا تقل عن الجارية، سيستمر فيها سفك الدماء بدون رحمة، فبنظام فيدرالي وحده يمكن للطائفتين حماية نفسهما، وسبب معارضتهما لهذا النظام، أنهما لا يزالان يطمحان في احتكار السلطة المركزية، وهي نابعة من ثقافة الاستبداد المترسخة في أذهانهم، دون دراسة النتائج الصادرة والتي صدرت منها، بعد ست سنوات من الحرب الأهلية الطائفية. والأغرب أن تركيا والدول العربية كالسعودية وغيرها يشاركون إيران بتحريض الطرفين المتصارعين على معارضة النظام الفيدرالي، خوفا من تفشي الفكرة إلى سلطاتهم وجغرافياتهم.
وعلى الأغلب جنيف-4 مؤتمر آخر للنخاسة، سيتم فيها بيع الحورية السورية للمرة المائة، وهي الأن في أرخص أسعارها، فالمحاورون عليها متفقون على ابتذالها، والكل يتباحث على السلطة، دون قضية الشعب، والبنية التحتية، ومصير الطرفين الفاجرين المتصارعين، ولما لا إذا كان هذا التكتيك سيحافظ على قنوات ضخ الأموال إلى جيوبهم، وخاصة إلى الدول التي تتاجر بالمهجرين من الشعب السوري، كتركيا، التي جمعت من الأموال ما ترضيها لئلا ترسلهم إلى أوروبا، الدولة المصرة على تقطيع جغرافية سوريا، تحت حجة بناء المخيمات وإيواء المهجرين، وضرب القضية الكردية في جنوب غربي كردستان وبالتالي طمسها في شمالها، أي المحتلة من قبلها. ولا يستبعد أن يكون هناك جنيف 5 و6 وربما أكثر، والحل سيكون عسكريا بمظلة سياسية.
وما يجعلنا أن نرى بصيصا من النور في النفق المظلم، هو أنه قبل جنيف-4 عرضت روسيا مقترحها بتشكيل الإدارة السورية، بفيدرالية أو إدارات ذاتية، من خلال دستورها، واحتمالية الموافقة الأمريكية غير بعيدة. ففي هذه الحالة ومع دراسة التكتيك الروسي في سوريا، يتوقع أن تكون قادمها عكس رغبات وطموح كل القوى المتصارعة على السلطة المركزية.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamolkurda@gmail.com
3/2/2017م