جان كورد
عندما تشتد العاصفة يشرع قبطان السفينة في إصدار أوامر حازمة لإنقاذ نفسه ومن معه وسفينته من خطر الغرق، وسرعان ما ينفّذ أتباعه تلك الأوامر لإدراكهم التام بأن الالتزام بها وتنفيذها يساعدهم للبقاء على الحياة والاستمرار في سفرهم عبر البحار. في هذه الحال لن تجد أحداً يعارض أوامر القبطان أو يبدأ بالجدال معه أو التكاسل في تنفيذها. الجميع يعمل ويقوم بالواجبات المحددة المنظمة حتى لا تنهار أو تنكسر أو تتيه السفينة عن مسارها المرسوم. وفي أتون الحرب تسير الأمور أيضاً هكذا… وكذلك في عالم البناء للعمارات والجسور والأنفاق العملاقة، نجد البنائين والعمال ينفذون بدقة ما تم تكليفهم به من واجبات، حتى وصل الأمر بالصينيين واليابانيين إلى إنجاز عمارة كبيرة جداً خلال شهر واحد فقط.
أما في السياسة، فإن الأمور تسير بشكلٍ مختلف تماماً، فالكل يجدون لأنفسهم الحق في التخطيط والتنفيذ، ويبررون ذلك التوجه بأن الديموقراطية تسمح لهم بذلك. وهذا ليس بصحيح البتة، فمن قال بأن السياسة ليست صراعاً مع عواصف عاتية ومواجهة تحديات عظيمة ومسائل أشد تعقيداً من بناء عمارات شاهقة أو خوض معارك حربية أو حفر أنفاق تحت الجبال؟ بل في السياسة من الأخطار والمصاعب والمواجهات العنيفة ما لا نجده في شؤون الحياة الأخرى، فانظروا إلى ما يجري في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث بدأ رئيسها بتنفيذ ما وعد به شعبه، إلاّ أنه يواجه تحديات لم يكن يتوقعها، وقد يتراجع عن كثيرٍ من أهدافه أو يحدث ما قاله له الرئيس السابق أوباما بأنه لن يستطيع إكمال دورته الرئاسية الأولى لما سيواجه من متاعب، فعالم السياسة غير عالم التجارة الذي جاء منه الرئيس دونالد ترامب، ومن الرؤساء من فقد حياته وهو في ذروة مجده، مثل جون ف كينيدي وأنور السادات.
يبدو أن الكورد في غرب كوردستان، قادةً وكوادر منظمة وأعضاء حزبيين، من ديموقراطيين وثوريين، قوميين وأمميين، سوريين أو كوردستانيين فكراً وسياسةً، يستخفون بالعمل السياسي، فمنهم من يجعل من المؤتمرات والاجتماعات مناسبات لتعزيز نفوذه وصقل صورته، ومنهم من يعتبر أي نقدٍ موجه لشخصه وسياسته نقداً للأمة والقومية والمبدأ والحزب والقائد، ومنهم من لا يلتزم بالضوابط والأصول الحزبية إلاّ لتصفية منافسيه وناقديه، ومنهم من يطلب من رفاقه وأنصاره كتم الأسرار الحزبية، إلاّ أنه بنفسه يبوح لمن يشاء لما في جعبته من أسرار غير مكترث بالتراتب التنظيمي أبداً… وسلسلة المخالفات وخروقات الأنظمة الداخلية للتنظيمات لا تنتهي، إلا أن الجريمة تكمن في هذا الكم الهائل من “القيادات” و”المكاتب السياسية” و”رؤساء الأحزاب”، الذين يتخبطون في رسم سياسات تنظيماتهم وفي الأداء المأمول منهم، والديموقراطيون يتهمون الثوار والأمميين بالتفريط في حق تقرير المصير لشعبهم، في حين يتهم الآخرون الديموقراطيين بالكسل والفشل وقلة الحيلة والبقاء في القوقع القومي الضيق. وأينما نظرت تجد لوائح الاتهامات بالخيانة الوطنية والعمالة للأردوغانية أو لنظام الأسد أو لإيران، أو بقبض الأموال من المخابرات الفلانية والفلانية، كما تجد ضعفاً ظاهراً في تمثيل الشعب الكوردي، الذي بات يشعر بأنه بلا قيادة في خضم هذا التحارب والنزاع المستمر هذا يدل على “الفشل الذريع”، فلا الأحزاب كالأحزاب، ولا قيادات الأحزاب كالقيادات المطلوبة في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ سوريا وغرب كوردستان.
ماذا لو ذهب فريق الثوريين الكورد إلى مؤتمر الأستانة، عوضاً عن فريق الديموقراطيين الكورد؟ كيف كانت ستدور دائرة الإعلام الثوري في قناة روناهي أو طاري…؟ وماذا لو دعم الأمريكان الديموقراطيين بالسلاح في جمهورية شمال كاتنغا عوضاً عن دعم الآبوجيين، أعداء الامبريالية الأمريكية، أباً عن جد؟ فكيف كانت ستتصرف أحزاب “المجلس” الموقرة مع معارضيها وناقديها؟
هذه التناحرات التي في معظمها ذات جذور نفسية واجتماعية متعلقة بما جبلت عليه الشخصية الإنسانية من غرور وكبرياء وعدم تعلّم العمل ضمن الجماعة، ومحاولة البعض فرض آرائهم أو آراء أسيادهم عن طريق القوة، فيتقلب بعضهم في اختيار حلفائه حسب حاجته الآنية ومصالحه الحزبية، بل الشخصية وحدها، فاليوم تابع لموسكو وطهران، وغداً مداعب للإعلام السعودي في محاولة لتلميع الوجه وترقيع الثوب، في حين أن الرقع قد اتسع على الراقع، ولم يعد يدري على أي إيقاع يرقص… وهناك موضوع رافض للنصيحة من جيش المثقفين والوطنيين غير الملتزمين حزبياً، لأن بعض القادة “الكوماندرز” يعتبرون المثقفين وغير المنحازين وبالاً عليهم وشراً مستطيراً… وكل خطوة صحيحة في اتجاه التضامن الحقيقي بين قيادات الأحزاب والمثقفين الوطنيين تصطدم باستمرار بعنجهية وغرور بعض المتسلطين على التنظيم السياسي الكوردي، بغض النظر عن الاتجاه والفكر.
إن السبب الرئيس في هذا هو عدم سعي الكورد السياسيين لبناء مؤسسة سياسية موحدة لهم، فلو كانت لديهم “قيادة موحدة” لما تفاقم النزاع بينهم لهذه الدرجة، بحيث صاروا “مسخرة” أمام شعبهم وأمام العالم، وفقدوا بريق تنظيماتهم… لأنهم يتصرفون أحياناً وكأنهم كشاشو حمام، أو رعاة تركوا قطعانهم ليلعبوا مع بعضهم ويتشاجروا، ولو كانت هناك قيادة موحدة لظهر من بينهم “قبطان” يحترمه الجميع، أحزاباً وجماهير… ولذا فإن كلا الطرفين يسعى لسد هذا النقص نفسياً بعمق كوردستاني معين من خارج غرب كوردستان.
برأيي، أن تضغط الجماهير والفئات المتنورة منها بحزم وعزم على كل القادة والأمناء العامين، على المكاتب السياسية واللجان المركزية، بأن تفضح تخبطاتهم السياسية وبعض علاقاتهم الخارجية التي لا تنفع شعبنا بل تضر به مع قوى إقليمية تعادي قضية شعبنا جملةً وتفصيلا، لتخرج هذه القيادات من ظل هذه المجموعة المعارضة السورية أو تلك، ومن دائرة هذا الحلف الإقليمي أو ذاك… وعلى المثقفين وغير المنحازين عموماً إرغام هذه القيادات على التوجه صوب وحدة التنظيم بين الأحزاب المتشابهة في الفكر والأهداف والتركيبة التنظيمية… فكيف يكون هناك أكثر من ثلاثين تنظيماً حزبياً بين شعبٍ لا يتجاوز تعداده السكاني ثلاثة إلى أربعة ملايين من المواطنين؟ كيف لا يشعر هؤلاء القادة بالخزي والعار وهم يتحالفون مع بعضهم بعد أن وجهوا تهم الخيانة والعمالة لبعضهم بعضا وانشقوا تنظيمياً عن بعضهم وأضروا بشعبه، ثم جاؤوا إلى بعضهم بالقبلات والاحتضان، وكأنهم لم يضروا بقضية شعبهم بانشقاقاتهم وتحزبهم الأعمى من قبل؟
العمل الحزبي والسياسي ليس أسهل من بناء الجسور والعمارات وحفر الأنفاق، ويتطلب احتراماً فائقاً لمشاعر الشعب واستعداداً للتضحية من أجل أهدافه الحقيقية، كما يتطلب أصالةً في الالتزام والقيام بالواجب الحزبي، وعلى الحركة بشكل عام أن تضع خارطة طريق لها صوب تأسيس “قيادة موحدة” بين أكثر من نصف عدد هذه الأحزاب على الأقل، ولا يمكن إيجاد هكذا قيادة من دون توحيد تنظيمات متقاربة ومتشابهة فيما بينها…
وعليه، يجب تحريك الشارع الكوردي من أجل الوحدة التنظيمية وليس لدعم رغبات زعماء حزبيين في مزيد من السيطرة والاستمرارية على رأس الهرم السياسي الحزبي، الذي يبدو أضعف من سائر أهرامات السياسة السورية… وتحريك الشارع الكوردي يبدأ بتحريك المثقفين قبل أي فئة اجتماعية أخرى.
فإلى العمل في الشارع السياسي الكوردي…
30 كانون الثاني، 2017