عبدو خليل
خلال نصف قرن رفع المثقفون العرب شعار وحدة الصف العربي و مضوا وراء هذا الحلم . ألفوا الكثير من الكتب و الأبحاث و الدراسات حول برهنة وحدة الامة العربية. بدء من التاريخ المشترك و اللغة و العادات و التقاليد و انتهاءاً بالآمال والأحلام. لم ينسوا طبعاً المشتركات بين الأهداف المستقبلية التي تهدد الأمة و المخاطر المحدقة بها، و ليس آخرها العدو الصهيوني الطامع بهم من محيطهم حتى خليجهم. على حد تعبيرهم. تلك كانت حجة مضافة لجملة الحجج التي تم تسويقها حول ضرورات وحدة الصف العربي.
المفارقة أن ثمة أنظمة شمولية تبنت هذا الخطاب ودافعت عنه. لا بل تظاهرت أنها تعمل و تسعى لتحقيقه على أرض الواقع، وجدت في هذا الخطاب البراق و الجذاب ما تبحث عنه، لتختبئ تحت عباءته و تمارس مزيداً من التنكيل بحق شعوبها تحت ذريعة مواجهة المتربصين بأهداف الأمة في الوحدة و الحرية، و خونت كل الأنظمة الاخرى و اتهمت كل مختلف بالتواطؤ مع العدو.
فيما بعد استطاعت هذه الأنظمة ترويض هؤلاء المثقفين لصالح كذبة المقاومة والممانعة التي درجت كموضة رائجة آنذاك. تحول هؤلاء. المثقفين و الكتاب و الساسة الذين قدموا انفسهم كمعارضين. تحولوا إلى مصفقين و تابعين. انتهوا تدريجياً في أحضان تلك النظم العربية الشمولية، في العراق . سوريا . اليمن. ليبيا . البعض منهم رضي بعمود يكتبه في صحيفة رخيصة. يمدح فيها ولي نعمته. و آخرون اكتفوا ببعض الأمسيات الشعرية الهزيلة هنا وهناك، و الشاطر فيهم صار مستشاراً لأحد الأفرع الأمنية. وكثيرون تحولوا لموظفين من الدرجة الثالثة في مراكز ثقافية نائية في القرى البعيدة.
وضع المثقف الكردي اليوم يشبه كثيراً وضع المثقف العربي فيما مضى من عقود. رغم أن الأخير كان يتمتع بلغته. يكتب و يفكر بها ويمارس إلى حد ما شعاراته بأريحية. أما الكردي رغم أنه حرم من لغته ومن شعور الانتماء إلى وطن. بالمعنى الجغرافي. لكن المآلات تبدو واحدة لدى الطرفين.
المثقف الكردي اليوم يعمل لحساب الكتلة السياسية المتنفذة و المتحكمة بمصادر القرار الكردي. المتسلطة. رغم معرفته الجيدة بضرورة تنحي أو إسقاط هذه الفئة، والإسقاط هنا ليس بالمعنى العنفي، وانتهاء صلاحية هذه الكتلة التاريخية، لكنه لا يزال يحاول ترميمها و التعكز عليها. نتيجة عجزه عن إنتاج البديل أو امتلاك جسارة التغيير. تماماً كما فعل المثقفون العرب. ظلوا يشتمون الأنظمة العربية دهراً وبالنهاية رضوا ببعض المكاسب الشخصية. الفتات، هذا ما يفعله أغلب المثقفون الكرد اليوم. لقاء حضوره لمؤتمر أو أمسية ما من فعاليات هذه الأحزاب. التي يشتمها هو الآخر كما المثقف العربي. ليل نهار. يدخل عملية توازن معقدة تكلفه الكثير، وتفقده دوره التاريخي في عملية بناء الوعي المجتمعي. ليتحول هذا المثقف إلى ببغاء يردد ما يقوله الساسة ولكن بشكل أدبي منمق أكثر من فجاجة الساسة. و هنا تطفو نظرية المؤامرة. العدو الخارجي المتربص بنا، و أحابيل الأعداء و مكائدهم تكون حاضرة، و لا يخفى على أحد كم من مرة أنقذت تلك النظرية المثقفين العرب من انتقاد البعض لهم على خلفية تسولهم لدى الأنظمة العربية. المارقة منها بالذات. كانت حجتهم أن هناك عدو. خارجي. أكبر يتمثل بدولة إسرائيل و طموحاتها. المثقف الكردي هو الآخر يتستر خلف تلك النظرية. المؤامرة. تركيا اليوم هي إسرائيل المثقف الكردي. لا يعني هذا الكلام أن تركيا تحمل بيدها غصن زيتون و بالأخرى كتاب السيد المسيح. القضية لا تقاس بهذا الشكل. إعطاء العدو حجماً خيالياً هو دليل عجز و هروب من استحقاقات المرحلة.
خلاصة القول من ينادي اليوم بوحدة الصف الكردي يستنسخ تجربة المثقفين العرب. على هؤلاء أن يدركوا أن وحدة الصف لاتشبه وحدة صف الصحون خلف زجاج فاترينا، ولا تشبه وحدة صف النعاج في مسلخ رخيص. وحدة الصف تحتاج لإرادة، و لقوى تمتلك الإيمان بالاختلاف و التعددية السياسية، وقبل كل هذا تحتاج لتشخيص سليم. للإشارة بوضوح إلى من يمتلك السلاح و القوة لإرضاخ هذه الإرادة لسطوته وقوته. دون ذلك كل النداءات بوحدة الصف الكردي هي محاباة مبطنة لتلك الشمولية الفاضحة التي تمارسها تلك القوى. بل وليست أكثر من إشارات لتكريس ما هو مكرس . وربما كانت تمهيداً لعودة البعض الى كنف تلك الشموليات و الأكتفاء بما تبقى من فتات.