عندما تكون كُردستان والعالم على هيئة «قرمانة» حميد حاج درويش

ابراهيم محمود
” تشريح سيكولوجي موجز “
أكثرنا ينتمي إلى عالم القرية، أي له قرية ولِد كما ترعرع فيها لزمن ما. ولا بد أن حنيناً يشده إليها، وإن ابتعد عنها، لأنها تمثّل عالم الطفولة، البراءة غير المستعادة، والحدود المفتوحة على اللاتناهي. سوى أن المشكل يبدأ من هنا، عندما يحمل أحدهم صورة كاملة، حيَّة، لقريته، ليس حبّاً فيها، وإنما لأنها تمنحه قدرة واهمة على امتلاك عالم كامل، لتكون قفصه الداخلي، ومن موقع التملك اللافت، تكون العلاقة من هذا القبيل: الأرض، وما، ومن عليها، حتى وإن كان على مبعدة آلاف الأميال عنها، والنموذج الصارخ هنا، من خلال متابعة ثقافية، سيكولوجية يتمثل في : حميد حاج درويش.
فكرة القرية: القفص المحمول في الداخل، والمستبِد بصاحبه، إذ تترجم الحالة النفسية له، حيث  يكون المستعبَد الذاتي بها، لأنها تلبّي له أهم ما يعتبره تأكيداً لشخصية مؤبَّدة في الزمان والمكان المطلقين، ومن موقع السيد، وهو العبد لها بالمقابل.
و” قرمانة ” هي قرية حميد حاج درويش، قرية تمنحه حضوراً سيادياً: من سيطرة إقطاعية تتعدى حدود المكان بالذات جرّاء وضعية استهواء مزمنة، وشعوراً ما بنبالة مجمَّلة، واحتواء للفضاء الجغرافي المحيط بالقرية، ونفوذاً على أهليها على الأقل.
ولحظة الحديث عن نشأة الحركة الكردية” أتحفظ على صفة القومية، لأسباب لها صلة ببنية الحركة العالة على الصفة، والتي تعرّي حقيقتها من الداخل جرّاء الفاعلين الرئيسين فيها والمستمرين بها إلى يومنا هذا “، وبدءاً من سنة 1957، يتضح أن ولادتها من حيث الدقة: ريفية، والقابلة ريفية، والحليب المقدَّم للمولود والذي يعطى له حتى الآن: ريفي “، لأن الذين كانوا وراء تأسيسه، أعني ” تطويبه ” ينتمون إلى عالم القرية، بصفته الملّاكية، كما لو أن الحركة ارتقت إلى مستوى ” حلف مقدّس ” قرّر من خلاله، وإلى ” الأبد “، أن يتناسل على حمْلها من يعتدون بعالم القرية، زعامات لا تخفي كراهيتها لجل المنتمين إليها باعتبارهم عاملين في الأرض، وموضوع إشباع ” المالك ” لها، والمسيطِر عليها.
وعندما أركّز على حميد، فليس لأنه الاستثناء، لأن الذين تعاقبوا على إدارة ” دفّة ” الحركة، وما أكثرهم، لتصبح حركات دون حركة، رغم كل ” الهيصة ” التي تعلو من هنا وهناك، لأن هؤلاء لا يمكنهم إخفاء ” ورقة التوت ” ذات النسَب الريفي، والتي ” لا تخفي ” كما يجب، عورة كل منهم، طالما أن ليس من أحد” أي أحد، اكتشف وهْم ما هو عليه، وبؤس ما يتفكره ويتدبره في حق أمة مهدورة، وقومية مقهورة، لا براءة لذمة تعطى لأي منهم، في منجرحها المريع” وربما ذات يوم، إن سنحت لي الفرصة، أتعرض للفولكلورية الفاقعة لكل منهم، وبنسب متفاوتة طبعاً “، سوى أن حميد استثناء هنا، وهو الأكثر ” عراقة ” في ” الحركة “، الأكثر ” إراقة ” لدم الحركة النازف، وبلبلة لاسمها.
” قرمانة ” قرية حميد الملّاك، وهي تتبع ناحية ” دِربيسيى Dirbêsiyê : درباسية “، وتتيح قدرة على التحرك في جغرافيتها المنبسطة، حيث تلخّص له عالماً كاملاً، من خلال ” مسيرته ” الاحترافية: أعني: الإتلافية لخاصية الحركة التي لم تفصح عن مزيد من الكوارث على المعتبَر جسمها، بالمفهوم القومي الكردي.
لحظة النظر فيما انطلق منه حميد المعتبَر من مؤسسيها، وما لم يتوقف عنده حتى اللحظة، يُتاح لنا تبيّن فاجعة الشخصية التي تجلوه، إن تم التحرّي عما عرِف به واقعاً، وليس ” خزعبلات ” فكرة لا صلة له البتة بما اصطنعه لنفسه وليس لحزبه أو ” الحركة : الديمقراطي التقدمي!
كل ما يمكن التعرُّف عليه في بنية شخصيته، هو كيف يعيش كل البيئات، المناخات، الألسن، الأمكنة، كما لو أنها ” قرمانة ” وليس سواها، أي باعتباره المتصرف بمنتَج الأرض، والمستعرض قواه على ” فلاحيه ” البسطاء وعياً، إنما الأغنياء إنسانيةً، وحتى المقدّم لشخصه واسمه لمنطقة كاملة في الجوار، على أنه ” ابن القرية البار، وقد بار فيه كل ما يجعله حميداً على المحك “.
التاريخ يعايَن في مختبر الجغرافيا المفتوح، إذ إن وجه تعامله مع ” رفاقه: ويا لبئس الكلمة، حين يعرّي الواقع محتواها، حتى بالنسبة إلى أقرب المسمى بـ” مكتبه ” والعاملين فيه، أقنانه واقعاً ! ” يترجم مثالب لا مناقب تترى، فكردستان بكامل مساحتها الجغرافية، وتنوعها، وعنف النافذ فيها، لم تقدّم له ما يجعله يفكر خارج حدود القرية ودلالة الانتساب إلى القرية، بالعكس، إنها تعزّز فيه توازناً وسكينة، كلما شعر بضغط من الآخرين، حتى من ” رفاقه ” حيث يحتفظ بقدْر كبير من ” السُمّية ” إن استشعر سخرية مما يقوم به أو يقوله أي كان من هؤلاء، يُستثنى ” الغريب “: اللاكردي من ذلك، تقديراً منه أنه يضمن بقاءه المميَّز بعلامة ” القروية ” الفائقة الوصف، أو خطورة عليه، أو سعياً إلى إزاحته ولو ميليمتراً واحداً، قياساً إلى المساحة الأرضية وليس على الخارطة طبعاً. القرية عصا توازنه، وهي عصا ضاربة بأشكال شتى إزاء من يريد النيل منهم، وإن برز نزيل بيت مرفّه، بديكور حجري يليق بمن يبقي ذاكرة الحركة مثخنة بالجراح أكثر من سواه.
العبرة في الجوهر، وهنا على من يتعرف على الشخصية، تجاوز: الرأس المفرّع، والذقن الحليقة، والبذلة الأنيقة، ورباطة العنق المعهودة، وحركة الرأس التي فقدت توازنها بعد عمر مديد من التنكيل بالكرد من خلال حركة تحمل اسمهم ملقاً، والذهاب إلى الداخل، حيث تقبع صورة صادمة، لمنتم إلى القرية، ذي لحية شعثاء، وجلباب فضفاض، وعكازة لها أبهتها الزعاماتية الخاصة، وعلى عتبة بيت ينفتح على محيط القرية، وفي دائرة محيطة به، ينتشر فلاحون بائسون، وحتى قرويون في بؤسهم، لم ينظر إليهم حميد من منطق درويشي، إنما على أنه ” حميدهم ” رغم تعاليه عليهم، وتأكيده لهم أنه مالك القرية، آغاها الإقطاعي المؤبد، فكيف بصاحب سجل غاية في السوء إدارةً، في التعامل مع قروييه، وهم كرده،  أن يثبت لمن هم أبعد أنه ديمقراطي وتقدمي، ويمثّل ملايين من الكرد أبعد من جغرافية ” قرمانة ” بالذات ؟ حميد المأهول بمنهجية السيكولوجيا القروية ومن موقع تملُّكي لديه ما يمد في نفوذه، وفي الإيحاء الذاتي بأنه قادر على اصطناع صور من المخاتلة وبالمكر بقروييه، أو من يقيمون في ظله، حيث مجازٌ له التحدث إليهم كما يشتهي، أن يزيف الواقع، أن يجمّل معاناتهم، أن ينوّمهم بمغناطيسية معسول وهمي من كلامه، بأنه يغتبطهم على ما هم فيه، أن يُسمّي في أي منهم ما يعتبره كلاماً نافذ الأثر، أن يقول في الظهر خلاف ما تفوَّه به صباحاً، وفي المساء خلاف ما تفتَّقت عنه قريحته الحميدية في الصباح والظهر، وفي اليوم التالي ما يناقض قول الأمس، وليس من محاسب، لأن الخطأ هو في حساب الأيام والتاريخ، وحاشى أن يقول حميد خطأ، أو يقارب خطأ، أو يصرّح بما هو خطأ طوال عهدته الحزبية، فالقرية، وعبر موقعه فيها، تضمن له أن يكون بالصورة التي يرغب.
وفي كل عودة منكسراً، خائباً، تشفع له خلفيته القرمانية، وعائده القروي القرماني، بنوع من الوعد بنسيان ما كان، فلا خطأ فعلياً ولا ندم البتة.
إنه السيد القروي الذي لا يجارى، ولكنه المطيع لسواه، الفاقد لسمة السيادية، وهذا ليس بغريب على سجل حميد، حسبه أن امبراطوريته ذات النسب القرماني تكفل له استعادة توازن بصورة دورية، إذ في عرف حميد، وعلى مدى عقود زمنية تتعدى الستة، ليس المهم تظلّله بظلّ مَن، بقدر ما يكون الأهم هو أن ثمة ” قرمانة “، وثمة ما يبقيه سيداً، ولو وهماً!
إن جولاته وصولاته الكردستانية، ومنذ سنوات خمس ونيّف، والعالمية حديثاً كذلك، لم تجِز له قابلية التحرك كزعيم كردي يستحق التقدير، حتى في عيون من جالسهم، وهم يختبرون فراسته، وشخصيته من الداخل، لأنه لم يتحرر بعد من غواية ” قرمانة ” ووهم  جلاء أمره قرمانياً، بالعكس، حيث إن عودته ” السندبادية ” الكردية الأخيرة، وعلى وقع تصريحاته، أثبتت بالدليل القاطع هذه المرة، أكثر من ” سندباتياته ” الكردية السابقة وغير الفالحة طبعاً، عن أنه لم يغادر ” قرمانة ” إلا ليعود إليها، لينشحن بها، وربما يعاود ” سفراً ” من نوع آخر، سوى أن ” أوبته ” الأخيرة هذه، تضعنا أمام صورة تستحق الرثاء، وإن كان هو يستحق الهجاء  من ” راسو لساسو ” جرّاء التلاعب بمصير شعب كامل، وهي صورة من عاد مهزوماً، وإن تعالى على هزيمته، ولعلها النهاية الأوخم له، أي لمن يحمل قفص قريته داخله، ويقيس كردستان والعالم على منوالها: مفردات، ومشاهد، وعلاقات، وسيادية لافتة، وعبودية للقب أكل عليه الدهر وشرب.
ملاحظة: ربما ينبري البعض، أو كثيرون، وهم يشيرون إلى حقد يتملكني إزاء القرية وعالمها، لأنني محروم من خاصية تملكية، أي حقد طبقي بمعنى ما، وهذا مردود. إن رفضي لعالم القرية بالصيغة السالفة، ينبني على تشريح المتصرفين باسم شعب كامل، ومن خلال مسمَّى ” حركة ” لا يصل منها بالكرد كشعب، إلا ما يزيد في تمزيقه وتفريقه، ولا أكثر من الحالات، التي ما أن يجالسني فيها بمن يعرّف بنفسه من خلال قرية هي ” طابو ” له، لأكون الممنَّن علي فيها” فأنا دون أرض”، ومن هنا كان حنيني إلى القرية، لأتزود بالمزيد من الخبريات التي تسرد أوجاع أهاليها الكرد، ولا بد أنني، كغيري، إن بقيتِ الوضعيةُ السابقةُ، ولم يحدث تحوُّل في العالم، رغم أنف هؤلاء المتغطرسين بفتنة الأرض وملكيتها، لا بد أنني كنت في أفضل الأحوال فلاحاً مثقَلاً بواجبات سيده، أو بواباً، أو خادماً، لا يملك حق “التصرف” في نفسه وبيته، وحتى في زوجته وأولاده…؟!
طبعاً ثمة نسبة معلومة ممن ينتمون إلى خانة الكتابة، تعيش نشوة ” العبودية المختارة “، ولا تستشعر توازناً نفسياً إلا في هذا المضمار، كونها زنبركية، ولا أدل على ذلك من شح النقد الموجَّه إلى ما يجري كردياً .
دهوك-23-1-2017 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…