ابراهيم محمود
بين جكرخوين الشاعر” 1903-1984 ” ونورالدين زازا الناقد والمفكر” 1919-1988 “،يحاول حميد حاج درويش أول انشقاقي في حزب كردي سوري، الإيحاء بأنه ذواقة الشعر، ومن أهل الفكر والنقد، وسجله الشخصي يثبت تاريخياً، أن ليس من صلة بينه وبين كل منهما، ففي جكرخوين الذي توفي في المنفى السويدي، وفي زازا الذي توفي في المنفى السويسري شهادة حية عن مدى انتهازيته، ولقد أراد عبر جكرخوين الهيمنة على ذاكرة شاعر شعبي الصيت، وعبر زازا تفعيل الهيمنة على ثقافة رجل ذي حضور فكري، أن يسوّق ما هو شعري وفكري كرديين باسمه، وتلك هي انتهازية حميد حاج الدرويش التي لا تفارقه حتى كتابة هذه الكلمة.
كان جكرخوين شاعراً شعبياً من جهة الموضوعات التي تناولها في شعره، وعلى أساس طبقي ماركسي- شيوعي” وفي الواجهة وجوب تعرية الفئات التي تستغل عامة الكرد وتسيّر مصالحها الطبقية من خلالهم وباسمهم وعلى حساب جهدهم وعرقهم، وللآغوات والبكوات والمشايخ نصيب وافر في جل قصائده، في مجموعاته الشعرية الأولى، وبقي هذا التركيز جلي الحضور ولو بنسبة أقل في مجموعاته الشعرية اللاحقة، وقد عرِف به قومياً، لكنه لم يتخل عن خاصيته الأولى “، فكيف يمكن الربط بين رمز انتهازي ومشدود إلى مصلحته الشخصية والفئوية، هو حميد بصورة لافتة،وشاعر كبير أفنى عمره في التعبير عن رؤيته الطبقية حتى في سياق تمثُّله لقوميته الكردية حيث لا فصل بينهما هنا، كجكرخوين؟
لقد حاول حميد ابتزازه من موقعه كشاعر مأهول بحضور شعري كردي، غاضاً الطرف عن نقده اللاسع لفئات استغلالية، هو منتم إليها، تأكيداً لمصلحته الذاتية، وتلك براعة انتهازية عرِف بها حميد إلى يومنا هذا، وحسابه مع جكرخوين يضاء من هذه الزاوية، وهو أن حقده المقدَّر ناحيته، كان يحول دون خروجه من دائرة رقابته باعتباره متنفذاً حزبياً، ولكم عانى جكرخوين من ذلك، وهو يعيش في فقر مدقع، كما يتضح ذلك في سيرته بالذات، أي في شكواه المريرة اللافتة عبر تساؤله عن السبب الذي لا يريدونه” رفاقه بالتأكيد وفي مقدمتهم رجل يعرف أهميته بالنسبة إليه إن أبقاه تحت ظله ” أن يذهب إلى أوربا، واستغرابه حول ذلك، ومساعدته من قبل فتاة ” شجاعة ” وهو رجل مسن ومريض، الطبعة العربية، صص383- 386.
ولعل السنين الخمس التي أمضاها في السويد غيرَّت في أحواله كثيراً، وفي نظرته إلى الحياة كذلك، ولا بد أن رجلاً مثل حميد، وهو يتميز بحضور ثعلبي كبير في ذاته، كان ينتظر لحظة احتوائه، بجعْله شاعر حزبه، شاعره، ليكون لحزب عشيرة تحمل دمغته، حيث دفِن في بيته الذي عاش عقوداً من الزمن في سغب وبؤس، وليكون الاحتفاء به سنوياً خصوصاً، ليس حباً به، وإنما إعلاء من نجومية حميد الانتهازي الأكثر تجسيداً لمصلحته الآغوية وسعياً إلى حيازة شاعر في نطاق ملكيته، وكما هو سعي ذيلييه من التابعين والكتّاب بالمقابل، واستغلاله لجكرخوين في اسمه وشعره الذين لا يؤمن بجل محتواه حيث يصله بشعبه الكردي، قائم على ثباته في موقفه وهو أن يعتمد كل السبل التي تبقيه حميد الآغوي، آغا الحزب، ثعلبه الماكر إنما المكشوف. ولو أنه امتلك الحد الأدنى من وجع الكردية، لكان في موقع آخر،وهو يأتي بموبقات تترى، وآثر الجلوس في بيته مكتفياً بما ناله شخصياً، لكن طبيعة الثعلب تتجلى في أنه ينظر باستمرار حوله، ويطمح في المزيد، ومن خلال شعارات بهلوانية كاشفة عن سوأته، وهو يوحي بأنه ينتمي إلى شعبه، ولا دليل، أي دليل على ذلك.
تجلَّى ذلك في علاقته مع زازا، إنما في مسار مختلف طبعاً، لأن زازا المفكر والمقدّر لضحالة ثقافة ” رفاقه ” وصعوبة انتقالهم إلى مستوى ما تثقَّف به، وحميد في الواجهة، كان يزداد وعياً مع الزمن باستحالة البقاء وهو محاصر بوعي متخلف وأي تخلف عن العصر، دون أن ننسى لانتماء الطبقي له الذي لم يكن يسمح لرجل مثل حميد أن ينال منه، كما نال من جكرخوين، فكان لوذه بسويسرا، وخروجه من موطنه في نهية ستينيات القرن الماضي، وليموت هناك، ويدفن هناك، ولعله أراح رجلاً انتهازياً مثل حميد، حيث صمت إلى الأبد.
سوى أن غريزة الثعلبية نبّهت حميداً هذا إلى وجود فراغ في حياة حزبه، أعني عشيرته الحزبية وبالنسبة لصلاته غير السوية مع كرده ولآخرين أيضاً، فراغ له صلة بالثقافة العميقة، ومن يمكنه تمثيله، وبعد رحيل زازا بستة عشر عاماً، ليحّرك آخرين، ويسلط الضوء” ضوءه الخاص ” عليه، فكان ذلك الاجتماع في ” دوما دمشق، 17-10-2005 “، ومحاولة لفت الأنظار إليه والاحتفاء به،ونبهتُ في الاجتماع إلى مفارقة التعامل مع رمز كهذا، وما الذي استجد ليحتفى به، مشيراً إلى أنني بصدد إصدار كتاب عنه، فكانت مواجهة من نوع آخر، لا أخفي أن ” فطنة ” ثعلبية حميد كانت تقدّر مغزى هذا التنبيه، لكنه استمر، ورغم أنف زازا وهو مدفون بعيد عنه، عن موطنه، ليأتي تعليقه لصورة مكبرة له،في قاعة تعنيه وحده وعشيرته الحزبية، تحمل اسمه، وليشدد على أهميته، وهو يزوّر في تاريخه، كما لو أن حميد الأمس ليس حميد اللحظة تلك، ليس حميد اليوم، غير عابىء بكل الانتقادات التي عرّت حقيقته، أليس هذا من صفات الانتهازي الذي تستغرقه رغبته الذاتية وتيتمه بما يريد إلى درجة نسيان أن هناك من يرى ويحلل؟
لقد كان تقديره لأهمية مفكر في ظله، ولو من طرف واحد، إيحاء صارخاً ومن نوع آخر، أنه ضمِن حضوراً أقوى له، أكثر من آي آغا حزبي كردي آخر، وعشائرهم البائسة هنا، أي وهو يحوز على رمزين كبيرين هما عماد مجتمع، وركيزتا ثقافة منشودة: الشعر والفكر.
ومن اللافت، والمثير للسخرية، أنه في بداية الأزمة السورية ” 2011 “، سعت مجموعة من إمعيي الثقافة من الكتاب الكرد، إلى تقديم أسمائهم للانتهازي حميد، ربما تقديراً خاصاً منهم، أن نجوميته كانتهازي، قد تمنحهم حضوراً انتهازياً في واجهة المجتمع، وتعلي شأنهم، وتبيَّن لهم وفي زمن وجيز أن ليس في مقدور الثعلب إلا أن يبقى ثعلباً، وأن الانتهازية التي تجلو حميداً، من النوع الذي يمكنه أن يقرّب أياً كان منه، شريطة أن يبقى جزءاً من سوقه الشعاراتية الرخيصة والمتبدلة بيافطاتها، ورخصها قائم، فكان ابتعادهم عنه.
وحدهم، ممن يرون فيه ما يبقيهم،يترن منه، وهم مقتدون به، طبعاً وفيهم الحضور الثعلبي الأقل، رغم سعيهم إلى هذه الثعلبية، كما هو تحلقهم حوله، حتى من كتّاب، لا بد أنهم يرون فيما انطلق منه حميد وما زال يسعى إلى تأكيد زئبقيته ذات الصلة بانتهازيته، يرون في ذلك مسعى يعزّز فيهم نخوة الكتابة، ونشوة التلمظ بأنهم قادرون على البقاء، واستلهام بعض فهلوته، إذ يطرحون أنفسهم على امتداد سوقه الضيقة والمؤطرة، ليصبح الواحد منهم جكرخويناً، في المنحى الشعري، والآخر زازا، في المنحى النقدي والفكري، سوى أن الحراك الزئبقي لثعلبية رجل في مقام حميد ابتلي به الكرد وحركتهم القومية، يحتفظ بميزة معتبَرة، وهي استحالة التجلّي بهيئة جكرخوين أو زازا واللذين عاشا مكابدة، خلاف هؤلاء الساعين، ولهذا، يمكن وضعهم في خانة أقل مكانة، حتى لا يلتبس الأمر على حميد: أن يبقوا في مقام : بنات آوى.
إن ما يحتاج إليه المعنيون بقضية الثقافة الفعلية، والكردية طبعاً، هو لزوم التنبه إلى هذا الابتزاز الحميدي، وإساءته البالغة إلى الثقافة الكردية والذاكرة الكردية، والتركيز على ذلك.
فلنحرر كلاً من جكرخوين وزازا من انتهازية حميد، إن أردنا انعطافة في وعينا الكردي فعلاً، ودخولاً في عصر الحداثة النقدية، والنقد الكاشف للموبقات ذات الأثر الحميدي وغيره!
دهوك، في 4-2017