صبري رسول
أصبح الانكفاء إلى الحلقة الضيقة «العشيرة، القومية، الدين والطائفة، الحزب» لدى الفرد في المجتمعات التي تشهد عنفاً ونزاعاتٍ من أبرز الظواهر السياسية والدينية والقومية، بعد فقدانه الثقة بالانتماء الوطني الكبير.
في الإطار الوطني يغدو الإنسان فرداً في مجتمعٍ يتّسع للمفاهيم القومية والدينية، ويفضّل الفضاء الوطني على القومي والديني بكل ما لهما من مفاهيم ومفردات وطوائف، وثقافات، من دون إنكار الانتماء القومي أو الديني، أنه يشعر لأنّ الدولة تتكفل بحقوقه في وقت تكون العشيرة أو الطائفة أو الجماعة أضعف من أن تحافظ على استمراريتها.
لكن إذا شعر ذاك الفرد بخطر يهدّدُ وجوده، أو مصالحه الفردية في فترة ضعف مؤسسات الدولة يلجأ إلى مظلّته الأكثر ضيقاً «قومية أو دينية» أو أحد شعابهما، لأن الأسوار الوطنية لم تستطع حمايته، وأصبحت هي الأخرى مهددة بالزوال.
في الوضع السوري، الأمر الأكثر خطورة هو التمزّق المُرعِب الذي أصاب نسيج المجتمع؛ فالزلزال العنيف قوّض بُنيةَ الفكر الوطني وحطّم روح الانتماء لدى المواطن السوري، اللذين كانا هشّين من أساسهما نتيجة سياسيات إلغائية عمّقت الشرخ بين مكونات المجتمع، ففقد المواطنُ السّوريُّ روحه الوطنية أمام مَدافعَ وقوى اغتصبت القيم والمبادئ والوجود ليتقوقع داخل إطار ضيق، على حساب الحسّ الوطني المتلاشي في الروح.
من سمات النّظم المستبدة أن تضع الفردَ فريسةً لأهواء الاستبداد الذي قد يطال البنى الثقافية والاقتصادية، أو يضرب روح الانتماء والمشاعر الوطنية، رداً على الممارسات القميئة له يرتدُّ الفردُ إلى قوقعته القومية والدينية، أو قد يكون رافضاً من الأساس لكلّ إجراءاته. إنّه يعيش في جوٍّ من الرُّهاب يُشعِرُه بفقدان كيانه الفردي إن لم يلجأ إلى دائرته الاجتماعية الضّيقة المهددة هي الأخرى من الكيانات الأخرى التي تمزّق الفضاء الوطني وتبني أسواراً لدفاعاته وخططاً للانقضاض على الآخر الذي كان إلى الأمس القريب شريكاً له في الحياة.
فطغيان الثقافة الطائفية على مكونات المجتمع أحد تعبيرات الانهيار الاجتماعي، وغياب الشعور بروح الانتماء الوطني يترك العنان لأيدي الفتك لتنهش بالقريب والمجاور المختلف.
هذا ما يحدث في سوريا، فنرى أنّ المجتمعات «المحلية» ترسم دوائر على نفسها، وخطوطاً لحدود تعاملها مع الآخر يدافع التوجس والخوف بعد فقدانها الثقة معه، وكي لا نكون مثاليين يجب علينا الاعتراف بأنّ الانغلاق الطائفي بين المذاهب الدينية بلغ درجته القصوى في طول سوريا وعرضها، بخلاف الخطاب السياسي الخشبي لكلّ من المعارضة والنظام، فسفكُ الدّماء الغزيرة لأسباب طائفية بحتة، انتقاماً من تأريخٍ موغّل في القدم تُكذّبُ كلا الخطابين. والفرد يتقوقع داخل هذا المجتمع «المحلي» بقيمه الفكرية الدينية والقومية مدافعا عنها.
الروح الطائفية التي سبّبت حروباً دموية في التّاريخ هي نفسها تسبّبت في التمزق الاجتماعي في سوريا، وهيّأت مناخاتٍ مناسبة لحروب قد تطول سنواتٍ عديدة، وانتعاشُها يأتي على حساب انحسار الشعور الوطني.