الـدوفكجـيـة وفلسفـة التحكـم بالآخـر .!

عنايت ديكو 
– دأب الكورد كغيرهم من الشعوب الأصيلة على التعايش مع المحيط واستنباط الحلول في التكيف مع الطبيعة والجغرافيا التي يعيشون فيها وعليها . فأبدع الكورد في رسم الحياة من: الزراعة والرّعي والصيد والغناء والفروسية والقتال ، وبدأ ببناء الحصون والقلاع والدفاع عن الذات،  وأنتج الكورد أيضاً أدباً شفاهياً عظيماً ورائعاً من الأساطير والشعر والزجل والفنون والرقص والغناء ، إلى جانب قصص العشق وملاحم الأبطال، ومهرجانات اللعب، وكرنفالات اللهو والتسلية…!؟. 
لن أسترسل في مقدمتي التنظيرية، للأدب الشفاهي، لكي أركز هنا على سرد قصةٍ من قصصِ ونوادر جبل الكورد – كورداغ ، والمعروفة اليوم بمنطقة عفرين .
– الكثيرة من قرى كورداغ تميزت واشتهرت بوجود مضافاتٍ وبيوتات وأيوانات لأجل السهر والرقص والتجمع الليلي والترفيه عن النفس وسماع ما يجري في العشيرة وحولَها من أخبار وحكايات. وكانت هذه الأيوانات تفتخر أحياناً بوجود حكواتي مُحنّك وذكي فيها،  قادر على ترجمة ما يجري من تفاصيل وتفاعلات ومخاضات المجتمع إلى جانب سردهِ وبأسلوبٍ سلس وجميل ، قصص الفروسية والأبطال وغزل حكايات الآباء والأجداد . وكانت معظم هذه الأيوانات والمضافات تابعة للطبقات الميسورة وخاصة الآغوات منها . حيث يجتمع الناس هناك وتبدأ السهرات بالعزف وبالغناء أو سرد الملاحم وقصص الشوق والحب والحروب واللعب والمبارزات الشعرية وفنون الكلام وغيرها. 
وكانت السهرات تمضي أحياناً بلعبةٍ جد مشهورة في كورداغ وهي ” لعبة الفنجان ” والتي كانت تُعتبر عنصراً جميلاً وهاماً في إغناء السهرات والموائد الكورداغية ، وكان مردود هذه اللعبة من السفرجل … أو الجوز … والرمّان ، أو الزبيب والتين العسلي المُجفف … الباسطيق ، يذهب للجالسين في السهرة وخاصة الأطفال المتابعين الذين كانوا يشجعون بحماسهم فريقاً ضد الآخر .
 وفي الأخير، وبعد الربح والخسارة. تتعالى البسمة والضحك والمرح على وجوه الحاضرين ، وتمضي الليلة هكذا مثل غيرها من الليالي الشتوية الطويلة في كورداغ ، وكانت هذه اللعبة شتوية أكثر منها صيفية ، والكورداغيات من الجدّات والأمهات يخبرن الأجيال بأن ” مـمى آلان ” قد خَسِرَ حياته في مضافة والد ” زيـنـة ” بسبب عدم الانتباه إلى المهارات ومراقبة خصمهِ في اللعب وعدم سيطرته على التوازن والخطط المرسومة للطرف المقابل .
– ففي لعبة الفنجان هذه،  يتنافس عادة أربعة أشخاص على اللعبة ، كل اثنان منهم متعاونان مع بعضهما البعض. حيث يوضع خاتم ذهبي، في فنجانٍ واحد ومقلوب من بين ثمانية فناجينٍ أخرى وفارغة وكلها مقلوبة .
 وفي إعادة كل جولة كان هناك شخصٌ يَتفنن بتوزيع وتغيير أمنكة الفناجين ويُهندسها ويضعها باسلوب جميل وبارع ، بحيث يصعب على اللاعبين معرفة الفنجان الذي يحتوي على الخاتم الذهبي، وعلى الذكي، الحذق، الماهر، البارع، من بينهم  معرفة ذلك الفنجان من بين هذا العدد من الفناجين الأخرى الفارغة والمقلوبة….!؟.
  وكان هذا يتوقف ويعتمد على الحدس وقراءة طريقة التوزيع للفناجين ودراسة مواضهعا وأشكالها الهندسية المختلفة . وفي الأخير، يفوز أحد الفريقين وتكون الهدية للجالسين والحضور، وخاصة الأطفال والشبان منهم. هؤلاء الذين كانوا يشجعون اللعبة في السهرة وهكذا دواليك ، الى أن اختفت هذه اللعبه اليوم وبشكلٍ شبه نهائي تقريباً في كورداغ، مع هيمنة التلفزيون، ومن ثم الإنترنت إلخ…!!!
– لكنْ، ما هو طريفٌ وجميلٌ وغير مرئي ومثير في اللعبة ، ويدفع باللعبة إلى درجات الإثارة والتوازنات والحماس والمنافسة الشرسة والمساهمة في خلق الحدّة ، وتصاعد وتيرة اللعب وإيصالها إلى درجات الصراع الحادّ بين الفريقين .؟ هو وجود جوقة الـدوڤكجية …  ” DÛVIKCÎ ” .
حيث يجلس وراء كل لاعبٍ أساسي شخص يلهب الحماس، يدعى بالـ ” DÛVIKCÎ ” ويقوم هذا الشخص بدور شحذ الهمم وتقديم الخدمات لهذا اللاعب الذي أمامه ، من أكلٍ وشربٍ وتحضيرٍ للشاي والقهوة ولفّ السجائر له والاهتمام به إلى آخر السهرة؛ دون أن يفقد اللاعب الأساسي توازنه وتركيزه واهتمامه بطقس اللعبة وشؤونها، و فور ما  يضع اللاعب الأساسي سيجارته جانباً مثلاً ، أو ينتهي من تدخينها،  ويرمي بعقبها ،! فيقوم هذا الـ ” دوڤكجي ” بتجميع عُقب هذه السجائر المرمية على الأجناب ويُنفث من دخانها، هو بنفسه، بعد إعادة إنتاجها وتدويرها مرّة ثانية ، ولذا تُطلق لفظة الـ DÛVIKCÎ عليهم . هذه بعض خصال هذا النمط من البشر…!!.
– والطامة الكبرى في هذه اللعبة هي في خواتيمها وعند هؤلاء الـدوڤكجية أنفسهم . فإذا تعبوا اللاعبين الأساسيين مثلاً، وأرادوا أن ينهوا لعبتهم ،  وأن ينصرفوا إلى بيوتهم.  فيتدخل هؤلاء الدوڤكجية في سير عملية اللعبة، طالبين من اللاعبين بألا يتركوا اللعبة ، ومن الأفضل أن تستمر ، لتجميع أكبر نسبةٍ من الأكل والشرب وعقب السجائر من حولهم ، ويقول هؤلاء الدوڤـكـجيـة  : لاء … يا جماعة  لاء … تابعوا اللعبة … ما شاء الله اللعبة كويسة جداً وجميلة … ونحن لساعتنا سهرانين يا شباب … فالليلة ما زالت في بداياتها .!!! ، بالرغم من أن الديكة تكون في مثل هذه اللحظة تواصل صداحها، معلنة ببزوغ الفجر،  إلا أن فئة الدوڤكـجيـة لاتكف عن ممارسة فلسفتها التقليدية، المفضلة، دون انقطاع ، محاولين، وبكل ما أوتوا من دهاء ، إقناع اللاعبين باستمرار اللعبة . 
– فالحقيقة يجب أن تقال …. أحياناً كان لهؤلاء ” الدوڤـكـجـيـة ” التأثير المباشر والكبير على الشارع ومجريات الأمور والمجتمع أكثر من اللاعبين أنفسهم . 
* عنايت ديكو 
– بون المانيا 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف   مرت مئة يوم ويوم على سقوط الأسد، لكن الواقع الذي يعيشه السوريون اليوم يتجاوز بكثير الساعات التي مضت. هذه الأشهر الماضية التي تنوف عن الثلاثة كانت مليئة بالتحولات السياسية غير المنتظرة، إلا أن الواقع الأمني والمعيشي للمواطن السوري لم يتحسن بل ازداد تدهورًا. إذ من المفترض أن يكون تأمين الحياة للمواطن السوري هو أولى الأولويات بعد السقوط،…

شيروان شاهين تحوّل الصراع في سوريا، الذي بدأ منذ 14 سنة كحركة احتجاجات شعبية، من حالة صراع بين ميليشيات مسلحة وسلطة منهكة على مستوى أطراف المدن والأرياف إلى صراع طال شكل الدولة ككل. حيث أفرزت الحرب الأهلية واقعًا وعنوانًا جديدًا في 8 ديسمبر 2024: انهيار دولة البعث وإعلان دولة القاعدة. تميّز حكم البعث، الذي بدأه أمين الحافظ “السني”…

اكرم حسين   طرح الأستاذ عاكف حسن في مقاله هل ما زلنا بحاجة إلى الأحزاب السياسية؟ إشكالية عميقة حول جدوى الأحزاب السياسية اليوم، متسائلاً عمّا إذا كانت لا تزال ضرورة أم أنها تحولت إلى عبء ، ولا شك أن هذا التساؤل يعكس قلقاً مشروعًا حيال واقع حزبي مأزوم، خاصة في سياقنا الكردي السوري، حيث تتكاثر الأحزاب دون أن تنعكس…

صلاح عمر   ثمة وجوه تراها حولك لا تشبه نفسها، تبتسم بقدر ما تقترب من الضوء، وتتجهم حين تبتعد عنه. وجوهٌ لا تعرف لها ملامح ثابتة، تتشكل وفقًا لدرجة النفوذ الذي تقترب منه، وتتلون بلون الكرسي الذي تطمح أن تجلس بقربه. هؤلاء هم “المتسلقون”… لا يزرعون وردًا في القلوب، بل ينثرون شوك الطمع على دروب المصالح. لا تعرفهم في البدايات،…