د. محمود عباس
“الآخر” قريبك في العقل، ولا يأثم إلا عن جهل منه بما هو خير، إذن علمه أو احتمله. (القيصر ماركوس أوريليوس)
في هذه الظروف الحساسة، لا بد للحركة الكردية، العمل على دروب جديدة، وبأساليب مغايرة للتي فرضتها السلطات المستعمرة لكردستان، ومن المستحسن تجاوز منطق احتمالات النجاح والفشل في مسيرتنا وعند تحديد المستقبل القادم، وترجيح القناعة بنسب النجاح، وتجاوز حدود التخمين، أي بما معناه نخلق الأمل بين الشعب، بالتركيز على أنه لنا شروق، ونوضح خلفيات العتمة، والتي تستند عليها السلطات المستعمرة لكردستان، المستغلة خلافاتنا، التي تهدم الأمل فينا، لفرض أجنداتها، فعوضا أن نتحاور على بعض الأساسيات، نجرف بعضنا وبدون هوادة إلى مستنقع الضياع، ونسهى عن أن لهذه الخلافات وجوه أخرى، وعلينا أن نقنع ذاتنا والحركة السياسية والمجتمع بانه لا تنقصنا الحنكة، والتماهي مع الوجه الأخر، أي نستخدم الخداع مع الأعداء كما يستخدمونه معنا، أو كما يسمونها الدبلوماسية، لنحافظ على كليتنا ككرد، وتحالفاتنا الإقليمية، ونداري بها تصعيد حقد المستعمر، إلى أن نملك القدرة على التحرر، أو إيجاد البديل.
تتحمل تبعات قسم كبير من تفاقم الخلافات، أغلبية النخبة الثقافية، تقع على عاتقها الحد من الصراعات وحصرها في حدودها الدنيا، والوقوف في وجه حملات تأجيجها، وحصرها في حدودها المقبولة، ليس فقط بين الأحزاب، بل المنتشرة بين المجتمع، وبها يمكن الحد من تفاقم ابتعاد أمل بلوغ الغاية، ومضاعفة أمكانيات التحرر من الإملاءات الإقليمية. وتقع على عاتقنا خلق الحنكة مكان السذاجة عند الحركة السياسية، عند التعامل مع القوى الإقليمية، وإيجاد الدواء للوباء المستشري، المبعد لاحتمالات التحرر، والتي بسببها يتفاقم بيننا التلاسن والتخوين، وعدمية الثقة بالذات.
لربما الأغلبية يتناسون أن التناقضات، في مسيرة الشعوب والتاريخ أفضل من الاتساق، أو التماهي في الاتفاق المطلق، المؤدية إلى نهايات هزيلة وسلبية، وأحيانا تصبح وبالا، فمعظم المفكرين والفلاسفة وعلماء الاجتماع يؤكدون أن التناقضات كانت الحافز الأكبر على التطور البشري بعكس الاتساق، ولا نستبعد أن هذه النظرية تنطبق على التناقضات الفكرية أو الإيديولوجية بين أطراف الحركة الكردية، إذا امتلكوا نباهة استغلالها. وبشكل أوضح، كان يجب تقبل تعامل ال ب ي د مع السلطة القائمة كأمر واقع، وعدم معارضة تعامل المجلس الوطني مع الائتلاف والمعارضة، وكان بإمكان الطرفين الاستفادة من هذه التناقضات، بأن لا يحولهم عن التحاور على الأساسيات، وعدم التعمق في الصراعات التي أدت إلى إفراغ المنطقة من الشعب، وفتح الأبواب للأعداء باتهام الطرفين بالخيانة، وبالانفصاليين، وغيرها من المواصفات الخبيثة، والتي للحركة الكردية دور في تسهيلها.
يمتلك الكرد طاقات خام هائلة، تحتاج إلى شريحة تعلم كيف تسخرها في الطريق الأصوب، ولكننا بالعكس لا نكتفي بتقبل الضعف؛ والأوبئة المستشرية فينا، بل نغرسها في شرائح واسعة من المجتمع، لنزيد من احتمالية السقوط ثانية بعد الصعود، والعودة إلى زوايا النسيان بعد الحضور الدولي، ونسهل احتماليات انتقال الأعداء من حالة حبك المؤامرات، والمواجهة المباشرة وتشويه تاريخنا، إلى مرحلة الاكتفاء بالسخرية منا قدراتنا، وهذه تتبين بشكل واضح عندما يفرضون عل الحركة الكردستانية تصعيد الصراعات بين بعضهم عند الضرورة، ويبتهجون، بل تتزايد نسبة نجاحاتهم، عندما ننتقل من الخلافات إلى التلاسن إلى التخوين، فهل علينا أن نتقبل هذه الإملاءات، ونيأس ونقول أن المرحلة القادمة ستكون أخطر، كأن نكرر تجاربنا السابقة، في سيل الدماء لا سامح الله، والأمثلة مرعبة في تاريخنا، أم علينا أن نذكر بعضنا أن الأعداء ليسوا بأذكى منا، وقدراتهم ليست بأضخم من الخامات الموجودة في الشعب الكردي، وعلينا أن نبحث عن خلق البديل.
ومن الغريب أن الأحزاب الكردية لربما لا تنتبه، إلى أن الواقع الفعلي للتصاعد الكردي ظهر على خلفية نسبتهم الديمغرافية في المنطقة وامتدادهم الجغرافي، واحتياجات القوى الخارجية لهم، قبل أن تكون على خلفية نشاطاتهم السياسية، لذا فعلينا أن ندرك وبعمق إلى أنه لشعبنا طاقات خام كافية لبناء الوطن، والسيادة الذاتية، فقط نحتاج إلى أن نتعلم كيف نجمعها ونسخرها بعقلانية، وبشراكة أو على الأقل بتفاهم.
وعوامل عديدة جعلتنا نسهى أو نتناسى، الحقيقة السابقة، وبأنه لدينا من الإمكانيات الكافية، ليس فقط لنتحرر، بل ونسود في المنطقة، بمفاهيمنا الديمقراطية، ونهجنا في التعامل، حيث السلام والتآخي، والتأثير على المجتمعات المجاورة، لكن وللأسف لا نسخرها، بل نستمر في تطبيق ثقافة السلطات الاستبدادية، ونتمادى في أفعالنا الخاطئة والمعيقة لنضالنا، ونظل ضعفاء أمام الأعداء، سهل التبعية عندما يقودوننا، ونستسهل أقصى ما تبتغيه مربعاتهم الأمنية منا، خاصة الموجهة ضد الكردي الآخر، بألا نستصعب خلق الموافقة أو السير في تحالفات كردية كردية حتى ولو تجاوز البعض منا وتسلط في القيادة.
وهذه الثقافة في عمقها غريبة وشاذة عن مجتمعنا، والمضادة لها علمتنا بأن تكون كلماتنا حادة وقاسية، عندما نواجه بعضنا في خلاف ما، ونبلغ سويات التلاسن مع الصديق الذي عايشناه عقود. ولمجرد نقد فكري أو سياسي ما، نستطيع أن نوجه لبعضنا أبخس الكلمات، ونقضي على النسبية في تقييمنا لذاتنا والآخر المخالف، ونلغي رجحان الخطأ والصواب في مفاهيمنا وعلاقاتنا وتعاملنا، ونضع ذاتنا كالإله في مطلق الأحكام، وندحض النقد وإيجابياته، ولا ننتبه بأنه لكل نقد وجه جميل بالإمكان الاستفادة منه، ودون أن ننتبه إلى أنه لربما علينا أن نشكر الناقد في بعضه، حتى وفي حالة الرد، حتى ولو كان تهجماً، أو منجماً، ولا ندرك بأنه يمكن استغلال الخلافات وأبعاده لصالحنا، وهو ما تفعله النخبة في المجتمعات الحضارية التي نعيشها، في الشارع وضمن أروقتها السياسية ومراكزها الثقافية.
نماذج الخلافات بين الأصدقاء، أو بين كرديين، تساق على الكتل السياسية أيضا، فمعظم القراءات أو الانتقادات متشابهة المنهج والمفاهيم، لأن الخلفيات الثقافية التي تحدد المسارات الشخصية، هي ذاتها للحركة الثقافية أو السياسية، وللجهتين عللها، ومآلاتها، ناتجة عن أمراض نفسية، وضعف مترسخ في اللاشعور. مع ذلك لا نود أن نعاين ذاتنا ولا حتى نتعرف على عللنا، بل ولا نتعرف على التشخيص، إلا عندما يأتي وحي ما؛ لنبي ما ويقنعنا بأنه لدينا علل، ولها أدوية، ومن أدويتها خلق البديل في الذات قبل المجتمع. ومن علننا أنه عندما نحلل خلفية غياب الوطن في واقع الشعب الكردي، والذي تعداده يتجاوز جميع الشعوب المحاطة، إذا سلخت من تكويناتها الاستبدادية، نسوق أجوبة جهزها لنا الأخرون، لإراحة الضمير، ونختصرها باننا مشتتون ونحن على خلافات دائمة، ونتناسى بأنها صور نمطية شاذة ركبها الأعداء في ذاكرتنا، ولا نبحث في أسبابها، ولا نستغل قدراتنا؛ لاستخراج نتائج إيجابية مغايرة لأجندات السلطات الاستعمارية، والتي تجبرنا على الاقتناع المسبق بالفشل؛ وتلهينا على استغلال الفرص المناسبة للتحرر. لست طوباوي، ولا أطلب المستحيل، فالمطروح طبقه شعوب، كانت في حكم العدم، وتمكنت من خلق السيادة بل وبعضها سادت على الأخرين ولقرون طويلة، فقط نحتاج إلى الثقة بالذات، وتقبل البعض كما نحن، ونتعامل كما يريده الكردي الأخر لما كما يريده الأنا.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
14/11/2016م
كلمة المحرر لجريدة بينوسا نو العدد (55) الناطقة باسم الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا.