شاهين أحمد
في الأول من شهر شباط 1979 عاد ” الخميني ” إلى طهران – بعد أربعة عشر عاما قضاه في المنفى – محاطاً بحماس الملايين من أنصاره ومؤيديه قائدا لحركة شعبية عارمة ، عمت مختلف المناطق في إيران ، وبمشاركة مختلف مكونات الشعوب الإيرانية في هذه الاحتجاجات المناوئة لنظام الشاه ، والمؤيدة للحركة الجديدة وقائدها – أملا في التغيير والتخلص من الظلم – الذي أصبح رمزا مقدسا بالنسبة للكثيرين من أنصاره ومؤيديه حتى يومنا هذا . حيث استقبلته الجموع الغفيرة المحتشدة لدى ترجله من الطائرة وسط شعارات ” السلام عليكم أيها الإمام الخميني “. وفي كلمة مقتضبة في المحتشدين أوضح الخميني في اليوم نفسه رفضه للنظام القائم حيث ألغى حكومة رئيس الوزراء ” بختيار” وعين منافسه ” مهدي بازركان ” مؤقتاً رئيساً للوزراء وقال: “بما أنني قد عينته، فيجب أن يطاع “،واعتبر أنها “حكومة الله ” وحذر من عصيانها، فأي عصيان لها “عصيان لله “، وأعلن الخميني الجهاد على الجنود الذين لم يسلموا أنفسهم،وحقق الانتصار الكامل على المنظومة العسكرية في 11 شباط من العام نفسه .
الهبة العارمة التي رافقت هذه الحركة غابت عن ظهورها وقيامها الأسباب المباشرة كالأزمات المالية، أو الهزائم العسكرية مع التأكيد على وجود الكثير من الأخطاء والثغرات والقضايا التي لم يعالجها نظام ” الشاه ” – وبقيت دون معالجة حتى يومنا هذا ، وفي مقدمتها قضية الشعب الكوردي والأهوازيين ….الخ – والتي تسللت من خلالها أنصار ” الملالي ” إلى مختلف مفاصل المجتمع الإيراني وسرعان ماتحولت هذه الحركة إلى انقلاب دموي وكابوس وكارثة على شعوب إيران لسنا بصدد شرحها في هذه المساهمة التي نريد لها ان تلقي الضوء على بعض جوانب موضوعنا الذي يكتسب أهمية كبيرة وخاصة في هذه المرحلة التي تنذر بالكثير من التحولات والمفاجآت على مستوى الشعوب والدول والخرائط .
بعد سقوط الحكم ” الشاهين شاهي ” في طهران على يد رجال الدين بقيادة ” الخميني ” في 11 / 2 / 1979 بدأ الفريق الجديد الحاكم في طهران ” بزي ” مذهبي إسلامي” يعي ” جيدا أن الاستثمار في الإسلام السياسي وبلون مذهبي يُسهّل عليه التوسع والتدخل في شؤون الدول الأخرى، وكذلك المشاركة في إدارة الصراعات الإقليمية ، ولتوسيع سيطرته وهيمنته على مستوى المنطقة، وإعادة إنتاج نظامه القائم على مركز قوي للقرار وأطراف تشكل أذرع تابعة .
واستطاع الفريق الجديد الحاكم خلال فترة قياسية من بذل جهود كبيرة وتمكن من تشكيل مرجعية أنجزت منظومة متكاملة من الفتاوى الدينية التي استندت إلى خلاصة المعارك الفقهية التي حصلت خلال التاريخ القديم والحديث والمعاصروالتي أفرزت وحدات مذهبية مؤدلجة سياسيا في إطار الدين الإسلامي ، وبعد سيطرت ” الملالي ” على الحكم في إيران تطورت المواجهات واشتد الصراع ضمن هذا التباين الموجود في حقل الاجتهاد والتصادم المعرفي بين الوحدات المذهبية ، وذلك نتيجة حشر النصوص الدينية المقدسة في الوحدات المذهبية المؤدلجة وخلطت الشريعة بالفقه وأفسحت المجال واسعا لتغليب الاجتهاد على الشريعة وأصبحت هذه التباينات تأخذ أشكالا جديدة أكثر عنفا وتطرفا .
استخدمت إيران الإسلام السياسي – المذهب الشيعي تحديدا – كسلاح معنوي قوي وبشكل فاعل أثناء الحرب العراقية – الإيرانية التي بدأها المقبور ” صدام حسين ” واستمرت ثمانية أعوام وخلفت مئات الآلاف من الضحايا ، وكذلك كان المذهب الشيعي ذريعة التدخل الإيراني في كل من :
1 – لبنان : من خلال ذراعيه ” حزب الله ” بزعامة حسن نصرالله بشكل أساسي و” حركة أمل ” بزعامة نبيه بري ، وهناك اليوم دويلة قوية خاصة بحزب الله داخل الدولة اللبنانية ، وبقدرات عسكرية تفوق قدرات الجيش اللبناني عددا وعدة ومنظومات خاصة بالحزب في مجالات الاتصالات والبنوك والنقل والأمن ….الخ .
2 – البحرين : من خلال ” جمعية الوفاق الوطني الإسلامية البحرينية ” ومحركها الأساسي الشيخ الشيعي ” عيسى أحمد قاسم ” ومحاولة إيران المتكررة لإثارة الاضطرابات من خلال هذه الجمعية .
3 – اليمن : من خلال ” حركة أنصار الله ” وكانت تسمى ” بحركة الشباب المؤمن ” وهي حركة سياسية قي جوهرها ، دينية مذهبية في ظاهرها ، مسلحة تسليحا جيدا من قبل إيران وتتخذ من محافظة صعدة شمال اليمن مركزا رئيسيا لها. عرفت بالاعلام باسم ” الحوثيين ” نسبة إلى مؤسسها ومرشدها ” بدر الدين الحوثي ” . قامت بانقلاب على الحكومة الشرعية بالتعاون مع الرئيس اليمني المخلوع ” على عبد الله صالح ” . وأصبحت تهدد دول الخليج العربي بشكل عام والمملكة العربية السعودية بصورة خاصة .
4 – العراق : من خلال الأغلبية الساحقة للواجهات السياسية الشيعية العراقية مثل نوري المالكي وإبراهيم الجعفري ومقتدى الصدر وحيدر العبادي وجميع الفصائل والميليشيات المسلحة الشيعية حيث هناك أكثر من 50 فصيلا من الميليشيات الشيعية المسلحة التي تقوم بالتجنيد والقتال في العراق مثل الحشد الشعبي بزعامة ” هادي العامري ” وعصائب أهل الحق بزعامة ” قيس الخزعلي ” وحركة ” النجباء ” بزعامة ” أكرم الكعبي ” وألوية أبو الفضل العباس ……الخ ويشرف قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني ” قاسم سليماني ” على جميع هذه التشكيلات والميليشيات الطائفية المسلحة ، وأصبحت إيران تسيطراليوم بشكل شبه كامل على الحكومة الاتحادية في العراق . ولها دور هام في المعارك التي تجري في محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين …الخ ومايرافق تلك المعارك من عمليات تطهير مذهبي من قتل وتهجير قسري .
5 – سورية : من خلال رأس النظام وكامل المنظومة الأمنية والعسكرية وتشارك بقوة وبصورة علنية في الحرب إلى جانب نظام الأسد ضد الشعب السوري وثورته بحجة حماية المراقد والمزارات الشيعية المقدسة ، واستقدمت لهذه الغاية وتحت شعارات دينية مذهبية الآلاف من الميليشيات الشيعية من لبنان والعراق وأفغانستان …..الخ .
6 – تركيا و كوردستان : من خلال منظومات حزب العمال الكوردستاني PKK المتعددة المسميات والمنتشرة في أكثر من جزء من كوردستان وتركيا وبعض القوى المتحالفة معه مثل حركة التغييروأوساط من حزب الاتحاد الوطني بقيادة ” هيرو ابراهيم أحمد ” حرم الرئيس العراقي السابق ” جلال الطالباني ” .
ويؤدي هذا التدخل شيئا فشيئا إلى إعادة توزيع مناطق النفوذ ورسم الخرائط، وأداة لإشعال الحروب الأهلية والطائفية بشكل أوسع، وإعادة تسليح المنطقة، وتحويل كل اقتصادها إلى اقتصاد حرب، وتجارة فساد، وانتشار العصابات والمافيات والفوضى العارمة ، وكذلك إلى التهجير القسري للسكان الأصليين وتغير التركيبة السكانية في الكثير من المناطق كما يجري في محيط دمشق في الغوطتين وكذلك في أكثر من مدينة وبلدة في العراق .
ولعل المفارقة المثيرة، في هذه التجربة هي ميلاد وتطور الفكرة – تصدير الثورة – ودولتها الشيعية ، تكمن في أن مرشدها ” الخميني ” هو كاهن هندي ليس في عداد ممن يمكن احتسابهم بالمتدينين الإسلاميين ، أو الملتزمين بالعقيدة المذهبية الشيعية . لم يكن أبدا من المهووسين بالدين الإسلامي ومذاهبه ، بل كان من ذوي التكوين الفكري والقيمي المنتمي إلى منظومة مختلفة ومفصولة تماماً عن سلطة الفكرة الدينية الإسلامية . لم يكن التدين عنده إلا طقساً اجتماعيا تماماً وليس مادة للتوظيف والاستثمار في الحقل السياسي والتدخل الدولتي !.
وعلى الرغم من هذه المفارقة الحادة، فقد نجح الفريق الذي شكله وقاده ” الخميني ” والذي اختبأ تحت ” العمامات ” في أن يستثمر الدين الإسلامي بلونه المذهبي الشيعي استثماراً سياسياً ناجحاً، وبنى حركة سياسية في تكوينها الباطني ، دينية مذهبية في تكوينها الظاهري وانتشرالمشروع السياسي الإيراني تحت عباءة دينية مذهبية (ظاهرة التشيع) وأصبحت قوية النفوذ في أوساط المسلمين ، وتنتشراليوم في الكثير من الدول من شمال افريقيا وحتى اندونيسيا . واستطاع هذا الفريق أن يجمع لمشروعه الدعم من مال ورجال وسلاح، وتدريب المقاتلين على خوض “حروب مقدسة ” خارج حدود إيران ، ويحتل الأرض ويكتسب الموالين ويقيم الحكومات الموالية عليها، ويلحق الهزائم بالأمم الأخرى المتاخمة والمنافسة . وأصبحت كل الأطر والأحزاب والميليشيات المسلحة المذكورة وفي مختلف الدول بدءا من العراق ومرورا بسوريا ولبنان واليمن والبحرين ….الخ تعلن تابعيتها وولائها ” للولي الفقيه ” وإيران أكثر من ولائها لقوميتها أو وطنها .