جان كورد
في الوقت الذي يسجل بيشمركة كوردستان أروع صفحات البطولة والفداء لتحرير أرض بلادهم من إرهاب داعش، وتجتاز جنازة الشهيد الدكتور سليمان (سعيد جوروكايا) الحدود بين جنوب كوردستان وشمالها في ظل الراية الكوردستانية التي آمن بالكفاح من أجلها هذا الثائر الكبير، ويطالب الأحرار في العالم كله بالإفراج عن السيد صلاح الدين دميرتاش المعتقل بسبب نشاطه ونشاط حزبه من أجل دمقرطة تركيا، يبعث هذا “الكوردي” الآخر من معتقله رسالة حب ووفاء لرفاقه إلا أنه لا يذكر أن هذا الشعب الذي تم اعتقاله من أجله هو الشعب الكوردي، وليس أي شعبٍ آخر، وهذا ما يزعج المناضلين الكورد وأصدقاءهم في كل مكان من العالم أيضاً، فالمقاتل الشهيد (الدكتور سليمان) الذي ضحى بنفسه من أجل شعبه يختلف عن هذا السياسي الشاب الذي اتخذ لنفسه وحزبه طريقاً مختلفاً، فهو يرفض اعتبار حزبه كوردياً أو أن له أهدافاً قومية، وإنما يناضل من أجل دمقرطة تركيا، ولكن الأتراك لا يصدقونه ويزجون به في السجن وهو نائب منتخب من قبل الشعب،
هذا الانكار للذات الكوردية ليس نكتةً أو مجرد غفلة أو انكاراً عابراً وإنما “سياسة” يدافع عنها مؤيدو السيد دميرتاش بحزم وعزم، ورسالته من سجنه تذكرنا بتصريح للسيدة نورسل آيدوغان، رفيقته في القيادة لحزب الشعوب الديموقراطي (أنظر الرابط أدناه) تم نشره في اليوتيوب في(28.06.2015)، طالبت فيه السيدة آيدوغان الرئيس التركي أردوغان باحتلال جنوب كوردستان، ليقطع الطريق بذلك على إعلان السيد البارزاني لاستقلال كوردستان، حسبما أكد لنا أحد الأصدقاء العارفين بالتركية، في حين أنكر آخر ذلك، في رسالة مقتضبة لنا:
هذا التناقض الواضح يعكس حقيقة أن الخلاف الكوردي الذي يبدو وكأنه أزلي يجري في دماء هذا الشعب الذي إن توحّد فسيكون قادراً على تحقيق المعجزات، إذ عندما توحد أسلافه الميديون تحت راية داياكو، قبل ميلاد المسيح بمئات القرون تمكنوا من القضاء المبرم على أعتى وأشرس الإمبرطوريات المحاربة آنذاك: آشور، وعندما اصطف الكورد جميعاً خلف السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، تمكن من تحرير بيت المقدس والحاق الهزيمة بأوروبا الصليبية كلها وتحقيق الوحدة بين مصر وسوريا، وحكم المنطقة من بحيرة وان شمالاً إلى مضيق باب المندب جنوباً، ومن العراق إلى ليبيا، كما وحد شعوب المنطقة تحت رايته المظفرة طوال حكم أنجاله من بعده لأكثر من قرنٍ من الزمن.
الخلاف السياسي الداخلي ليس بين طرفين حزبيين أو زعامتين فقط، وإنما هو خلاف مستمر يؤدي إلى تمزقات وانشقاقات وصداماتٍ مسلحة، ويؤدي أحياناً إلى تقتيل وتشريد وخرقٍ شديد لحقوق الإنسان. وقد حدث هذا خلال قرونٍ عديدة، في ظل الدولة العثمانية، بين العديد من العشائر والقبائل الكوردية، كما يحدث منذ نشوء الحركة السياسية الكوردية بين الأحزاب والتنظيمات السياسية التي ترى نفسها أشد تطوراً وتقدماً من تلك العشائر والقبائل مع الأسف.
من منا لا يتذكّر بمرارة الصراعات المسلحة في جنوب كوردستان بين الأطراف المختلفة، لعقودٍ من الزمن، إرضاءً لدولٍ إقليمية أو نزاعاً على مناطق نفوذ أو صراعاً كما هو اليوم على المناصب والأموال؟ أفلا يذكرنا هذا بقتال الهنود الحمر بين بعضهم بعضاً في ذات الوقت الذي كان الغزاة الأوربيون يستمرون في إبادتهم أو يشردونهم من مواطنهم وينتزعون منهم كل أسباب الحياة والتمدن؟
ولننظر إلى شرق كوردستان، فسنجد نظاماً استبدادياً ببرقع ديني وطائفي متزمت، يعدم شباب الكورد فرادى وجماعات في الساحات العامة، إلاّ أن الحركة القومية لم تنتهِ بعد من الحوارات الطنانة والرنانة حول ضرورة الوحدة الوطنية في مواجهة الإرهاب الذي تمارسه الطغمة المستبدة بها كلها. وفي شمال كوردستان نرى بوناً شاسعاً بين الذين يناضلون من أجل انتزاع الحق القومي لشعبهم والذين لا يريدون هذا الحق، ويطالبون ب”دمقرطة تركيا الأتاتوركية!” بعد أن قدموا عشرات الألوف من شبابنا ضحايا من أجل أحلامهم الأممية التي تبخرت في الواقع الأليم لتركيا. بل لا يكتفون بذلك وإنما يمارسون ذات السياسة القمعية للدولة على منافسيهم في الساحة السياسية الكوردية، فيعتقلون إخوتهم، أحرار الكورد، ويزجون بهم في السجون، كما تفعل تركيا أردوغان بإخوتهم…
وفي غرب كوردستان، خلافات عوضاً عن خلافٍ واحد، أحزاب تفرخ أحزاباً، وشخصيات تنقلب من خندق إلى خندق لأتفه الأسباب ولعدم القدرة على حل المشاكل التنظيمية فيما بين المتنازعين من الرفاق، وتحالفات تظهر ثم تنكسر وتختفي، وبرامج سياسية تصبح في فترةٍ وجيزة حبراً على ورق…. ولا أحد يستطيع تعداد أسماء التنظيمات العاجزة حتى عن حماية رئيسها أو زعيمها، وهناك من لا يتوانى عن التعاون مع النظام الأسدي الدموي الشرس ومع حزب الله الللبناني، عدو الشعب السوري، ومع إيران التي تسعى لاحتلال المشرق العربي برمته والتي موقفها من حرية الكورد معروف تماماً، بل لا يتوانى هؤلاء عن الامتثال لعدوهم الأممي وتنفيذ خططه كتحرير الرقة العربية، والخروج منها بعد تنفيذ المهمة بدماء الكورد، إلا أنهم غير قادرين على تحرير أنفسهم من عقدة التسلط على شعبهم والاستبداد المطلق به، و يظنون أنهم ثوار، وهم في الحقيقة ليسوا سوى أتباعٍ لإرادة هذا العدو أو ذاك من أعداء الأمة الكوردية.
هذا الخلاف الكوردي المستديم المتمكن من نفوس زعماء وقادة الحركة الوطنية الكوردية هو أكبر عائق أمام تحرير الكورد وتوحيد وبناء كيانهم القومي الذي هو حق شرعي ومشروع، ولذا فإن الذي يريد الحرية لشعبه يجب عليه العمل على كشف أسباب الخلاف وجذورها في الحياة السياسية والاجتماعية للكورد، والمساهمة في تقريب وجهات النظر وتوحيد الاستراتيجيا الوطنية وبناء التحالف القومي المتين الذي أساسه وحدة التنظيمات السياسية قبل أي نضالٍ آخر.