في ذهنية الجدران العازلة

د. ولات .ح. محمد
   بدأت السلطات في تركية منذ سنتين ببناء جدار إسمنتي على طول حدودها مع سوريا التي تتجاوز 900 كم. وقد أعلنت اليوم أنها ستنتهي من بنائه العام القادم. وقد كان الهدف المعلن – ولا يزال – من ذلك الجدار هو منع المتسللين من الأراضي السورية بطريقة غير شرعية إلى الداخل التركي، ولكن الهدف الجيوسياسي من هذه الخطوة يفرض نفسه بقوة. فبعد أن اختلطت الأوراق نتيجة خيبة الحسابات المتعلقة بمآلات الوضع السوري أعاد الجميع حساباتهم وترتيب أوراقهم من جديد بما فيهم المسؤولون الأتراك، خصوصاً عندما شعروا أن كياناً ما قد ينشأ على حدودها الجنوبية وإن لم يكن بصيغة كوردية معلنة، وأنه قد لا يكون بمقدورهم منعه إلا بشن حرب وهو أمر لم يره الأتراك ممكناً، خصوصاً قبل سنتين حين كانت الحكومة التركية تعاني من عزلة إقليمية ودولية في آن معاً.
اليوم وبعد أن تغيرت الحسابات رأت الحكومة التركية نفسها أقوى مما كانت عليه سابقاً نتيجة إعادة علاقاتها مع كل من إسرائيل وروسيا وجزئياً مع إيران وربما من تحت الطاولة مع النظام السوري في بعض الملفات، فأعلنت عن استكمالها بناء الجدار العازل الذي تظنه عاملاً كافياً لعزل الكوردي عن الكوردي أو لعزل جغرافيتين له ترى في انفتاح إحداها على الأخرى عامل زعزعة لأمنها الداخلي ودافعاً لاستمرار الكوردي في حلمه طالما أن بإمكانه رؤية شقيقه في الدم على الجانب الآخر من الحدود.
   الجيش التركي تمكن من السيطرة على شريط حدودي بطول 90 كم داخل الأراضي السورية بعد أن رأى الضوء الأخضر من الروس وصمتاً أمريكياً وسورياً نتيجة صفقات تمت على مبدأ ” حكّ لي لأحكّ لك ” و ” يا بخت مين نفّع واستنفع “، ولكن لم ينهِ هذا التطور القلق التركي، فالموازين والتحالفات قد تتغير في أي وقت، وشرق الفرات ما زال ممنوعاً عليه دخوله، وسيطرته على الشريط غرب الفرات فقط لا تبعث على الاطمئنان تماماً، وخصوصاً أن ثمة كلاماً حول دعم أمريكي لإقليم كوردي في حال ذهاب سوريا إلى أي شكل من أشكال الفيديرالية أو الإدارات الذاتية، وهو أمر سيكون واقعاً لن تستطيع الحكومة التركية منعه لأنه سيأتي في إطار الحل الشامل للوضع السوري أو سيكون أمرأ واقعاً محمياً من دولة بحجم أمريكا.  كل هذا دفع الحكومة التركية إلى التأكيد على استمرارها في استكمال الجدار العازل كنوع من الدفاع عن النفس أو حمايتها على الأقل طالما أنها عاجزة عن تغيير مجرى الأحداث.
  من حيث المبدأ من حق أية دولة اتخاذ التدابير اللازمة لحماية أمنها الداخلي. ولكن سياسياً لم يسجل التاريخ أن قضية ما تم حلها أو إنهاؤها بإقامة الجدران العازلة، والقضية الكوردية ليست استثناء. فإذا نجحت الحكومة التركية في فصل ديريك وقامشلي وكوباني وعفرين عن شقيقاتها من الجهة التركية فهل ستقوم بالفصل بين كل من نصيبين وماردين وآمد وشرناخ ووان … أيضاً ؟؟. 
   قضايا الشعوب الكبرى لن تحل بهذه الطريقة؛ فإذا أفلحتم في إجبار الكوردي على التخلى عن فكرة توحيد كوردستان بإقامتكم الجدران العازلة بين أجزائها فإنه لن يتخلى أبداً عن المطالبة بحقوقه داخل الجغرافيات التي تعد موطناً تاريخياً له كلاً على حدة.
   لكل ذلك آن لكم في حكومات تركيا وغيرها أن تفكروا بطريقة أخرى مختلفة عن مناهج أسلافكم الممتدة على مدى مئة عام إذا أردتم لشعوب هذه المنطقة سلاماً ولبلدانها التنمية والازدهار؛ فالحل يكمن في إزالة جدران الوهم والكره والحقد والشك التي بناها السابقون في نفوس شعوبهم وفي عقولها تجاه جيرانهم الكورد لا في بناء جدران الإسمنت التي لن تكون أقوى من سابقاتها ولا أكثر منعة. 
فهل أفلحوا في الأولى حتى تعززوها بالثانية ؟؟!!!

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين من المعلوم انتهى بي المطاف في العاصمة اللبنانية بيروت منذ عام ١٩٧١ ( وكنت قبل ذلك زرتها ( بطرق مختلفة قانونية وغير قانو نية ) لمرات عدة في مهام تنظيمية وسياسية ) وذلك كخيار اضطراري لسببين الأول ملاحقات وقمع نظام حافظ الأسد الدكتاتوري من جهة ، وإمكانية استمرار نضالنا في بلد مجاور لبلادنا وببيئة ديموقراطية مؤاتية ، واحتضان…

كفاح محمود مع اشتداد الاستقطاب في ملفات الأمن والهوية في الشرق الأوسط، بات إقليم كوردستان العراق لاعبًا محوريًا في تقريب وجهات النظر بين أطراف متخاصمة تاريخيًا، وعلى رأسهم تركيا وحزب العمال الكوردستاني، وسوريا وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، في هذا السياق، يتصدر الزعيم مسعود بارزاني المشهد كوسيط محنّك، مستفيدًا من شرعيته التاريخية وصلاته المعقدة بجميع الأطراف. ونتذكر جميعا منذ أن فشلت…

خوشناف سليمان في قراءتي لمقال الأستاذ ميخائيل عوض الموسوم بـ ( صاروخ يمني يكشف الأوهام الأكاذيب ) لا يمكنني تجاهل النبرة التي لا تزال مشبعة بثقافة المعسكر الاشتراكي القديم و تحديدًا تلك المدرسة التي خلطت الشعارات الحماسية بإهمال الواقع الموضوعي وتحوّلات العالم البنيوية. المقال رغم ما فيه من تعبير عن الغضب النبيل يُعيد إنتاج مفردات تجاوزها الزمن بل و يستحضر…

فرحان مرعي هل القضية الكردية قضية إنسانية عاطفية أم قضية سياسية؟ بعد أن (تنورز) العالم في نوروز هذا َالعام ٢٠٢٥م والذي كان بحقّ عاماً كردياً بامتياز. جميل أن نورد هنا أن نوروز قد أضيف إلى قائمة التراث الإنساني من قبل منظمة اليونسكو عام ٢٠١٠- مما يوحي تسويقه سياحياً – عالمياً فأصبح العالم يتكلم كوردي، كما أصبح الكرد ظاهرة عالمية وموضوع…