احتفاءً بعمالة البارزانيين

ماجد ع محمد 
     “إذا أتَتْكَ مَذَمّتي من نَاقِصٍ فَهيَ الشّهادَةُ لي بأنّي كامِلُ”
أبو الطيب المتنبي
لا شك بأن شهادة مَن كان متمرغاً في الفساد أحياناً لا تقل أهمية عن شهادة المتزن الحصيف، ومع ذلك لن نطيل بالحديث عمن وجه الاتهامات إلى مسعود البارزاني، وذلك باعتبار أن قيح حُكمه زكم مناخ العراق ككل، لذا فبخصوص مَن سهل ومهد طريق الدخول الى الموصل للميكروبات الداعشية نحيل القراء إلى بعض ما كتبه الإعلامي العراقي أنور الحمداني في رده على نوري المالكي، منها أن ما تعرض له أهالي القرى في كركوك يتحمله محافظ كركوك وليس مسعود البارزاني، والمحافظ مسؤول تنفيذي واداري يتبع الى الحكومة المركزية لا الى حكومة الاقليم ويخضع لسلطة رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي، والمحافظ مسؤول في الاتحاد الوطني الكردستاني المقرب جداً من حزب المالكي فما دخل البارزاني بالموضوع إذاً؟
وأن من باعوا آثار العراق ونسخ توراته وأوصلها الى اسرائيل بعد العام 2003، كانوا من جماعة المالكي، ولم يكن البارزاني، ومن استقبل الوفود الاسرائيلية ورجال الموساد في بابل وبغداد وغيرها وسمح لها للعمل كشركات واستثمارات، بأسماء مختلفة ووهمية مابين 2006 – 2014 هي حكومة المالكي وليست حكومة الاقليم. 
عموماً فلندع المالكي وطاقمه للمنصفين مثل الإعلامي أنور الحمداني ونذهب باتجاه من يسمون أنفسهم باليساريين أو العلمانيين، حيث أن البُغض الذي يترشح عن خطاب بعضهم ليس بأقل عفونة من خطاب أمراء الأحقاد الطائفية، إذ في أوج الحرب مع داعش، وبدلاً من الشكرِ تُمطر الاتهامات على البارزاني من كل حدبٍ وصوب، وحقيقة فإن الحالة هذه بناءً على علم النفس تؤكد بأن شعور الغيظ لدى الذي يعجز عن شكر أحدهم يدفعه للعمل جاهداً لخلق المشاحنات والعداوات معه من باب نكران الجميل، طالما أنه غير قادر على رد أي فعلٍ حسنٍ لمن أثقل كاهله بالمحاسن، وهي صفة أقرب الى أهل اللؤم وبعيدة كل البُعد عن ذوي السماحة والكرم.
إذ عندما يطعن بك اليساري أو العلماني في أقسى معركة تخوضها مع أسوأ منظمة دينية متطرفة ظهرت في العصر الحديث في العالم الاسلامي، فهذا يعني بأن تلك الجهة إما أنها كانت تتمنى أن تكون هي بدلاً منك في مقارعة مَن تخوض حرب الوجود معه، حتى يكون هو الشمشون بدلاً منك، أو أنه ليس إلّا الوجه الآخر لتلك المنظمة الإرهابية، ويُظهر لنا الموقف المُعلن من قبلهم وكأن ذلك اليسار منزعج من تقهقر داعش على يد أناس مسلمين، فأن يقوم المسلم بتطهير ما تراكم على بدنه من تراكمات الأئمة والمشايخ ربما لا يناسب ذلك الرهط اليساري، طالما أنه غير قادر على أن يكون حاضراً في المشهدِ ليظهر أمام الناس كبطل ومنقذ للشعب، وكأن كرهه للدين لا يسمح له برؤية أي حسنة صادرة عن أحدٍ المتدينين. 
على كل حال فكما اعتدنا في سوريا على أن نرى كل من يريد أن يطعن بالوجود الكردي في سوريا أو بعدد الكرد فيها فإن أول ما يفعلهُ هو الاستشهاد بما صرح به يوماً عبدالله أوجلان عندما كان يُحارب تركيا من دمشق، ليُرضي بتصريحاته آنذاك إله البعث السوري المقبور حافظ الأسد، والأمر عينه يفعله بعض الحقودين على الكرد المطالبين بحقوقهم القومية أو المتضايقين من اعتزاز الكرد بهويتهم مما تبقى من اليسار العراقي الذي لم يكن في مواقفه الضمنية تجاه الحقوق القومية لمكونات العراق بأفضل من اليمين العراقي، وهو عينه ما يحاول أن يفعله المسمى باليسار العراقي بمن فيهم الكاتب العراقي الأحمر صباح زيارة الموسوي، عندما يستشهدون بشهادة الطالباني ضد البارزاني، وذلك كلما ضاقوا ذرعاً بالبارزانيين الذين لم يقبلوا يوماً بأن يكونوا توابع لأحد إن كان اليسار أو لليمين أو الاسلاميين، فشعور الأنا القومية لدى الحركة البارزانية يغيظ اليساريين الذين بودهم تذويب الكرد من خلال الشعارات الماركسية كما يغيظ الاسلاميين الذين يسعون جاهدين لمحو الهويات وتذويبها في بوتقة القوميات الحاكمة باسم الدين.
عموماً فالنبرة الضدية لآل البارزاني وشموخهم القومي مؤخراً من قبل ما يسمى باليسار العراقي لا تنفصل عما كتبه الشاعر الشيوعي سعدي يوسف في قصيدته (مصر العروبة وعراق العجم) والتي أظهر فيها الشاعر مدى تحسسه من أن يكون للكرد كما لملته اقليم وإدارة وسلطة، ومن غيظ ما غدا يكنه الشاعر الشيوعي من الحنق تجاه اقليم كردستان سماها إمارة قردستان عيراق البارزانية، والغريب أن هذا العداء الايديولوجي للبارزانية حالة عامة لدى الكثير ممن يحسب نفسه من الفيلق الماركسي أو رافعاً لواء الشيوعية، فحتى حزب العمال الكردستاني باعتباره أحمر البنية، حارب بدوره منذ ظهوره على المسرح السياسي الحركة البارزانية، وصار في أدبياته يُسمي الحركة البرزانية بسرطان الحركة الكردية، لِما لا فلربما كان الكل متفق أيديولوجياً على تذويب القومية الكردية ومحو ملامحها ولكن كل واحدٍ منهم على طريقته، فاليساريون يريدون من الكرد ان يذوِبوا في أقوام دولهم الحاكمة تحت شعار اخوة الامم، والعفالقة والكماليون سعوا جاهدين لمحو الهوية الكردية بالحديد والنار، والاسلاميون كذلك يريدون طمس معالمهم وتذويبهم في الامم التي تحكمهم.
والمفارقة الكبرى أن لا اليسار العربي ولا اليسار التركي استطاعا أن يقتربا من حذاء بنيان القومية العربية أو التركية، فلقومياتهم حق التباهي والافتخار بالذات القومية، أما الكردي فيريدون منه ممسوخاً، منحلاً، وأفضل صورة له هي أن يكون تابعاً هزيلا يشحذ الولاء على أبوابهم، وحتى الاسلاميين لم يستطيعوا تقليص جماح الحس القومي لدى العرب والترك، بينما كل مطالبهم بالتخلي عن القومية لصالح الاسلام فكانت تخص الكرد وحدهم، إذ أن هاجس تذويب الكرد كان مشتركاً لدى اليساريين والقوميين والاسلاميين، وكل فريقٍ منهم حاول أن يُنهي أو يقضي على الحس القومي لدى الكرد على طريقته، فالقوميون الذين كانوا في الحكم في كل من سوريا والعراق وتركيا لم يدخروا أي جهد أو سيلة متوفرة لديهم لضرب البنية القومية للكرد، ومن المعروف أن اليساريين لم يستطيعوا هدم ولو مدماك صغير واحد من مداميك الفكر القومي لدى العرب في سوريا والعراق، ولكنهم لم يبخلوا يوماً لوضع كل جهدهم أمام التطلعات القومية للكرد، ومجرد شعور الكردي بأناه القومية كانوا يرونه خطراً على يسارهم، أما الطورانية والعروبة فلا إشكال فيها، بل ولم يبخلوا في قص أو بتر متى ما تسنى لهم زغب المشاعر القومية لدى المواطن الكردي، في الوقت الذي كانت الأنا لدى القوميين العرب تكاد أن تتفجر من ضخامتها، فيبررون لأناهم القومية بالظهور والتورم القومي النرجسي، وفي نفس الوقت يمنعون عن الكردي ذلك الحق الذي يبيحونه لبني جلدتهم، فيعتبرون الآخر ملعوناً لمجرد أن يأتي على ذكر انتمائه الاثني، فيبدو للمتمعن بسيرتهم ومواقفهم التاريخية فكأنهم الوجه الأخر للأنظمة من ناحية مواقفهم من حقوق الشعوب والقوميات، وهنا لا خلاف البتة بين أؤلئك اليساريين وبين العفالقة والاسلاميين معاً بخصوص القضية القومية للكرد.
وفي هذا الصدد بالذات كانت البرزانية بمثابة العدوة المشتركة للاتجاهات الثلاث، بكونها حركة كردية انبثقت من رحم الشعب الكردي، ولم تكن رهينة الهاجس الديني كما كانت عليه حركة محمود الحفيد الذي لم يفهم على ما يبدو سياسة المرحلة تلك وكان كالأيوبيين ضحية الفكر الديني، فالحفيد في الوقت الذي تنازل فيها اتاتورك عن كل ما له علاقة بالاسلام ليكسب رضا الغرب، وفي الوقت الذي كان القادة العرب يتقربون من بريطانيا وفرنسا ليحصلوا على مبتغاهم في إنشاء ممالكهم وإماراتهم، كان محمود الحفيد يقف بالضد من مصالح الغرب ويُدافع كالأعمى عن دولة الخلافة التي تخلى عنها حكام العرب والترك معاً، كما أن أحد أهم أسباب الكره للبرزانيين هو أن الحفرة الدينية التي وقع الحفيد ضحيتها لم يقع فيها البرزانيون، إذ من بدء انطلاق الحركة كان هدفهم واضحاً واستراتيجيتهم القومية لا يشوبها شائبة، وكان الملا مصطفى البارزاني بمثابة الصخرة التي تحطمت عليها المراهنات والمكائد والغايات الدفينة لكل من القوميين واليساريين والاسلاميين على حدٍ سواء.
كما أن هذا الهجوم على البرزانية من الأب الى الأبن ليس الأول ولن يكون الأخير، طالما أنها العميلة بنظرهم، العملاء الذين أثبتوا خلال تجربتهم لعشرات السنين بأنهم خير مَن يعملون لقضية شعبهم، وهنا تكمن عمالتهم التي ظلت الجبل الذي يحول دون وصول الفئات الثلاث لغاياتهم اللاإنسانية المتعلقة بتذويب وطمس معالم القومية الكردية، من خلال شعارات لا تستحق أي احترام طالما أنها تتعارض مع أبسط قوانين العدل والمساواة والحقوق الانسانية في المواثيق والأعراف الدولية المتعلقة بحقوق الشعوب والأمم، وهنا ليس من باب التقديس أو الدفاع عن الحركة البرزانية ندلي برأينا لأن الحركة تلك أصلاً ليست بحاجة لكاتبٍ أو صحفي بسيط مثلي ليدافع عنها، كما يطيب لي هنا لفت انتباه المثقفين لأمرٍ قد يكون غائباً عن أذهانهم، ألا وهو أن أكثر ما يُزعج المذكورين في البرزانية كحركة تحررية، هو لأن من خلال تلك الحركة الكردية الصرفة ارتفع مقام الخطاب القومي الكردي في العصر الحديث ولأول مرةٍ إلى المستوى الذي تحدث عنه أمير شعراء الكرد أحمدي خاني. 
وفي الختام نقول وكأن المالكي وطاقمه ومن لف لفه من جهة، وذلك اليسار من جهةٍ أخرى غدوا مفلسين للآخر، لأن هكذا تصريحات عادة من المتوقع أن ينطق بها ناشط صغير أو صحفي مغمور أو كاتب يود الظهور أو شخص مريض بحزبيته أو نفر محتقن طائفياً، أما عندما يأتي حزب أو تيار سياسي ويقول بأن مسعود البارزاني هو “العميل الذي يسير على خطى أبيه الخائن مصطفى البارزاني وأنه يطعن العراق في الظهر”، فأعتقد بأنها شهادة مهمة جداً وهي لصالح البارزاني وليس ضده، بل وهم بذلك يؤكدون بأن البارزانية لا تزال تسير بخطى واثقة نحو هدفها المرسوم والمنشود، وخاصة في هذه المرحلة الحساسة بالذات حيث يواجه البيشمركة أشرس معركة مع فايكينغ العصر داعش، ويبقى الهجوم على نهج البارزاني في هذه المرحلة بالذات يؤكد ما جادت بها قريحة وليم شكسبير بقوله:” إذا طعنك أحد من الخلف فاعلم بأنك في المقدمة”.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماجد ع محمد بعد أن كرَّر الوالدُ تلاوة قصة الخريطة المرسومة على الجريدة لأولاده، شارحاً لهم كيف أعادَ الطفلُ بكل سهولة تشكيل الصورة الممزقة، وبما أن مشاهِدَ القصف والتدمير والتدخلات الدولية واستقدام المرتزقة من دول العالم ومجيء الجيوش الأجنبية والاقليمية كانت كفيلة بتعريف أولاده وكل أبناء وبنات البلد بالمناطق النائية والمنسية من بلدهم وكأنَّهم في درسٍ دائمٍ لمادة الجغرافيا، وبما…

صلاح بدرالدين لاتحتاج الحالة الكردية السورية الراهنة الى إضفاء المزيد من التعقيدات اليها ، ولاتتحمل هذا الكم الهائل من الاخذ والرد اللذان لايستندان الى القراءة العلمية الموضوعية ، بل يعتمد بعضها نوعا من السخرية الهزلية وكأن الموضوع لايتعلق بمصير شعب بكامله ، وبقدسية قضية مشروعة ، فالخيارات واضحة وضوح الشمس ، ولن تمر بعد اليوم وبعبارة أوضح بعد سقوط الاستبداد…

المهندس باسل قس نصر الله أتكلم عن سورية .. عن مزهرية جميلة تضمُّ أنواعاً من الزهور فياسمين السنّة، ونرجس المسيحية، وليلكة الدروز، وأقحوان الإسماعيلية، وحبَق العلوية، ووردة اليزيدية، وفلّ الزرادشتية، وغيرها مزهرية تضم أطيافاً من الأكراد والآشوريين والعرب والأرمن والمكوِّنات الأخرى مزهرية كانت تضم الكثير من الحب اليوم تغيّر المشهد والمخرج والممثلون .. وبقي المسرح والمشاهدون. أصبح للوزراء لِحى…

د. آمال موسى أغلب الظن أن التاريخ لن يتمكن من طي هذه السنة بسهولة. هي سنة ستكون مرتبطة بالسنوات القادمة، الأمر الذي يجعل استحضارها مستمراً. في هذه السنة التي نستعد لتوديعها خلال بضعة أيام لأن كان هناك ازدحام من الأحداث المصيرية المؤدية لتحول عميق في المنطقة العربية والإسلامية. بالتأكيد لم تكن سنة عادية ولن يمر عليها التاريخ والمؤرخون مرور الكرام،…