إسلاميات جانحة !!

 ابراهيم محمود
3- بين مارتن لوثر وأبو بكر البغدادي
=====
ثمة قرابة خمسة قرون تقريباً بين الرجلين المأخوذين بسلطة الدين: المسيحية بالنسبة إلى مارتن لوثر” 1483-1546 “، والإسلام بالنسبة إلى أبو بكر البغدادي ” السامرّائيّ مسقطَ رأس ” 1971- …”، لكن إرادة معرفية تحفّز ذاكرتنا البحثية على مواجهتهما ببعضهما بعضاً، وشتّان ما بين الاثنين في هذا الإجراء، رغم انتقادات عديدة يمكن توجيهها إلى لوثر في بعض سلوكاته، إنما تبقى قائمة مواقف وتصورات تعنيه للعالم والآخرة ذات بنية حداثية، أين منها جل مدَّعي الانفتاح الإسلامويين، وفي الواجهة ” بغداديّنا “:
لوثر اعترف بأهمية الذات، بأهلّيتها في التفكير وحسن التصرف بمعان شتى،وليس ممثله الديني المسيطِر عليه، بينما البغدادي فقد جرّد ” مسلمه ” من مردود الذات المستقلة رغم قلَّته، وما فيه من إفقار روحي، ورغم تبجحه بـ” أنواره “.
باعد لوثر ما بين السماء والأرض بحيث يكون في مقدور إنسانه أن يطيل النظر في جهاته الأربع دون أن يرتطم رأسه بـ” سقف ” السماء، أو ينزلق أرضياً، وما في ذلك من إمكان للاغتناء النفسي، من قابلية الانطلاق في الطبيعة وتأملها، بينما لم يدَّخر البغدادي المتدعش جهداً في تحويل كل من السماء والأرض إلى ثنائية المطرقة والسندان وحصْر ” إنسانه ” بينهما.
ربما يشكّل ما جاء به الراهب الألماني مفتاحاً مغرياً للبوابة الكبرى للأزمنة التي نعيش إحدى حلقاتها الكبرى، وللفلسفة الحديثة ” ديكارت والتالي عليه “، وهو يؤكّد واقعاً على أهمية العقل رغم المسوح الدينية، بينما البغدادي، فقد ركل مؤخر مسلمه دافعاً به صوب هاوية معتمة لا مجال للخروج منها، وهو يتهدده وينذره بالويل والثبور إن تهجَّى مفردة ” العقل “.
أضفي لوثر على المسيحية والإنجيل من خلالها قيمة مكانية، محلية، بحيث يكون في مقدور المرء أن يبصر خالقه بالطريقة التي يريد كثيراً، وكتابه بتقديره الخاص، وهذه هي النسبية المدشّنة للإبداع وأهلية الدخول إلى مفهوم المكان بالمعنى الفلسفي والثقافي المحلي، أما البغدادي فقد أطبق بظلماته الإسلاموية على ملكات مسلمه المعرفية جملة وتفصيلاً.
أخرج لوثر- وهذا ما ينبغي النظر فيه بإمعان-  القومية بخاصيتها الألمانية مهما بدت متمازجة بما هو لاهوتي من معطفه الديني ذي النسيج الأرض، وإن اعترفنا بطابعه الكهنوتي، كما في ترجمة الإنجيل إلى الألمانية المحلية، متحدياً سلطة الكنيسة المعممة بامتداد العالم المسيحي، بينما البغدادي فقد أرادها لغة قرآنية دون قرآنية، ببوصلة عروبية مضلّلة ومضلَّلة وعلى أرضية دينية مختزلة بشكل مريع، ليكون احتقار الإنسان أصلاً وفرعاً في النتيجة.
أطلق لوثر سراح قوى مختلفة، كانت مكبوتة أو مقيَّدة أو محجَّر عليها لدى إنسانه حتى حينه، ليكون هو المرجع فيما يقدّر ويفكّر دون أن يراجع ” البابا ” مستخفاً بمركزيته، وصكوك غفرانه ومن يمثّله، أما البغدادي، فقد أطلق أشباحه السود بسيوف مدماة، صحبة صرخات الضحايا التي لا تنقطع، لاغياً كل حساب للزمن وما يعنيه من تحول إلى الأفضل، أي المزيد من الكارثي.
كان لحيوية مفهوم التأويل الذي شدَّد عليه لوثر في التعامل مع العهدين: القديم والجديد، وضْع الأساس التليد لجملة الدراسات الفلسفية التي تعتبر التأويل التعريف الأمثل بشخصية الإنسان المسكون بنعمة الحرية النفسية والعقلية، أبعد من حدود التفسير نفسه، أما البغدادي، فقد أكَّد ومن خلال رموز مختلفة، وكان جامعها، أن كل مناد بالتأويل مصيره قطع الرقبة، وحتى التفسير يصبح من بين الكبائر في ضوء استحكاماته الإسلاموية المدعشنة .
نعم، بغضّ النظر عن جملة الانتقادات الموجَّهة إلى لوثر في التعامل مع أتباع الديانات الأخرى” اليهودية خصوصاً “، فإن مآثره لا تحصى بالنسبة إلى زمانه، أما بالنسبة للبغدادي، فإن في وسع المتبصر حصراً، أن ينظر إليه من زوايا مختلفة، أعني جهات مختلفة، حيث يستحيل عليه أن يعثر على شعرة واحدة لم تلوَّث بدماء ضحايا، أو لا تشهد على أنه أخرج كل من يعنيه، وما يصله بنموذجه الإسلامي من فسحة التاريخ القائمة رغم بؤرتها الخانقة.
وهذا ما يرينا إلى أي مدى نعيش هول الإسلاميات الجانحة والمحتفى بها هنا وهناك تحت رعاية الفظائع الناطقة باسمها !
دهوك، في 19 تشرين الأول 2016 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…