مـوصـل.. البداية والنهاية

احمد قاسم
مع بداية سقوط الطاغية في بغداد إهتزت عروش الدكتاتوريات في المنطقة. وتحركت معها مشاعر الشعوب نحو تقريب إشراقشمس الحرية وإنهيار جدران الخوف التي تم تشييدها من قبل الطغاة بعد إنسحاب جيوش الإستعمار من المنطقة للإنابة عنهم في احتلال المنطقة باسم دول قومية لتكون مزرعة تمتلكها الطغاة والشعوب فيها عبيد, وذلك خدمة لدعم إقتصاديات الدول الصناعية الكبرى مقابل حصول دعم بكل آليات الدفاع عن أنفسهم في مواجهة أي عصيان شعبي يرفض الدكتاتوريات, وكذلك إعتبارهم كحكومات شرعية مصانة من قبل المجلس الأمن والأمم المتحدة, مع ترك الشعوب لمواجهة القدر الذي هو أيضاً كان ولا يزال يخون الشعوب حتى اللحظة.
مع إنهيار الإتحاد السوفيتي تغيرت اللعبة الأممية في تعاملها مع الشعوب, وكذلك التعامل الأممي فيما بينها لتوزيع الثروات وتأمين المصالح. ولما كانت الإتحاد السوفيتي تشكل الطرف الآخر من أطراف الصراع وديمومة الحرب الباردة في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية والمتحالفة معها من الدول, كانت تحافظ على توازن دولي في مجمل الحراك على المستويين السياسي والعسكري من خلال تقسيم العالم بين معسكرين تقودهما الإتحاد السوفيتي 
والولايات المتحدة وفقاً لتحقيق مصالحهما من دون نزع فتيل الأمن والسلام العالميين من خلال محاصرة النزاعات الإقليمية والدولية ومنع إنتشارها على المستوى العالمي. إلا أن إنهيار الإتحاد السوفيتي في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي تركت وراءها العديد من الأنظمة الديكتاتورية التي كانت تدور في فلكها عارية للعيان أمام العالم على أنها من أبشع أنظمة إبتلت بها شعوب المنطقة. ومن تلك الأنظمة هي النظامين البعثيين في العراق وسوريا.
لن أدخل في تاريخ النظامين وبشاعتهما في ممارسة الحكم. فكان ولا بد من الخلاص من هذين النظامين كونهما يشكلان أخطر نظامين في العالم من جهة صناعة الإرهاب بعد إنهيار الإتحاد السوفييتي وبقائهما على العراء, وذلك ليتمكنان على الحفاظ على نفسهما من خلال تهديد أي طرف دولي يحاول تهديد بقائهما كسلطة وحكومة على رأس سوريا والعراق. لذلك عندما قررت أمريكا إنهاء حكم البعث في العراق والفبض على صدام حسين كمجرم وتقديمه للعدالة, أسرع النظام في دمشق ليبدي موقفه المعارض للقرار الأمريكي وأعلن عن الدفاع المدني عن النظام في بغداد من خلال إرسال مدنيين إلى العراق ليشكلوا دروعاً بشرياً تحمي النظام في بغداد, يقيناً منه, أن إسقاط النظام في بغداد يشكل تهديداً مباشراً للنظام في دمشق. ولذلك حاول النظام في دمشق بكل الوسائل الدفاع عن صدام حسين ونظامه قبل سقوطه, وبعد السقوط إتبع سياسة معارضة للنظام الجديد في بغداد ومحاولة ضرب أمنها وإستقرارها وبناء دولة ديمقراطية تسودها العدالة والحريات من خلال إقرار دستور فيدرالي, وذلك عن طريق تجنيد مجاهدين وإرسالهم إلى العراق كمجموعات تمارس الإرهاب بجميع أشكاله. ومع قرار إجتثاث البعث في العراق الجديد عام 2005 إجتمع الفلول من البعث وقياداته المختفية لتشكيل تنظيم آخر وبإسم آخر بعيداً عن الصبغة القومية التي بات الشعب العراقي ينفر منه, فكان خيارهم هو ( تنظيم دولة العراق الإسلامية ) تحت شعار ” تحرير العراق من الإحتلال وبناء الخلافة الإسلامية ” وذلك بدعم من النظام في دمشق.
ومع إصدار العفو العام في بغداد عن كل من لم يتلطخ أياديه بدماء الشعب العراقي, وقبول الآلاف من ضباط وصف ضباط والجنود العراقيين العودة إلى صفوف الجيش العراقي, تقدم وبشكل منظم جميع من فروا من الجيش خوفاً من المحاسبة, ونظموا أنفسهم من جديد في صفوف الجيش وأخذوا ( موصل ) هدفاً لهم للسيطرة عليها مع التنسيق الكامل مع ( تنظيم الدولة ), وكان ذلك التنسيق يتم بالتشاور مع النظام في دمشق بشكل دقيق, لعودة البعث إلى الحكم بدعم إيراني ” من المؤكد في قناعة النظام في دمشق وإيران, بأن هذا البعث يكون مختلفاً عن ذاك البعث الذي كان يقوده صدام حسين ” وذلك الذي يشكل خلافاً بين النظام في دمشق وعزت الدوري الذي كان يقود العملية آنذاك.
ومع إندلاع الثورة في سوريا في 15/3/2011 أسرع النظام في دمشق لتنشيط دور التنظيمات الإرهابية التي تدور في فلكه. وكان ذلك واضحاً منذ بداية الثورة, حيث هدد بشار الأسد في خطابه الأول في 30/3/2011 كل العالم لو تقدم أي طرف دولي في التدخل في شأن سوريا ودعم ما سمي ( بالتخريب الإرهابي في سوريا ). منوهاً في ذلك على أن بمقدوره أن يندلع العالم كله في نار سوريا إن تم محاولة إندلاعها مهدداً بها النظام في دمشق. ومع إعلان ( تنظيم دولة العراق الإسلامية ) عن ( تنظيم دولة العراق والشام الإسلامية ” داعش ” ) والسيطرة على موصل عام 2014 أسرع النظام في لقاء جنيف2 لوضع شرط أمام المفاوضات التي كانت تتم برعاية دولية بين النظام والمعارضة, لتكون محاربة الإرهاب مقدمة للمفاوضات, ويستحيل الإتفاق مع المعارضة على أي بند من بنود الوثيقة المقدمة من قبل المبعوث الأممي قبل القضاء على الإرهاب, وذلك يقيناً منه على أنه سيبقى يستخدم الإرهاب لطالما أن العالم أصبح يُرعب من الإرهاب الذي يشكل عنوان الخوف بعد عملية 11 أيلول 2001 في نيويورك الأمريكية.
حاولت الولايات المتحدة الأمريكية مع روسيا لحل الأزمة في سوريا وذلك بتوافق بين المعارضة والنظام, إلا أن روسيا ” لم تحفظ درسها ” وأصرت على تكرار مطالبة النظام في الحرب ضد الإرهاب أولاً, فتم تشكيل تحالف دولي لمحاربة الإرهاب من دون إشراك روسيا لفقدان مصداقيتها ومحاولاتها الحثيثة في الدفاع عن النظام سياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً, لمعرفة أمريكا لعبة النظام وإشراكه التنظيمات الإرهابية باسم المعارضة المسلحة على الأرض في مواجهة “جيش الحر ” أقدمت بنفسها لقيادة الحملة ضد الإرهاب ومراقبة كل التحركات الدولية والإقليمية التي تؤثر على واقع الأزمة وإستمراريتها.
كنت قد أكدت في العديد من مقالاتي ولقائاتي التلفزيونية ” أن الأزمة في سوريا لايمكن حلها بمفردها من دون الحل للأزمة العراقية ومحاصرة النظام في دمشق “. لطالما أن النظام في دمشق إعتمد على خلق الفوضى ونشر الإرهاب والإرهابيين في العراق للحفاظ على بقائه, فلا يمكن إسقاط النظام في دمشق لطالما أن العراق أصبحت البؤرة التي تنتعش فيها الإرهاب وتتكاثر بدعم إيراني, فستشكل التنظيمات الإرهابية الإطار الحامي للنظام الذي كان ولا يزال التوأم الوفي للإرهاب والمتلازم معه على طول الخط. ولكي نعالج قضية الإرهاب, كان لابد من تجفيف النبع الذي يتدفق له أسباب البقاء, لذلك كان عملية ( تحرير موصل ) أولاً وبقيادة أمريكية بشكل مباشر بعد لقاءات أمنية وعسكرية بين الأطراف المشاركة في الحملة وخاصة ” بين بغداد وأربيل وواشنطن ” على وجه الدقة وفي غرف مظلمة.. كون العملية لا تتوقف مع تحرير موصل, بل إنها ستواصل خط سيرها غرباً لتحرير ( الأنبار ومن ثم التوجه نحو رقة بعد ديرالزور ) وإكمال العملية نحو تحرير حلب, لتتم استمراريتها إلى أن يُرفع الستار عن النظام في دمشق ويستسلم لقدره بعد عزله عن الإرهاب ومن يحميه من التنظيمات الإرهابية. عندها فقط سينصاع النظام ومعه روسيا للإرادة الدولية, وعندها فقط قد يُطرح خارطة طريق للحل في سوريا عندما يُقطع أيدي النظام من الداخل العراقي, ويعودوا العراقيين إلى رشدهم لبناء دولتهم ” دولة العدالة والحرية والإستقرار, دولة فيدرالية بمعناه الدستوري يُحترم من قبل كل العراقيين “. الحل هنا يبدأ من ( موصل, كما أستُعمل ما حل بالموصل خدمة لإستمرارية الأزمة في سوريا والعراق تحت يافطة ” داعش ” المصطنعة, لتنتهي من موصل ), لنسدل الستار على المشهد المرعب الذي يجول في خيالنا في هذه الأيام مع ترويج لحرب عالمية ثالثة على أرض سوريا والعراق.
17/10/2016

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…