ابراهيم محمود
عرفْته قبل أن أعرفه، والتقيته قبل أن أراه، وسبرت قاعه النفسي قبل أن أكون قريباً منه.
ذلك هو اسماعيل بيشكجي الذي قارب الثمانين عاماً: المفكر وعالم الاجتماع التركي الأبوين، والذي يندر وجود نظير له من حيث التفرغ لقضية شعب تحمل من المخاطر في التبنّي والإيمان المصرَّح به ما لا شبيه لها في قضية أي شعب آخر، وهي مخاطر تتضاعف بشفافيتها، وعمق أبعادها، عندما يكون المتفرَّغ لها تقريباً أحد المنتمين إلى أحد أعتى الأنظمة السياسية شراسة في المنطقة، ومكر سياسة وقابلية سفك دماء والتمثيل على الحقيقة عند اللزوم: النظام التركي.
لقد تابعته بقدر ما استطعت منذ سنوات مديدة، على الأقل، من خلال اسمه وجرأة التحدي لنظام بلده ونصرة قضية شعب ممزق، في جغرافيا ممزقة: كُردستان، وقد سجن طويلاً تأكيداً آخر على أن الذي يقوله ليس اعتباطاً، ومن باب الدعاية، إنما يفعل ويقول، ويقول ويفعل .
وعندما قدِمت إلى إقليم كردستان، صحبة عائلتي بصفة لاجىء، قبل قرابة أربع سنوات، وبدأت العمل في ” مركز الأبحاث العلمية والدراسات الكوردية- جامعة دهوك “، كان أول ما نشرته ضمن كُرّاس شهري ” اسماعيل بيشكجي: الذات المضاءة بالآخر، تموز 2013 “، ومن ثم المزيد فالمزيد، لأنمّي معلوماتي في هذا المضمار من خلال كتبه وما كتِب عنه، إلى جانب نشر مقالات لي هنا وهناك عنه.
ثمة عشرات الكتب له في ميدان السوسيولوجيا، وربما كانت كردستان بمساحتها الأكثر اقتطاعاً لتركيا، هي الحقل المعرفي والاجتماعي والعلمي الأهم في دراساته التي يلتقي فيها السياسي والاجتماعي والثقافي، أي ما يعرّي السلطة وهي بفسادها، ومعاداتها للعلم، كما في :
نظام شرق الأناضول الأجتماعي – الأسس الاجتماعية و الاقتصادية و الاثنية
كوردستان مستعمرة دولية
الإسكان القسري للكُرد
برنامج فرقة الشعب الجمهوري 1927 والمشكلة الكردية
قانون تونجلي 1935 و الإبادة الجماعية في درسيم
ثلاث وثلاثون طلقة في حادثة جنرال موله
العلم – الإيديولوجية الرسمية – الدولة – الديموقراطية والمشكلة الكردية
مثقف – منظمة والمشكلة الكردية
حلم إقامة كردستان
أطروحة التاريخ التركي ونظرية اللغة الشمس، والمشكلة الكردية
الدولة والأكراد
قانون 1915-1923
الدول المناهضة للكرد
تأملات حول المتنور
….الخ.
لقد بات هذا العلَم المتنور والجسور، بحق، رمزاً كونياً في مجابهة الظلم، وفضح كل ما يتعلق بعملية صهر الآخر والتفرقة العنصرية وأعمال الإبادة الجماعية، ليكون مرجعاً في هذا المضمار، وفي النطاق الكردي، وفي تركيا قبل غيرها.
بيشكجي لم يدخر جهداً في تعرية الذين تخلَّوا عن كرديتهم وارتموا في أحضان العدو، لم يتخل عن تلك النبرة الواثقة من دويّ صوتها، ومشروعيتها، والتي تركّز على الحق المسلوب، وعن أن قضية مجيَّرة منذ عقود من القرون تحتاج إلى أكثر من صلابة موقف وتحمل صِعاب.
وبيشكجي يستحق أن يكون الكردي الوحيد، وهو ليس كردياً، والذي شدد على وحدة كردستان، وليس أن تعرَّف بجهاتها كما يريد خصومها أو أعداؤها طبعاً.
وهو الذي يستحق أن يكون الكردي الوحيد، وهو ليس كردياً، ليُتَّخَذ قدوة في هذا الجلَد والعزيمة.
ومن يجالسه، من يصغي إليه وهو يتحدث، ربما يأخذ عنه فكرة سلبية وهي أنه غير واثق من نفسه، لا يخلو من ضعف تماسك للوهلة الأولى، لكن ذلك وهم المعاش والمعتاد، إذ إنه بهدوئه يفصح عن تلك الشخصية الاستثنائية، والتي تتلخص هكذا: خذوا الحكمة من النبع: يتدفق بهدوء، ويشكّل نهراً، والنهر يروي أرضاً، وينعش مناخاً…ربما هكذا أنظر إليه.
ولعل لقائي به- ولكم كبرْت به في اللقاء ذاك- في ملتقى” الفكر القومي ” في منطقة ” سوران ” بإقليم كردستان العراق، وفي يومي ” 27- 28- 9-2016، جاء في وقته غير المتوقع والبهيج.
إن الناظر في هيئته” في ملامح وجهه ” يتلمس عمق العذاب الذي عاشه في حياته، وهو في نفسه راض بـ” مكتوبه ” الذي اختاره بذاته، وهذا استثناء إنساني، ويتأكد ذلك في انفتاحه على كل من يجالسه، ويطلب منه صورة مشتركة للذكرى، فيبتسم خجولاً، وكأنه لا يريد أن يعطى مثل هذا الاعتبار، ليكون الشخص الغفل من الاسم: دون اسم، ليعيش برحابة روح أكبر.
وما كان أقرب إلى الاستغراب، هو أنني حملتُ معي كتابي الصادر حديثاً عن المركز المزمع افتتاحه” مركز اسماعيل بيشكجي للدراسات الإنسانية ” بدلاً من المركز السابق الذي عملت فيه بشكل متقطع، رغم أنني حتى الآن، ومنذ أشهر أنتظر تجديد العقد للانضمام إليه، وأعني كتاب ” طريدو التاريخ: الكورد في خضم حروب الآخرين “، والذي تأخر صدوره لسنوات، ويحمل إهداء إلى المفكر المناضل والمناضل المفكر اسماعيل بيشكجي نفسه.
وكان ما كان، حين صافحته، وعرفته بنفسه، من خلال مترجم ” كردي ” كان معه إلى جانب آخرين ودودين للغاية، وعرَّفته بكتابي الجديد وإهدائي إليه، وكان فرحاً بذلك.
تالياً، سعدت بأن نشترك في جلسة واحدة، وقد تطرق إلى جوانب قديمة وجديدة بصدد القضية الكردية، وما يمكن للكرد أن يتنبهوا إليه ويقوموا به في الوضع الراهن.
في اليوم الأخير” في 29-9-2016 ” بعد الانتهاء من فطور الصباح، حيث كان الوداع، وهو صحبة كرد من كردستان الشمالية، إلى جانب آخرين، وفي المطعم، نظرت إليه بالمزيد من التوقير والأسى والألم المتوثب، ومن خلاله كردستان: جغرافيا وسياسة وثقافة، وأنا أتساءل: هل سأكون محظوظاً للقائه مرة أخرى، والحال أفضل مما هو عليه كردياً ؟
أمام الجميع، احتضنت يده بيديّ، ليس كاحتضان المريد ليد شيخه بالتأكيد، إنما كقراءة من لحم ودم ليد أجهدت نفسها وهي تقلب في آلاف الصفحات عن الكرد والكردستان، وأمضت السنين الطوال وقد رقَّتونفرت عروقها، ولما تزل هكذا، وهي تسأل في كل شاردة وواردة عن جديد، كما لم يفعله ابن أنثى قط، ورفعتها إلى أعلى فأعلى بموازاة عيني، وأخفضتها وأنا أنحني عليها مقبّلاً إياها بعمق، كما لو أنني أشم رائحة خارطة كردستان: بكل آلامها وأوجاعها، بكائناتها وجماداتها، كما لو أنني استلفت من قبلة حارة كتلك عقاراً روحياً، هو مدد الكردي الذي يبصر روحه بكامل تفاصيلها في عيني الآخر، ويصبح أكثر أهلية للحياة، رغم الطّعان المتلقاة هنا وهنا.
نعم، قبَّلتُ يد اسماعيل بيشكجي، وكان المتواجدون هنا يهزّون رؤوسهم متأثرين بالمشهد .
قبلة لا تقرّبني من أي إله سماوي، ومن يمثّله هنا وهناك، إنما من كيان تنفَّس بين سطوره: كياني الكردستاني !
دهوك، في 1-10-2016 .