د. محمود عباس
تثبت الوثيقة التي خرجت من الهيئة العليا في لندن، عدم رغبة القائمين عليها، إحلال النهج الوطني مكان الحيز البعثي العروبي والسني التكفيري. باستثناء إضافات مذهبية، وهي تقريبا نفس الوثيقة التي صدرت عن اللجنة المتشكلة في مؤتمر الرياض، أقصيت فيها أو كادت تقصي جميع مكونات الشعوب السورية غير العربية السنية، كالتمثيل الكردي، والأقليات السورية الدينية والقومية، ولم يتجاوز المستثنون عدد أصابع اليد مقابل أكثر من 117 عضوا في الهيئة، وغاية رعاة ذلك المؤتمر على هكذا لجنة وبهذا الانحياز، ونقصد السعودية وتركيا، التحكم باللجنة وما سيصدر عنها؛ فهناك بند في برنامج الائتلاف ينص أنه في حال ما تم التوافق على أحد البنود المقترحة؛
وذلك لمعارضة أحد الأعضاء لها، وهذا لا يقصد به سوى الكرد أو السريان أو غيرهم، حينها سيمرر البند بموافقة ثلثي الأعضاء، وهنا نحن أمام أغلبية مطلقة عربية سنية في الهيئة، فمن المحال إيقاف تمرير أي بند أياً كانت صيغته، مثلما حدث في بعض البنود الواردة في الوثائق المقدمة سابقاً في مؤتمري القاهرة الأول والثاني، وآخرها مؤتمر لندن وخاصة البند الأول، بتلك الصيغة يعيد بسوريا إلى عصر البعث، والتمييز العنصري وبدستور لن يختلف عن دستور سوريا البعثية، باستثناء تبديل أسم البعث بالطائفة السنية.
هذه المواقف وإلى جانب التصريحات الصادرة من شخصيات المعارضة، تبين لكل مراقب دولي وللشعوب السورية عامة وفي مقدمتهم الشعب العربي، أن هذه المعارضة الافتراضية وبهذا النهج، لا تبحث عن الحلول الأساسية لقضية السوريين، بل تقدم أجندات من صلب عهد الأسد التي توافق أيضا مصالح القوى الإقليمية، ضاربين مصالح المجتمع السوري بعرض الحائط، وهكذا تسقط عنهم المصداقية كمعارضين، نسألهم بأي حق أقصوا رأي الشرائح الأخرى من الشعوب السورية؟ في هذه الحالة بأي وجه نعارض المحافل الدولية التي تتقاسم الكعكة السورية بمعزل عنا كسوريين.
عودة على البدء، المعارضة الافتراضية وسلطة بشار الأسد، يتشدقون على وحدة سوريا، وهم أكثر الأطراف تمزيقا لها، ويقفون على أطراف جنيف حاليا ويتسمعون إلى ما يجري ضمن أروقتها، دون أن يعلموا ما سيتمخض عنه، مع ذلك يرددون شعارهم الرنان حول الوطن المولود من رحم معاهدة سايكس-بيكو، فمثلما كانت الدول والشعوب المعنية بالأمر حينها لا تعلم بما قد خطط لهم، ولولا الحكومة البلشفية بعد ثورتها، لتم تطبيقها دون معرفة ما جرى في أروقة الحلفاء آنذاك، وهي ذاتها اليوم، ولكن تحت غطاء هيئة الأمم، وحرص، الدول الكبرى، المزيف على مصالح الدول المعنية بالأمر، والمعروف لأبسط محلل سياسي، أن مصالح الدولتين روسيا وأمريكا على رأس القائمة، والفرق بين اليوم والبارحة، هو الزمن والقائمين بالأدوار. سؤال يتبادر إلى الذهن هل من الممكن حدوث تغيرات في اتفاقية أو هيكلية أمريكا وروسيا، كالتي حدثت ما بين عام 1916م وعام 1919م-1920م عامي التدخل البريطاني والفرنسي المتتالي في المنطقة.
لولا التغيير السياسي الذي حصل لروسيا، لاقتطعت جزءا واسعاً من جغرافية الرجل المريض. حسب مصادر بعض الباحثين حينئذٍ كان من المفترض ضم منطقة إلى أرمينيا، وأن تحتل بريطانيا سواحل الإمبراطورية العثمانية على البحر الأبيض المتوسط، وإعادة إستانبول (القسطنطينية) إلى يونان، بعد إبقائها لفترة تحت صفة منطقة محايدة، وإلحاق جزء من غربها بالأراضي البلغارية، إلى جانب ضم الجزء الشرقي من أنقره إلى كردستان. ولكن جرت الرياح بما لا تشتهي بريطانيا وفرنسا، وفشل التدخل البريطاني في الجزء الغربي من تركيا الحالية، وتمكن أتاتورك من دحر قواتها ومعها القوات اليونانية، وتم على أثرها تهجير أكثر من مليون ونصف يوناني من تركيا، مع مجازر لا تقل بشاعة من التي حصلت للأرمن والكرد سابقاً، وتركت تركيا على ما بقيت عليه الآن. وكان آخر رسم لحدودها في نهايات العقد الثالث من القرن الماضي؛ وذلك بآخر غنيمة من ممتلكات الإمبراطورية العثمانية، وهي لواء اسكندرونه (هاتاي)، وبعدها كما نعلم، تم تشكيل سوريا والعراق والأردن، ولبنان، وفيما بعد كتتمة لاتفاقيات سابقة ظهرت إسرائيل، وطمست كردستان كليا، وقسمت بين الدول الأربع، تماشيا مع مصالح فرنسا وبريطانيا. في وقتنا الحالي، تغيرت قواعد المصالح؛ حيث تبدو تكوين كردستان ككيان ممكن.
أسباب وعوامل عديدة، أدت إلى عدم تشكيل كردستان العثمانية كدولة مستقلة، مثلها مثل غيرها من الدول التي ظهرت كالفطور في يوم ربيعي.
لا شك أن فقرات من معاهدة سايكس بيكو لم يتم تطبيقها، ونحن هنا لسنا بصددها، فما يجري اليوم في مؤتمر جنيف الأخير (أعدادها لم تعد في الحسبان)، بين جون كيري وسيرغي لافروف، قد تطلعنا على بعض ما جرى في الاتفاقية البريطانية الفرنسية الروسية، قبل قرن من الزمن، وربما تلقي أيضا الأضواء على الكثير مما ظل في الخفاء، وستبين ما لم يتم تطبيقه حينها، ولهذا فالمعارضة الافتراضية وسلطة بشار الأسد يتسابقان على عرض وثائقهم على ممثلي أمريكا وروسيا، بمساندة تركية، إيرانية سعودية، كأدوات تتناولها الأيادي بما تدعو الحاجة إليها، إن كان بالتدخل العسكري أو غيره، ليكون التوافق بين الدولتين قانونية في المدى الدولي.
وبالمقابل تتلهى الحركة الكردية والكردستانية، السياسية والثقافية، بصراعات جانبيه، وبأساليب لا تختلف عما كانت عليه أثناء تقسيم جغرافية المنطقة حينها. منذ ذلك الوقت والدول الملحقة بها كردستان تطمس معالمها، وتغير ديمغرافيتها، وتركز بتخطيط على تزوير التاريخ الكردي وتشويهه ليتمكنوا من القضاء عليه، ويتم تلفيق التاريخ الحقيقي بفبركة معظمه وفي الأقبية الأمنية، ولا ينتاب الخجل الشخصيات العالية المكان من الدول الأربع حين إسناد وثائقهم بهذا التاريخ المزور والملفق، واليوم شريحة واسعة من الكتاب والمثقفين والسياسيين العروبيين والترك، يوثقون بهذه الحقائق المفبركة. لم تستحِ المعارضة السورية الافتراضية من وثائقها المتتالية منذ مؤتمري القاهرة وحتى الأخيرة في لندن، بما يحل بالشعب الكردي الذي يعيش على أرضه التاريخية من تهجير الملايين وتوطين عربها بدلا منهم.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
12/9/2016م