دهام حسن
إن الانتقال إلى الديمقراطية كشكل سياسي لإدارة الحكم في البلدان ذات النظم الشمولية أمر في غاية الصعوبة والتعقيد، فضلا عن التنوع والتباين في طرائق الانتقال؛ فطرح مسألة الديمقراطية، هو بالأساس طرح لمسألة السلطة، فهل الحكام يمتلكون إرادة الديمقراطية، ويعون متطلباتها، أي ضرورة المصالحة مع الذات، والقطيعة مع بنية الأفكار القديمة، والقبول بما تفرزه صناديق الاقتراع من نتائج، وبعبارة واضحة: هل هم مستعدون للتنازل عن سلطاتهم، وبالتالي عن امتيازاتهم، إذا اقتضت ذلك لعبة الديمقراطية؛ والقبول بـ (ديمقراطية المداولة) فالديمقراطية إذن لا بد أن تصبح قناعة، أي لابد أن يؤمن الجميع بالديمقراطية كشكل سياسي للحكم، لا أن تكون كمناورة سياسية، من قبل بعض الأطراف، بحيث يكون الغرض منها الوصول إلى السلطة ومن ثم التراجع عنها، كما صرح بذلك بعض زعماء الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر..
إن أهم عناصر الديمقراطية، هي كفالة حق التصويت للجميع دون تمييز، انتخابات حرة ونزيهة، قبول جميع الأفرقاء بلعبة الديمقراطية، وما تفرزها صناديق الاقتراع من نتائج، فالنتائج هي التي تكسب طرفا ما الشرعية، وتخوّله كجهة مصدر للقرارات، فضلا عن ذلك، فالديمقراطية تعني أيضا وبالدرجة الأولى احترام حقوق الإنسان، حقه في حرية التعبير، وتشكيل الروابط السياسية، وحقه في العمل والمساواة والأمن؛ كما لا يمكن التأسيس لنظام ذي بنية اقتصادية جيدة، والمضي قدما في التنمية دون ديمقراطية واستقرار سياسي؛ فهذا فوكوياما يرى أن ثمة (علاقة أكيدة بين التطور الاقتصادي والديمقراطية الحرة) كما أن تطور وانتشار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ساعدت في نشر الكثير من القيم الديمقراطية…
تعودّنا في العالم العربي على تأجيل الديمقراطية مرة تلو مرة.. مرة أثناء الكفاح ضد الاحتلال، فكان الواجب القومي يقتضي حينها، عدم إثارة مسألة الديمقراطية في عرف هؤلاء مع أولوية التحرر، وبعد أن تم الجلاء، وتحقق الاستقلال، جاءت المتاجرة من قبل القوميين بشعار الوحدة العربية كأولوية تتقدّم على التنمية والديمقراطية؛ وإذا كان هذا النزوع الوحدوي له صداه في السابق، فلم تعد له سوق رائجة اليوم، فالقوى القومية الراديكالية (عبد الناصر، البعث) هي التي حكمت، فلم تتحقق لا وحدة الأمة، ولا تنمية ولا حريات، سوى تجربة وحدوية فاشلة (الوحدة المصرية السورية) القوميون هم أنفسهم انقلبوا عليها… وأيضا لا يجوز رفض الديمقراطية بحجة عدم وعي وتهيّؤ الشعب لها، أو عدم نضجه لتقبّلها وتفهّمها، وقد شاعت ما تناقله الناس من أنه من المتعذر غرس ظاهرة الديمقراطية الأوربية في التربة العربية التي لم تنبت غير الاستبداد، فالديمقراطية تتعمق من خلال الممارسة- ولو بشكل أولي- في مؤسسات الدولة، وفي المجتمع، وفي سائر التنظيمات، فمعالجة أي حالة مستعصية تكون بمزيد من الديمقراطية، لا بنفيها..
عندما أقرأ للينين هذه العبارة (ليس في العالم بلد تسود فيه الحرية الآن كما في روسيا) قالها في أيار من عام 1917 أي قبل ثورة أكتوبر ببضعة أشهر، أقول لماذا أكتوبر إذن.!؟ أما كان بوسع البلاشفة مع الآخرين(المناشفة، الاشتراكيين الثوريين) من تعميق ما تحقق دون تفرّد أي طرف بالسلطة وإقصاء الآخرين.؟ فقد قضى البلاشفة بثورتهم على الديمقراطية كما يقول كاوتسكي، وقد جرى ذلك بالفعل، فبعد ثورة أكتوبر تم فصل ممثلي الاشتراكيين الثوريين والمناشفة من مجالس السوفييتات بموجب دستور عام 1918 كما تم حرمان البرجوازيين بمختلف مستوياتهم من الحريات السياسية..
تعددت أشكال انتقال الدول إلى الديمقراطية، فلعب دور الانتقال إلى الديمقراطية في الهند الاحتلال البريطاني لها، ومثلها الاحتلال الأمريكي لليابان؛ نمط آخر من التحول إلى الديمقراطية، فبعد موت فرانكو عام 1975 قام الملك خوان كارلوس في اسبانيا مع نخب ديمقراطية في البلاد ومضوا في طريق التحول الديمقراطي، أما رئيس موريتانيا فقد تنازل عن الحكم في سابقة عربية أزعجت الكثيرين ليفتح الطريق أمام التحول الديمقراطي، لكن جاء استيلاء العسكر على السلطة نذيرا بإنهاء التجربة الديمقراطية في موريتانيا، فوضعت موريتانيا أمام امتحان عسير، والأيام كفيلة بالإجابة فيما إذا كانت التجربة المجهضة ستكون نعوة للديمقراطية، أم أن الشعب الموريتاني بعد أن عايش حسنات التجربة الديمقراطية سيحييها ولو بعد حين .؟ مثال آخر .. إدراك بعض الحكام مدى كلفة القمع في حال استمرارهم في السلطة، والإيغال في العنف، مع استفحال شأن المعارضة، فانسحب الرئيس (بينوشيه) من رئاسة تشيلي في عام 1990 .وانسحاب شيفرنادزة ذليلا مقهورا من رئاسة جيورجيا مغلوبا على أمره؛ وأيضا فإثر مظاهرات ضخمة قامت بها (نقابة تضامن) في بولندا، رضخ النظام للقبول بانتخابات ديمقراطية، لتحدد بالتالي طبيعة النظام، وتمخض عن فوز العمال البوليين بانتخابات جرت في عام 1989 وتم انتخاب فاليسا رئيس (نقابة تضامن) رئيسا للبلاد في العام التالي 1990، ومن الطريف أن جاء إقصاء فاليسا عن الرئاسة لاحقا باللعبة الديمقراطية ذاتها..
يعدّ لبنان هو البلد العربي الوحيد الذي عاش نظاما ديمقراطيا، لكن طبيعة النظام تعرضت لاضطرابات في السنوات الأخيرة لاسيما بعد أن تبنت أيران لحزب الله، وحولته من حزب سياسي إلى مقاومة مسلحة، وأثارت النعرة الطائفية..
يبقى لنا أن نقول أن الديمقراطية هي الطريق المنطقي والمطاف الأكيد والوحيد لكافة النظم مهما طال بها الزمن، ولن يطول الزمن حسب قراءتنا للواقع ومتابعتنا للأحداث، وبما يبينه التوضيح التالي… ففي عام 1900 كان من بين 43 دولة مستقلة في العالم، كانت هناك فقط ست دول يصدق عليها وصف الديمقراطية أو الليبرالية، وفي عام 1980 من بين 121 دولة في العالم كانت هناك 37 دولة يمكن وصفها بالديمقراطية أو بالبلدان الحرة (الليبرالية) وفي عام 1998 كانت 117 دولة تعرف أنواعا من الديمقراطية من إجمالي 193 دولة في العالم، كما يشير بيان آخر أنه ما بين عامي 1974 – 1994 تحولت ستون دولة من أنظمة شمولية أو ديكتاتورية إلى أنظمة ديمقراطية…
أجل ..إن الديمقراطية هي المطاف الوحيد والأكيد لكافة النظم، وهذا ما يقتضيه العقل وتحتمه الأخلاق، ولأن الشمولية بتعبير الاقتصادي النمساوي الليبرالي فريدرك هايك: (تعني نهاية الحقيقة أو الصدق)..