د. محمود عباس
النهج المرضي الذي اتبعه بشار الأسد، فاقم به مع حاشية والده، من مآسي الشعوب السورية، وكذلك من سمعة الشعب العربي، وكانت نتيجة تصرفه هذا وقوعه في مستنقع الضياع، وتحوله من رئيس دولة إلى خادم مطيع للقوى الإقليمية بقيادة الدول الكبرى، وعليه بدأ العالم يتعامل معه معاملة حارس ليلي لا أكثر، ويتوضح هذا عندما دعاه وزير الدفاع الروسي إلى مقر قواته على الساحل السوري لمقابلته، وبدت المقابلة كأن أحد رؤساء مربعاته الأمنية يحقق مع أحد معارضي نظام حكمه، وكان مستكانا أمام الوزير كما تستكين أجهزته القمعية مطالبي الحرية في سوريا السجن. ومهما طغى وتبجح على الشعب، فهو الآن في نظر العالم جميعا؛ وليس فقط في نظر الشعب السوري، مجرم حرب، وقاتل الأطفال.
كان بإمكانه أن يكون سيد الدولة السورية، لو أبدى قليلا من التعامل الحضاري مع الشعب الآمن، لكنه برعونته أسقط ذاته في خانة خادم مستكين ولأقرب الدول إليه. يتحرك مسلوب الإرادة، يُأمر حسب أجندات من استعان بهم لإبادة الشعوب السورية، ويحارب حسبما تقتضي مصالحهم، لقد أضاع الشعب السوري وأضاع ذاته وطائفته. على الأغلب هو وحاشيته يدركون أن آثار فعله هذا ستنعكس سلبا على طائفته لاحقا، كالأخذ بالثأر وإن مرت عليها عقود. وهذا لم يقتصر على سنة سوريا، بل كل السنة وفي أية بقعة من بقاع الأرض كانوا، كما فعل هو في جرّ الجهاديين من الفريقين ليذيقوا أشد المآسي والكوارث للشعب السوري الآمن.
لو كان (وكلمة لو الآن لم تعد سارية المفعول بحكم التقادم وبمسافات ضوئية) بشار الأسد على قدر من الوعي الحضاري، لاختار منطق الحوار الذي كان سيقربه من مناوئيه السياسيين، ومن الشباب الثوري، الذين كانت الحرية والانفتاح على العالم الحضاري بأبسط نماذجهما كافية لإرضائهم، لكن وللأسف انتهج طريق الإجرام وحرق الأخضر واليابس حلاً، لم يكن تدمير سوريا له بذي بال طالما هناك أصوات ترتفع مطالبة بالحرية وكسر الانغلاق، وهذا بمفهوم بشار كان يعني زوال سلطته.
وما يدهش متوسط الذكاء، أنه شاهدٌ على تجربة أسياده في الحقبة السوفيتية، ولم يتعظ بها، وكأنه أذكى منهم، رغم إيمانه النظري والعملي بسيادتهم. ولم يبدِ أي ميل نحو الاستفادة من انتقالهم السلمي إلى الحرية والانفتاح، ويعلم جيدا، أن أسياده من تلك الحقبة لا يزالون أصحاب السلطة الفعلية في تلك الدول، ولكن من وراء الستار. بالرغم من توحد الألمانيتين لا زالت ألمانيا الشرقية هي نفسها ضمنا، وإن تغير شكلها الخارجي، ناهيكم عن بقية دول المنظومة السوفيتية السابقة. قد يكون تأكدنا مشكوك فيه فيما إذا اعتبر طبيب العيون نفسه أذكى منهم، إلا أن الوقائع تبدي ما تأكد لدينا.
لا يوجد أي مبرر ما قامت به مربعاته الأمنية من العمليات الإجرامية، في بدايات الثورة السورية، كالتمثيل بجثث أطفال حلموا بالحرية التي تلقوها عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي، وكذلك بجثث آبائهم الذين كانت طموحاتهم لا تتجاوز الظفر بواقع حضاري إنساني. وكان الأولى برجل، قيل على لسانه في السنة الأولى من وراثته لعرش والده أنه يطمح إلى تطبيق ما عايشه في العالم الحضاري، وذلك بحكم مقارنته بين ما لامسه عمليا في الخارج من تقدير للقيم الإنسانية، وما كان عليه والده في سوريا. لو طبق ما أفصح عنه لكان كافيا أن يمحي جنايات والده، ويظفر بخلود الذكر كقائد أعاد الاعتبار الحضاري والإنساني لسوريا وشعبها بعدما أفسدها والده بكليتها. ولكن جرى عليه المثل القائل “لا تسقط التفاحة بعيدة عن شجرتها”.
أوصل بشار الأسد، وبحقد وخباثة مستشاري والده ومربعاته الأمنية، سوريا إلى ما عليها الآن، فلم يعد لديه وطن يحكمه، ولا الشعب السوري قادر على رؤيته، وحتى المقربين منه، والمحاطين به، لا يرون فيه سوى رئيس، غارق في الإجرام. لقد راكم هذا الغارق في الإجرام على طائفته الثارات، ورغم ادعاءات المغدورين بهم حول تبرئة طائفة هذا الرئيس، لن تنقذها، وفي أول فرصة يظفر بها المغدورون بهم ستضرم نار الثأر والانتقام. ودفعُ الثمن واقعٌ عاجلا كان أم آجلا، فبشار الأسد وحاشيته هم المذنبون فيما ستلحق بالطائفة لاحقا. بسجية الإجرام حكموا على طائفتهم بالإعدام قبل إعدامهم للشعوب السورية. والحقيقة ليست فيما يقال في العلن وفي إعلامه، بل ما ترسخت في اللاشعور البشري السوري، السني السوري أولا ومعهم عموم السنة في عالمها الواسع. والصور النمطية المتشكلة في ذهنية طائفته وفي ذهنية السوريين على العموم لا تنم عن نسيان الحاصل وما يحصل الآن. في الجانب الآخر المعارضة التكفيرية الافتراضية لا تقل صيتها عن بشار وحاشيته؛ وهذا كافٍ حين يتم ذكرهم وذكر سوريا اليوم وفي جميع بقاع العالم أن تعكس صور الإجرام، والرعب والإرهاب لدى السامع، ويتصفان ببؤرة الإجرام والشر، أما ذكر اسم الشعب السوري في الجهة المقابلة تحضر إلى الأذهان صور التشرد والهجرة والبؤس ممزوجة بشعور الحزن والألم، لقد ترسخ، ما حصلت وتحصل لسوريا الآن، في الأذهان وعلى مدى الدهور، مثلها مثل المجازر التي دخلت التاريخ بصفحات مكتوبة بيد المستبدين، وبمداد من دماء الشعوب الآمنة، والشباب الطامح للحرية.
محصلة ما جرى قبل خمس سنوات وإلى الآن أوصلت سوريا إلى أيام الانتداب، لتتداول الدول قضيتها بمعزل عنها، وفي معظم الأحيان لم يتجاوز حضور ممثليها أو تواجدهم، في جميع المؤتمرات السابقة وحتى آخرها في جنيف، عن سوية مسرحيات هزيلة مقرفة، وخاصة الأخيرة، والتي ترأسها الشلة العنصرية والحاقدة على الشعوب والأديان السورية غير السنية البعثية، المتشكلة في مؤتمر الرياض، لتكون على مقياس شريحة سلطة بشار الأسد الفاجرة، وكانت غايتها تضييع الوقت وإلهاءهم بمباحثات سذاجة؛ ليتوصلوا في النهاية إلى قرار مفاده العمل على وقف نزيف الدم السوري (يا لها من قرار!)…
يتبع …
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
29/8/2016م