عبدالرحمن كلو
تركيا الدولة ومنذ الانقلاب الأول على حكم السلطان عبدالحميد الثاني عام 1909 من جانب الاتحاد والترقي لم يغب عنها حكم العسكر، حيث أصبحت العسكرتاريا العلمانية البديل الشمولي لإدارة وحكم الدولة الجديدة ، والأتاتوركية التي جاءت بإرادة غربية هي نفسها التي عمدت على إجهاض مضمون اتفاقية سيفر وحولتها إلى لوزان عام 1923، لوضع حد لكل طموح كوردي، ليكون الغرب على مسافة آمنة من تداعيات الصراع العقائدي مع المكون الكوردي الذي بدأّ مع بداية الدولة الأيوبية إلى تاريخ سقوط الدولة العثمانية، ولم تقف العسكرتاريا عند حدود لوزان بل بل وقمعت كل الثورات والانتفاضات الكوردية في تلك الحقبة من التاريخ
وعلى الرغم من المحاولات الشكلية التي حاول فيها العسكر التظاهر بالحالة الديمقراطية من خلال انتخابات وتسلم الأحزاب السياسية مقاليد السلطة زهاء قرن من الزمن إلا أن المؤسسة العسكرية المفعمة بذهنية فاشية بقيت الحاكم الفعلي في تركيا وعند كل مفصل خلافي ما كان عليه إلا عملية انقلابية وترتيب البيت التركي بحسب معاييره، وفي الآونة الأخيرة ومنذ عهد رئاسة توركوت اوزال 1989 – 1993 وحتى تسلم العدالة والتنمية للحكم في تركيا عام 2002 وإلى تاريخ آخر عملية انقلابية في تموز 2016 كان الصراع في أوجه بين المؤسستين المدنية والعسكرية، تخلل الصراع محاولات يائسة من جانب الأحزاب السياسية في تعديل البعض من مواد الدستور التركي باتجاه تحجيم دور العسكر في الحياة السياسية لتركيا إلا أن المؤسسة العسكرية وجهاز الاستخبارات ( الميت ) عملا معاً على النقيض من ذلك وعلى الدوام عمدا في تفعيل الأزمات وخلق الحروب الداخلية في محاولة منهم الابقاء على أهمية العسكر في حماية ما يسمى بالأمن القومي التركي وثوابت الجمهورية الأتاتوركية في تحد صارخ للتنازل عن امتيازاته ونفوذه التاريخي.
لكن ومع المحاولة الأخيرة في أن يعيد التاريخ ذاته وفشل العملية الانقلابية في 15 تموز الماضي تغير وضع المؤسسة العسكرية بشكل جذري إذ استغل أردوغان – الذي يمثل امتدادا فكرياً وسياسياً للدولة العثمانية – كل الوسائل والجوانب القانونية وغير القانونية في التخلص من حكم هذه المؤسسة التي حكمت تركيا زهاء قرن كامل من خلال أصنام أتاتورك ومقدسات أيقوناته الفاشية، والحملة الارتدادية على العسكر كانت شاملة وراديكالية بكل المقاييس، لأنها مثلت اللحظة التاريخية المصيرية التي يمكن لأردوغان أن يستثمرها، فكل المناخات الشعبية والدولية كانت في صالحه لذا لم يتردد في الحسم، والدعم ا وجاءت بمساعدة أمريكية غير معلنة لأن التغيير يأتي ضمن أولويات الترتيبات الجديدة للشرق الأوسط بحسب المشروع الأمريكي لما تمتلكه تركيا من موقع جيواستراتيجي في ساحة الصراع الحالية بالنسبة لسوريا على الأقل، حيث أن الازدواجية في القرار التركي بين العسكر وأردوغان كانت عقبة أساسية أمام أي دور تركي في المنطقة، وبما أن أحد أهم حلفاء المؤسسة العسكرية والاستخبارات وجنرالاتهم هو حزب العمال الكوردستاني الذي يمتلك منظومة سياسية وعسكرية في كل من سوريا والعراق وإيران، وهذا التحالف- غير المعلن- أصبح له قيمة استراتيجية وتكتيكية خاصة بعد عام 2000 أي بعد اعتقال اوجلان عندما تخلى حزب العمال الكوردستاني عن استراتيجية التحرير والتوحيد واعتنق مبدأ الجمهورية الديمقراطية في تركيا في مؤتمره السابع الاستثنائي الذي عقده في جبال قنديل، والذي أزاد في توثيق تلك العلاقة هو هذا التخلي عن استراتيجية المشروع الوطني الكردستاني ، وهي المرحلة التي أسس فيها هذا الحزب اجنحته في كل جزء من كردستان تحت أسماء مختلفة وحمل الجناح السوري لهذا الحزب اسم الاتحاد الديمقراطي عام 2003 دون إضافة أي توصيف أو تسمية كردية تحسباً لوظيفته المستقبلية وتسهيلا لما قد يوكل إليه من مهام ، وبشكل عام أصبح هامش العلاقة مع هذا الحزب مريحاً بالنسبة لأي طرف من خارج هذا المشروع بحكم ضعفه، إذ ازال كافة الحواجز القومية والأيديولوجية بينه وبين أي طرف حتى وإن كان من خارج حلبة الصراع ولهذا السبب بالذات كانت ساحة الحرب على الإرهاب ( داعش) البيئة المناسبة لضم كافة اللاعبين ومنهم حزب العمال الكوردستاني مع جزء من جناحه الإيراني PJAK بوساطة إيرانية ليكون في سوريا خارج كوردستان تركيا وحتى خارج جغرافية كوردستان سوريا علماً أنه لم يحرر قرية واحدة في معقله في الشمال، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية غيرت من استراتيجيتها في سوريا بعد ظهور داعش وأصبحت تستخدم كل ما يمكن استثماره لهذه الحرب بما في ذلك ما تبقى من القوة العسكرية للنظام نفسه، وبما أن العمال الكردستاني لم يعد يحمل أي مشروع قومي أو وطني كردستاني فهو لم يعد يشكل خطراً ولا عبئاً على أية مشاريع دولية أو إقليمية ويمكنه أن يتكيف مع الأجندات القائمة بسهولة ومن دون أية شروط، إذ باتت مهمته في الاستحواذ على عناصر القوة العسكرية للإبقاء على ذاته كتنظيم وقوة عسكرية صالحة لأية مهمة إقليمية، وأن يكون لاعبا أساسياً في أية ساحة أخرى، وهو في صراعه مع المشروع الوطني الكردستاني كمهمة أوكلت له لم يوفق في خطابه السياسي إذ اختار عبارة ( الأردوغانية ) لخصومه ناسيا المدلول التاريخي للمصطلحات يوحي إلى انه ينتمي إلى الجانب الآخر من المعادلة وهو العسكر بكل ما يملكه من ثقافة فاشية ضد الوجود القومي الكردي، ووقع في فخ الولاء للعسكر والاستخبارات عندما ضبط متلبساً وهو يحتفل بنجاح العملية الانقلابية في شوارع المدن التي يسيطر عليها، لكن ومع فشل الانقلاب سرعان حولها إلى عمليات انتقامية ضد أطراف ومناضلي الحركة السياسية الكردية، ومن خلال إيران وبعض الرموز القيادية من الطائفة الشيعية في جنوب كوردستان استطاع أن يجد موطأ قدم له في جنوب كوردستان ليقوم بمهام ممانعة مشروع الدولة عبر توظيف واستثمار الخلافات الحزبية التقليدية وهو الآن يتواجد على شكل خلايا صغيرة مدعومة من قائد فيلق القدس قاسم سليماني والحشد الشيعي وحكومة بغداد في شنكال وكركوك وهو بمثابة قنبلة موقوته تستخدمها إيران عند اللزوم ضد مشروع الاستفتاء والاستقلال.
لكن الامور تغيرت تماماً بعد غياب العسكر عن المشهد السياسي التركي، فتركيا ( أردوغان ) تراجعت عن حلم الامبراطورية العثمانية بل وتخلت عنه بشكل نهائي بعد فشل الاسلام السياسي المتمثل بالإخوان المسلمين في مصر وليبيا وتونس وحتى في سوريا بالاضافة إلى الضغوطات الداخلية والخارجية، حيث انكفأ أردوغان على ذاته في إطار حدود الدولة التركية، وتصالح مع كل الخصوم من حولة وهم حلفاء العمال الكوردستاني وسيستخدم ما لديه من أوراق ضد إنهاء وجود هذا الحزب حليف أعداءه العسكر وجماعة فتح الله كولين، والدخول التركي الأخير في جرابلس لم يكن لأهداف تركية بقدر ما كان لأهداف مشتركة مع النظام السوري وإيران ولم يكن ليكون هذا التدخل قبل رحيل العسكر بأي شكل من الأشكال فهومن نتائج الاصطفافات والترتيبات الجديدة، ولم يعد النظام السوري بحاجة لخدمات هذا الحزب في الشمال السوري إذا كانت تركيا (أردوغان) قد تعهدت بأن تقوم بتلك المهام على أكمل وجه، لذلك يمكن أن تكون هناك الكثير من ذرائع الخلاف بين الطرفين مستقبلاً حول الامتيازات ومناطق النفوذ، وبالتالي إلى فض الشراكة القائمة معه في سوريا، لكنها وبكل الأحوال لن تكون بالسرعة الكلية كما شاهدنا فعلى الرغم من حدة القتال في الحسكة وعشرات الضحايا والنزوح الجماعي من المدينة بقيت المناطق الأخرى في عفرين وقامشلو هادئة دون إطلاق رصاصة واحدة، هذا لأن الشراكة لم تعد تقتصر على طرفين فقط فهناك أكثر من شريك مثل إيران وروسيا والولايات المتحدة وليس باستطاعة أحدهم فض هذه الشراكة من جانب واحد، لأنهما ببساطة أضعف طرفين في منظومة التحالف القائم ضد داعش، لذلك ستكون مستقبل الأحداث مرتبطة إلى درجة كبيرة بالدور التركي الجديد، وفي حال الاستغناء عن خدماتهم وفق تفاهمات تركية مع النظام السوري وإيران، تخطط إيران للانتقال بهم إلى جبهات ساخنة أخرى على حدودها مع كوردستان العراق لمحاربة الديمقراطي كوردستاني – إيران، الذي بدأ حربا تحريرية ضد النظام الايراني.
إلا أن الرؤية الأمريكية مختلفة بخصوص مستقبل حزب العمال في سوريا، فلها سيناريو خاص ويتمثل في حل وسطي يضمن إرضاء كل الفرقاء وخاصة الجانب التركي وذلك بفرض فصل الجناح السوري من حزب العمال الكردستاني واستخدام هذا المكون أو الخليط الشعبوي السوري في معارك بالوكالة بعيداً عن الحدود التركية في الرقة ودير الزور خاصة وأنه يحمل عنواناً سورياً ديمقراطيا وليس له أية عناوين قومية مع الابقاء على بعض امتيازاته المادية في الشمال السوري مع الحرص أن لا تكون على حساب مؤسسات الدولة السورية إرضاء للنظام وروسيا، وهذا ليس استنتاجاً أو تحليلاً بل يأتي على لسان المسؤولين الأمريكان أمام الاعلام وأمام الفرقاء ففي آب المنصرم عندما اجتمع مايكل راتني المبعوث الأمريكي الخاص لسوريا مع قيادة الائتلاف وكان برفقته ماكس مارتن، وجيل هتشينغز ، وكارن ديريك ، وباتريك بولاند ومن جانب الائتلاف كان رئيس الائتلاف ونائبه وبعض أعضاء الهيئة السياسية قال بالحرف:
• نحن لا علاقة لنا مع الـ PYD وإنّما لنا علاقة عسكريّة مع YPG وهي شراكة عسكريّة لقتال داعش، كنّا نرغب أن يكون لنا شركاء من الجيش الحر، لكن الجيش الحر يريد قتال الأسد بالتزامن مع قتال داعش، والمشكلة أنّ قتال الأسد عسكريّا ليس ضمن خطّتنا حالياً، ونحن لا يمكننا أن ننتظر ذلك.
• نحن نريد شريكاً قويّاً على الأرض، والـ YPG شريك قوي.
• ننصحكم أن تتحدّثوا مع PYD فهم مكوّن سوري والPYD لن تختفي من الساحة السّوريّة.
• أريد أن أذكر أنّه لا شراكة سياسيّة بيننا وبين PYD ، نحن لا نعترف بمصطلح “روج آفا” ولا ندعمه سياسيّا، وهم يريدون الاعتراف بهم، قلنا لهم إنّ طاولة المفاوضات هي التي تحدد شكل الدولة السوريّة.
• هذا الصراع استمر خمس سنوات وقد يستمر 15 أو 20 سنة أخرى، وانتم (الائتلاف) مازلتم تقومون بعملكم بنفس الطريقة وتتوقعون نتائج مختلفة ؟.( موجه للائتلاف )
ولم يخف كيري رؤيته والموقف الرسمي لبلاده عندما دخل الجيش التركي مدينة جرابلس نحن قلنا لهم ( قوات سوريا الديمقراطية ) يجب أن تنسحبوا من منبج بعد تحريرها وهم وافقوا على ذلك ولا نسمح لهم بعبور الفرات إلى الجانب الغربي في هذه الحالة لن ندعمهم.
وجاء ذلك بوضوح في بيان قيادة ” وحدات حماية الشعب ” يقول : (…إننا في القيادة العامة لوحدات حماية الشعب نعلن ان قواتنا انهت مهامها بنجاح في حملة تحرير منبج وعادت الى قواعدها بعد أن سلمت القيادة العسكرية لمجلس منبج العسكري و كذلك جميع نقاطها العسكرية وكما سلمت الادارة المدنية للمجلس المدني في منبج…) يعني ببساطة انتهت مهمتهم.
والخطاب الأمريكي واضح فهو يبحث عن مقاتلين مأجورين تحت الطلب على الأرض من دون مقابل أية مكتسبات أو ضمانات سياسية ، وهي تخطط لسنوات طويلة من الحرب ضد الإرهاب ،ويهيب بالائتلاف السوري المعارض أن الوضع السوري ليس كما هو قبل خمسة أعوام ويجب عليكم التفكير والعمل وفق المستجدات ، والصراع لم ينته بعد بل سيستمر سنوات طويلة ، ومن خلال قراءة الرؤية الأمريكية لا بد من اعتبار مستجدات الحالة التركية جزء ا حيوياً واستراتيجيا في متغيرات معادلة الصراع الحالي، وأن أمريكا عازمة على الفصل القسري بين قوات سوريا الديمقراطية وبين العمال الكوردستاني إرضاء للطرف التركي، كما أن الحفاظ على هيكلية مؤسسات الدولة تعد من ثوابت قوى التحالف الدولي ومهامها على الرغم من كل الخلاف والاختلاف مع النظام، وفي هذه الحالة ومهما بلغت قوات سوريا الديمقراطية من قوة من خلال الدعم الأمريكي فإن ابتعادها عن الجغرافيا الكردية أو ابعادها بحسب شروط المرحلة الجديدة، ستفقدها بشكل نهائي عناوين مرجعيتها الأساسية المستمدة من أيديولوجية حزب العمال الكردستاني وأفكار أوجلان، عندها من المؤكد أنها ستتعرض للإنحلال في الجانب الكوردي أولاً، وسينتهي الخطاب السياسي لهذه القوات بشكل كامل في الشارع الكوردي.
بقي أن نذكر أن الخوف التركي من نفوذ ال pyd في الشريط الشمالي لسوريا لا يأت من كونه جناحاً لحزب العمال الكردستاني فقط، فلأن ال pyd لم يستطع تجاوز حدود الحالة الحزبية والمفاهيم الطوباوية المستمدة من نظرية الجمهورية الديمقراطية لحزب العمال، وفشل فعلياً في تسويق إدارته الذاتية ولم ينجح بسبب عدم تبنيه المشروع القومي ورفضه لأية حالة وطنية كوردستانية طبقاً لشروط حلفاءه، وتركيا تدرك جيداً أنه لا يحمل أي مشروع سياسي ، لكن الخوف التركي يأتي من البيئة والمناخ السياسي الكردي في كوردستان سوريا ومن المشروع الوطني الكردستاني في هذا الجزء، ولذلك تتسارع إلى تمزيق الجغرافيا البشرية في شمال سوريا، ولم يخف الاخوان المسلمين ( مناصرو أروغان ) سعادتهم بالدخول التركي في جرابلس وأكدوا على أنها ضمانة لوحدة الأراضي السورية، هو الخوف من الجغرافيا السياسية ويعلم الجميع أن أية قوة في الكون ليس بمقدورها إلغاء الذهنية القومية والوطنية الكوردستانية في عفرين أو في قامشلو أو في أية مدينة أخرى مهما بلغت من القوة، والقوة ما هي إلا حالة مؤقتة لمرحلة انتقالية وكل الخوف من المستقبل ….مرحلة ما بعد داعش والارهاب ومرحلة الاستقرار والمشاريع السياسية وترجمتها على الأرض.