وإذا كان الكردي- الآن – يعيش حالة بؤس ، جغرافيا ً، حيث تتوزّع خريطته في خرائط دول أخرى ، وإن تكون نموذج الكيان- من الكينة بمعنى الحالة و الخصوصية هنا- ضمن الحدّ الأدنى كما هو حال كردستان العراق – يثير ريبة وحفيظة مقتسمي خريطته ، جميعاً ، فإنّ الكرديّ في ما آل إليه ، ليدفع ضريبة حال بأس في الأصل ، على اعتباره كان عنصر قوّة في حضارات شتّى ،و كان هو أسطونها ، ومحورها ،وعمادها ، وإن سايكولوجية القوة التي يحظى بها دفعته – دائماً – لمناصرة سواه ، ولقد كان أنموذج اندماجه في الحضارة الإسلامية ، أحد الأشكال البارزة على هذه الخصيصة التي يتمتع بها ، واستمرت تلازمه حتّى عصر تقهقر الدولة العثمانية ، وتقاسم تركة – الرّجل المريض – كي تنبثق دويلات قوموية على خريطته ، على حساب الكيان القوميّ الكرديّ الذي بات يتعامل معه، وكأنه دخيل على جغرافياه ، إزاء التزوير الجغرافي التاريخي الفاضح الذي سيتمّ في هذه الرقعة المكانية المتمايزة ، وهو منخرط في لجّة حمّى الوطنيات اللاحقة المتعدّدة، كل ّمنها على حده……………….!.
أجل ، هكذا بات ينظر إلى -الكردي – على إنه غريب من قبل شركاء المكان، من الفرس، والترك، والعرب ، على حد سواء ، بل إن المغالين منهم ، راحو ا يعمدون على تفريسهم ، وتتريكهم ، وتعريبهم ، عبر طبعات خاصة بكل جزء من أجزاء كردستان ، المستحدثة ، بعيد التشكل الجديد لخريطة المنطقة، التي يحاول بعضهم التمادي في الخداع لتقديمها ، وكأنها مقدسة ، لايمكن المساس بها، وإن كان – بدوره- يرفع صفة القداسة ، هنا ، إزاء مصلحة لتوسيع رقعة خريطته ، أنّى أتيح له ذلك، لاسيما إزاء المشاكل الحدودية العالقة هنا وهناك، فيما بينها .
ورغم ، ما آل إليه الكردي ، من ظروف تشتيت ، حيث تتوزّعه خرائط شتّى ، إلا إن هناك خوفاً دائماً من الدول المقتسمة لكردستان ، تجاهه ، حيث كان هناك – باستمرار – التقاء هذه الدول ، رغم الكثير من نقاط الخلاف الحقيقي، العميق ،بينها ، حتّى ولو كانت حدودية ، حسّاسة ، لئلا تقوم للكردي قائمة ، وهو ماحدا بأبناء الشعب الكرديّ ، ليتطلّع لتحقيق حلمه ، القوميّ ، إزاء ما يستهدف استئصال جذوره ، ومحو كيانه ، وإلغاء وجوده..!.
تعتبر تركيا اليوم ، أحد النماذج التي قامت ببناء دولتها ، بعيد انهيار الإمبراطورية الإسلامية ، مستفيدةً من تحالفاتها ، وبقايا سطوتها وشبكة علاقاتها ، ووفق المصالح الدولية ، آنذاك ، وفي ظلّ ما وفرته لها شوكتها ،وشكيمتها ، ضمن علاقات الحرب العالمية الأولى ، وما نتج عنها من علاقات ، وموازين جديدة ..!
ومنذ بداية تشكل الدولة التركية ، سعت – رغم اتخاذها مبدأ- العلمانية – كقطيعة مع الإرث الإسلامي ، كردّ فعل على الدّعوات العربية للخلاص من وطئها ، إلا أن ديدن الاستعلاء ، وإلغاء الآخر ، والتمظهر بالقوة ، والبطش ، ظلّ متساوقاً مع نزعات العلمانية ، المستحدثة ، كمجمع لمتناقضات شديدة ، بلغت ذروتها على أصعدة عديدة أثناء محاولة ضرب الشعوب الأصيلة في المنطقة ،بعضها ببعض (كما ستفعله مع الأرمن والكرد) بغرض التطهير العرقي ، وتجلّى ذلك في مواجهتهاالمشؤومة ضدّ الأرمن ، كي تستفرد في مابعد بالكرد ، أنى انطلقت شرارة انتفاضة ، أو ثورة ، وليتم إفراغ المنطقة الكردية ، وتهجير كلّ من يستعصي على التتريك ، لتسجّل تركيا أعلى رقماً في هذا المجال ـ من خلال مقارنة نسبة تهجيرها ، بالعدد الأصلي للسكان ، وإنه لواضح ، أمام كلّ متتبع لما يجري في المنطقة ، أنّ السياسة التركية ، مازالت تطفح بالنفس الطورانيّ ، مرتدةً إلى جذورها الأولى ، متعاميةًً ، عن لغة العصر ، والعقلانية ، وفهم الأسئلة الداخلية ، ولا سيّما أن في تركيا حوالي خمسة وثلاثين مليون نسمة من الكرد ، وهو ماكان كافياً لدفعها لتغاضي النظر، عن تطاولاتها لدرجة التفكير بفرض سياساتها على الدول المتقاسمة لكردستان ،استمراراً لنهج استعادة فرض قبضتها ، بطريقة جديدة ، و لئلا تقوم قائمة للكرد ، وهو ناجم عن إحساسها ، بل إدراكها، لمدى عجزها عن مواجهة تلك الأسئلة الداخلية ، ولا سيما ذلك السؤال الكردي الكبير ،والمتصادي ، الذي عجزت عن مواجهته بالنّار والحديد على مدى عقود متتالية…!
لقد بلغ الغيّ ، والخيلاء، والبطر ، والإحساس المراهق بالجبروت بطغمة الجنرالات الترك ، إلى السماح لأنفسهم بتهديد حرمة الجارة كردستان العراق ، التي يرتفع علمها الكردي في معبر إبراهيم الخليل- كما كل رقعتها غير المكتملة إقليمياً وكردستانياً- في مواجهة العلم التركي ، حيث يتطيّر الشوفيني التركيّ من رؤية الأحمر والأخضر والأصفر ، في أيّ اتساق ، ولو كان منديلاً ، أو شارةً ، أو قميصا ً، أو ثوباً ، أو إشارة مرور ، ليكون الردّ الكرديّ – في أقل دلالاته و مضمونه- وعلى لسان شخص رئيس الإقليم مسعود البارزانيّ ، بأن الكرد لن يسمحوا بأيّ تدخل في شؤونهم ، وهذا مادعا غلاة الجنرالات الأتراك ، يحتجّون ، بل ويهيجون ويميجون على مدى أشهر ، ومعهم دهاقنة سياستهم المغالين ، الذين يواصلون الوعيد إثر التهديد ، كي يتوّج كل ذلك بنشر آلاف العناصر من الجيش التركي على حدود شطري كردستان الجنوبية والشمالية، من قبيل الاستعراض، وجسّ النبض ، والحفاظ على ماء الوجه المراق أخيراً، وبلا جدوى … !
بأسف ، إذا كان ردّ الفعل الأمريكي سريعا ً، وكذلك الأوربيّ ، الذي هدّد بتحطيم حلم دخول تركيا فردوس الاتحاد الأوربي ، فيما إذا أقبلت على هذه النزوة السياسية العسكرية المتهوّرة ، وهما موقفان يلاقيان بالتأكيد الارتياح لدى كل كردي -دريئة أحقاد أنظمة المنطقة- بل وارتياح كلّ حرّ في المنطقة ، وان كانت السياسة الأمريكية ، في حدود فهمي المتواضع ، تنطوي في جوهرها على دقّ إسفين بين تركيا والاتحاد الأوربي، فإنه ، بالمقابل ، لم نجد أيّ صوت إسلامي ، أو عربي، يرتفع ، وان بلغة المعاتبة المخنثة، وعدم الرضى عن هذا التعنّت الطورانيّ الفظيع – باستثناء حالة قادة العراق الفدرالي – والذي من شأنه إشعال فتيل نار في المنطقة ، لا يمكن التكهن بنتائجها على المدى المنظور ، وستكون – تركيا – هي الخاسر الأوحد ، إزاء كل ذلك ، ولا سيما إن المارد الكردي ، سيكسر قمقمه ، ويتحرّر من أصفاده ، ويضع اللبّنة المطلوبة في الرّكن والمرتكز الأكثر أهمية ، في خريطة كردستان ، وهو ماليس في مصلحة الدولة التركية البتة، ولو عبر حساب أول ، بسيط ، ساذج……………… !
مؤكّد ، أن الدول المقتسمة لكردستان ، باتت الآن أمام امتحان صعب ، ولا بد ّمن خوضه ، على نحو مخالف لما اعتادت عليه ، من قبل في مواجهة السؤال الكردي الذي لم يعد ممكناً الالتفاف عليه ، أو مواراته ، مواربةً ،و زوراً كما تم منذ عقود طويلة ، ومريرة بالنسبة إلى الكردي ،”فارس الشرق” المغرّب في شرقه…..!
وإذا كان الكردي لا يجد في شريك جغرافيا اللحظة معيناً له ، رادّاً اليه بعض ديونه الهائلة ، وإذا كان هذا الشريك ، يعد ّمد ّالكردي اليد إلى أخيه الكردي، خارج إسار خرائط الجغرافيا المصطنعة تآمراً – بحق ذرائع وفتاوى السماح بتدخلاتهم المتنافضة لصالح أخوة حقيقيين، أو وهميين، أو افتراضيين – بل وإن أي تطلع تجاه القوى الدولية ، خيانة عظمى ، واستقواء بالخارج ، فان في ذلك دفعاً له من قبل هؤلاء ، أجمعين ، لارتكاب موبقة المحرّم ، في نظرهم ، ولو كان ذلك في إهاب الحلم ، أو قبول الحماية ، كما حدث في كردستان العراق منذ 1991 وحتى الآن….!.
!
ومن هنا ، فإن الخيار الوطنيّ ، ليس مطلوباً من الكرديّ وحده ، ضمن معادلة شراكته مع الآخر ، ليكون قدره الذي لا مناص منه ، دون أن يدفع له إزاء ذلك ، أيّ من استحقاقاته الدّنيا ، ولو ضمن إطار الشراكة، نفسها ، بل إن على الآخر ، وهنا ، لا بدّ من تحديد ه إسماً: الفارسيّ، والتركيّ، والعربيّ ،من على سدة الأنظمة ، تجاوز عقدة الاستعلاء ، وواقع الاستمراء في هدر أبسط مقومات الشراكة الحقيقية ، كضمانة فعلية لأيّ رابط وطنيّ ، في حال الحرص عليه ، وتحمّل مغبّة كلّ ما سيتمّ ، دون الانصراف إلى دفع الملامة تجاه الكردي ، ومحاسبته في حال رفضه لسائر سياسات تذويبه، في بوتقة الآخر، كما يراد لها أن تتمّ ، دون أية مراعاة لتمايزه المشروع ، شأن سواه ، أيّاً كان، في رقعة المكان…………!
كلمة أخيرة :
إنّ شركاء خريطة اللّحظة المعيشة للكرد ، وفي إطار مواجهة استقواء الكردي ليس بسواه ،فقط ، بل حتّى بنفسه، وخياله ،إنما يلجؤون إلى كلّ ضروب المحرّم، في مواجهة طريد خريطته الكردي ، أنّى خرج عن بوتقات تذويبه متعدّدة الطبعات، ولوعبر الحلم من قبله ،بمجرّد أبسط مقومات الاستحقاق..!
أجل ، إزاء النّفورمن “بعبع الاستقواء”، فإنّ أولى المهمات المطلوبة من شركاء المكان، إزاء الكرد،هي البدء الفوريّ بإزالة كافة الأسباب التي قد تدفع به تجاه خيار الاستقواء ، الذي هو في إطاره المتناول ، مجرّ د تهمة، تخوينية ، ملفّقة ضدّه ،بل إن عدم توفير المناخ الوطنيّ لهذا الشريك الفاعل،بتأمين كلّ ما يعزّز خصوصيته القومية ، بكل مستلزماتها ، ينسف خصيصة وطنيتهم، بالذّات- أعني خصوم الكرد- وإن كان هؤلاء ليخلدون في قرارتهم ، في نعيم اليقينيات المطلقة بامتلاك فتاوى، وقوانين الوطنية ، ومفاتيحها ، وهو ما يخلّ بأيّ عقد شراكة وطنية ، لن يخلف الكرديّ عن الإسهام فيه، شريطة أن يكون صانعاً لعقد الشراكة ، لا مجرّد جسد يلبس الثياب المعدّة له من قبل غيره ، دون أن يؤخذ له برأي ، وهو الأحقّ برسم طريقة عيشه، أو تعايشه، كما يريد………!
………….