ثلاثية مجزرة قامشلو الرهيبة .. شارع الحرية«1»

إبراهيم اليوسف 
 
إلى كل قطرة دم وكل ذرة تراب راحت ضحية ذلك التفجير الإرهابي القذر
 
حين تناهى إلى مسمعي أن حزب الاتحاد الديمقراطي ب ي د اتخذ من- شارع الحرية- الذي أعرفه من أوله إلى آخره شبراً شبراً، ذرة ذرة،  وجهاً وجهاً، شجرة شجرة، باباً باباً، مقراً لبعض مؤسساته. أحسست في أعماقي أنه وضع “طعم”  أو حجر أساس لهدف دريئي كارثي مقبل في هذا الشارع، الذي أصبح وفق هندسته الطارئة قاب قوسين والأخطار، لاسيما بعد أن تقطعت أوصاله عبر وضع الحواجز كي تنعدم فيه الحرية بالرغم من حسن معاملة- أسايشه- كما يقول بعض الجيران مع أهل الشارع المارين. و رأيت في ذلك طلقة في اسم الشارع وهو- الحرية- الذي أطلقه عليه شيوعيو ن قبل- وكان هو بدوره حلماً مؤجلاً، كما كل أحلام أبناء المكان. الشارع- م
وقد كان لدي ما يفاقم مثل هذا الشعور لأن الحزب المذكور ارتكب مجزرة لا أقول عنها مصغرة، بل كبيرة، بحق أسرة كردية كانت إحدى الحواضن الأولى لتنظيم ب ك ك، وقدمت له الغالي والنفيس، إلا أن اختلافه مع صاحب البيت على ملكية شقة سكنية في دمشق دفعته ليكلف أحد مقاتليه وهو- خبات ديرك- على رأس- دورية- وفي ظل هيمنة النظام الأمني، وأجهزته الرهيبة، لمحاولة اختطاف الرجل، ومن ثم إطلاق النار عليه، عندما حاول التخلص من بين أيديهم، لتتم إصابته، وأحد أفراد الدورية وهو خبات ديرك** نفسه والذي أسعف إلى حلب، ولفظ أنفاسه الأخيرة، ويتم حرق استوديو التصوير لابن العائلة المشلول في مكان جريمة اليوم، ضمن جريمة حرق أكثر من عنوان لهم، واستلاب بيتهم منهم فيما بعد..!..
وكانت ردة فعل رفاقه الهستيرية أن أطلقوا النار على ابن الأسرة المصور المشلول أحمد الذي كان يرافق أباه في المشفى الوطني- وهو الذي سقى جرحى ب ك ك وقدم لهم مع أمه وأخوته الطعام وخدمهم في المزل وهو طفل- وأردوه قتيلاً. ثم اتصلوا مع شقيقيه نضال وعمار و  يعلمانهما أن شقيقهما المرافق لأبيه في مشفاه قد قتل ولما توجها لجلب جسده، نصبا لهما كميناً وأردياهما قتيلين، بالرغم من أن نضال كان قد خدم في أعالي جبال قنديل وكان يمارس التمريض ويسمى طبيب الحزب وأنقذ حياة المئات من رفاقه أبطال الغريللا في أعالي جبال كردستان الشماء قبل أن يترك مع أسرته هذا الحزب بعيد اغتيال الحزب لأحد مؤسسيه وهو أحمد شنر في قامشلو، لأن الشهيد أحمد شنر كان قد سجل ملاحظاته على الحزب وقائده السيد عبدالله أوجلان وأعد منشوراً عن تجاوزات تنظيم ب ك ك بحق بعضهم -ومنهم من قتلوا على أيديهم من الملتحقين بهم من أمثال الشهيدين عدنان ملك ومحمد صابر صالح- ما أدى آنذاك حتى إلى محاولة تصفية صاحب المكتبة الكردي الذي استنسخ المنشور وهو الشخصية الوطنية بشير صالح شقيق المناضل المعروف حسن صالح…
إذا كنت قد ذكرت هذه الواقعة فإنني أفعل ذلك لاعتبارات عديدة. منها أن- شارع الحرية- كان الهدف الافتراضي للشاحنة المفخخة التي أودت بحياة العشرات من أبناء الحي- وأغلبهم جيراني ومعارفي ومن الأسر المقربة جداً إلي وبالأسماء- وأن الشاحنة تفجرت في- رأس هذا الشارع- وأصابت بيوت واجهته- ومنها أن هذه الأمتار -تماماً- التي ارتكبت فوقها أحد أكبر المجازر الانتحارية في هذه المدينة – اختلطت دماء أبطالها بقطرات الدم الأولى لعبدالله بدرو ومن بعدها بدماء فلذات قلبه الذين تمت تصفيتهم وإن على بعد مسافة لا تتعدى بضع كيلومترات من المكان، امتداداً لما جرى ضمن حيز قضيته، ناهيك عن خسارة ب ي د بروح أحد رفاقه بل كوادره المعتمد عليهم. وقد خسروه بسبب إشكالية ملكية شقة سكنية تافهة في دمشق هي – في الأصل- لضابط مخابرات الصلة بها كما علمت فيما بعد من بعضهم من آل بدرو-و كان ممكناً حلها على نحو آخر، بعيداً عن أحقية ملكيتها لأي من الطرفين. وهو أمر لاعلاقة لنا به هنا..!.
لا أدري ما سر تمسك ب ي د بهذا الشارع- تحديداً- وهو يقع في منطقة مدنية، سكانه من الكرد  البسطاء، وقد راح الحزب يغري بعض أصحاب بعض المنازل بشرائها، ضمن حملات استملاكية خطيرة من لدنه. بل إن بعض أصحابها قد فروا بسبب سياسات ب ي د إما بعد مجيئه إلى الشارع أوقبل ذلك، ناهيك عن أن القائمين على أموره راحوا يأخذون بعض المنازل من أصحابها، ومن بينها منزل عم لي-شقيق والدي وهو الشيخ عبدالقادر الكردي أوعبد القادر شيخ إبراهيم- وهورجل دين، عالم معروف، و شاعر مقل تم أخذ بيته من مستأجريه وجعله أحد مراكز المؤسسات المدنية للحزب ا..!.
بيتا ملا هادي، وعبدالله بدرو من البيوت الأولى القديمة في الشارع. شارع الحرية والوزارات والمراكز الحساسة. وقد تم استهدافها، على اعتبار أن منزل السيد بدرو أحد المراكز العسكرية-كما يقال-وإن بدا أن الإرهابي الداعشي القذر- وبعيداً عن تحديد الجهة التي انطلق منها والمسار الذي قدم منه قبل أن يصل إلى هدفه- قد استهدف الشريط المقابل من البيوت وهي بيوت: أبناء الراحل عصمت درويش- المرحوم خورشيد سليمان حج حسن- الشهيد عبدالكريم فاتي وأسرته، من دون أن يكلف نفسه محاولة اقتحام الشارع-بعكس كل الإرهابيين الانتحاريين- بمعنى أنه استهدف المدنيين، مع أن النقطة التي استهدفها تقع في مطلع الشارع على اليسار، وهو محط استفهام..!؟.
بعيد حدوث المجزرة الرهيبة حاولت قدر الإمكان أن أكتب ضمن حدود-تناول الفجيعة- لاسيما أني كنت أعيش- ومازلت- تحت سطوة وجوه هؤلاء الضحايا الأبرياء، محاولاً التعريف بهم، من معجم الروح، مرجئاً أي تحليل آخر، إلى أن تنجلي الأمور تدريجياً، وهوما لا أعتقد أن يتم بهذه السهولة. إذ أرى أنه بات من واجب دماء هؤلاء الشهداء أن نثير قضيتهم-معاشر الكتاب المعنيين بدم أهلنا- كل من موقعه، وبحسب فهمه، ليس إنصافاً لهم، ومحاولة إدانة الإرهاب، ومن صنعوه، حتى يستفحل بهذا الحجم الوبائي، في فضاء مكاننا كله، بل لنسعى كي نعمل معاً للحد من اختراقات العقل الإرهابي، وقد بدا أنه منظومة تعمل بكل وتائرها، لتنفيذ ما هو معول عليها، من قبل صانعيها.
حقيقة. إن النقطة الأولى التي عضضت على روحي الكليمة في لحظة ارتكاب المجزرة مصراً على إرجائها إلى وقت آخر، كانت في محاولة عدم الاقتراب من تناول صدمتي الكبيرة، تحت سطوة اللحظة الانفعالية عندما علمت أن “عقل” ب ي د. أي “عقل” ب ك ك، لم يفكر  في مسلمة، وبدهية، استوجاب غلق الشارع العام أو شارع عامودا وهو شارع هاشم الأتاسي- وربما تحول إلى اسم شارع حافظ الأسد أو حتى سواه مؤقتاً- وكانت السيارات- ولاسيما الشاحنات- تستطيع المرور منه “بحرية..؟!”، وهو أمر يدعو إلى الاستغراب، بل التساؤل، وإلى المحاسبة. أجل، عندما علمت أن “عقل” ب ي د. أي “عقل” ب ك ك، لم يفكر  في مسلمة، وبدهية، استوجاب غلق الشارع العام ليس من أجل حماية نفس، حماية  من تنطعوا ليسموا أنفسهم- وحدات حماية “الشعب” مع تقديري الكبير ل  ي ب ك في لحظة حمايته لأهلنا من الإرهاب تحديداً. “وهنا نحن أمام مهمة الأسايش الذي يعني بكل الأحوال: ب ي د بل يعني قبله : ب ك ك.!- وليس لأي غرض حزبوي هو الأصل  وفق تقويمي الشخصي-
من شارع الحرية انطلقت أول نوى مظاهرات حراك الثورة الكردي-المسروقة كردياً- وهو نفسه احتضن ولادة- حركة شباب الانتفاضة- إلى أن غدا اتحاد تنسيقيات الشباب الكرد أحد أكبر مظلات الحراك الشبابي التي تعرضت للوأد المنظم وفق تدابير شتى..؟!!. ومنه كانت تتوالى قوافل المشاركين في التظاهرات، ومن بينهم أحد مصوري تظاهرات الحراك وهو أحد أنجال عبدالله بدرو الذي تدرب في الشارع نفسه على مهمته، وكان في لحظة تعرض أبيه لجريمة الاعتداء يواصل مهمته..!.
 إذا كانت بيوت شارع الحرية- من أقصاه إلى أقصاه-  قد تقاسمت شظايا التفجير الإرهابي الذي تم في مفصل عناقه للشارع العام أو طريق عامودا، وتم إلحاق الأذى بها  فإن حال الشوارع المحيطة به على نحو مباشر هي آلم، لأنه تم ابتلاع مبانيها، وهدمها، وحرق من فيها، لاسيما كلما اقتربنا من دائرة-التفجير- كما إنني-طالما- اعتبرت أن من بين أهم ملامح وجه الحي الغربي- وعلاماته الفارقة المساحة الممتدة ما بين معمل الجليد وجامع قاسمو مهد مظاهرات الحراك الموؤود من قبل بعضهم في المجلس الكردي و ب ي د. وإن الصور، والفيديوهات التي  نشرت، تبين أن ملامح المكان قد تغيرت  حقاً، وهوما يؤكد صوابية أن الإرهاب- ومن وراءه- إنما يستهدفون ليس لمحو الذاكرة وحدها، بل لمحو أثر المكان، والكائن، على حد سواء..!.
 
يتبع
مقال بعنوان:
مجزرة قامشلو الإرهابية : الرسالة الواضحة والحبر السري..!
*شارع الحرية
وهو اسم رواية لي وعنوان فصل في أسر ودتي الذاتية- ممحاة المسافة- التي صدرت مؤخراً في القاهرة
** برصاص الدورية، وفق رواية أسرة بدرو ومن حولهم من الشهود
 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين مؤتمر جامع في قامشلو على انقاض اتفاقيات أربيل ودهوك الثنائية لسنا وسطاء بين الطرفين ( الاتحاد الديموقراطي و المجلس الوطني الكردي ) وليس من شاننا اتفقوا او اختلفوا او تحاصصوا لانهم ببساطة لن يتخلوا عن مصالحهم الحزبية الضيقة ، بل نحن دعاة اجماع قومي ووطني كردي سوري عام حول قضايانا المصيرية ، والتوافق على المهام العاجلة التي…

شادي حاجي لا يخفى على أي متتبع للشأن السياسي أن هناك فرق كبير بين الحوار والتفاوض. فالحوار كما هو معروف هو أسلوب للوصول الى المكاشفة والمصارحة والتعريف بما لدى الطرفٍ الآخر وبالتالي فالحوارات لاتجري بهدف التوصّل إلى اتفاق مع «الآخر»، وليس فيه مكاسب أو تنازلات، بل هو تفاعل معرفي فيه عرض لرأي الذات وطلب لاستيضاح الرأي الآخر دون شرط القبول…

إبراهيم اليوسف باتت تطفو على السطح، في عالم يسوده الالتباس والخلط بين المفاهيم، من جديد، وعلى نحو متفاقم، مصطلحات تُستخدم بمرونة زائفة، ومن بينها تجليات “الشعبوية” أو انعكاساتها وتأثيراتها، التي تحولت إلى أداة خطابية تُمارَس بها السلطة على العقول، انطلاقاً من أصداء قضايا محقة وملحة، لا لتوجيهها نحو النهوض، بل لاستغلالها في تكريس رؤى سطحية قد…

شادي حاجي القضية الكردية في سوريا ليست قضية إدارية تتعلق بتدني مستوى الخدمات وبالفساد الإداري وإعادة توزيع الوظائف الادارية بين المركز وإدارات المناطق المحلية فإذا كان الأمر كذلك لقلنا مع من قال أن المشكلة إدارية والحل يجب أن يكون إدارياً وبالتالي حلها اللامركزية الادارية فالقضية الكردية أعقد من ذلك بكثير فهي قضية شعب يزيد تعداده على ثلاثة ملايين ونصف تقريباً…