محمد قاسم ” ابن الجزيرة “
درج كثيرون ممن يتصدون لتحليل الأحداث أن يحاولوا قراءتها، لتحديد ما فيها من عناصر: (أسباب، دوافع، معطيات، غايات…) وهي خطوة طيبة. لكن يفترض أن تكون كل خطوة مبنية على منهج ومعطيات. فالمنهج هو اتباع المنطق وما وفرته التجارب من معايير تأكد مصداقيتها، ويسمى –عادة: المنهج العلمي الذي يستند إلى معطيات علمية /موضوعية ناتجة عن خلاصات أكدتها التجربة وأصبحت حقائق يقر بها الجميع، باعتبارها واضحة، ويمكن التأكد منها دائما، وهذا يوجد في عالم “الطبيعة” المادية. أما في عالم الإنسان-أو العلوم الإنسانية، فلا يتحقق ذلك تماما، بسبب طبيعة الإنسان الحرة، وقدرته على تغيير أفكاره وقراراته ونمط حياته الخ. والبحوث السياسية تنتمي إلى مساحة عالم الإنسان.
فلنأخذ مثلا: أقرب حدث شغل العالم وهو الانقلاب في تركيا.
تتراوح التحليلات بين:
1- انه مسرحية من النظام لغاية هي تصفية الخصوم، وتثبيت أركانه، واستعادة التفاف الشعب حوله لاتخاذ قرارات مهمة لا تلقى رفضا من الخصوم السياسيين، أو لا ينجحون في رفضهم أمام مد التأييد الشعبي في نظام يعتبر ديموقراطيا بالمقاييس المتعارف عليها، وهي الحرية والانتخابات الديموقراطية.
2- إنه انقلاب حقيقي –لكن يبدو أن النظام كان عالما بحدوثه، فاستعد لذلك وقضى عليه سريعا، وفي رأيي هذه النظرية تبدو محتملة.
3- إنه انقلاب حقيقي وقد تسبب به الغرب ربما أمريكا وشركاء آخرون، لكنه في الوقت نفسه، لم يدعه ينجح؛ ليمنّ على النظام برئاسة الرئيس أردوغان، وجعله في ظرف يضطر فيه للقبول بمطالبات معينة. وانا لا أستبعد الشق الثاني في هذه النظرية وهو تطويع أردوغان لمطالب لا تزال تطبخ في مطبخ الغرب –أمريكا خاصة.
4- انقلاب حقيقي أيده خصوم الرئيس أردوغان في الداخل والخارج، لكنهم تراجعوا عندما لاح لهم أن الانقلاب فاشل، وهذه نظرية من الناحية المنطقية تبدو محل نظر مقبول.
فيما يخص الحالة الأولى، لا أظن أن رئيس دولة في ظروف كظروف أردوغان يحتاج لمغامرة قد تنعكس عليه سلبا، لذا فهذه النظرية يقول بها أعداؤه الذين يمثلون سوريا وإيران ومن في محورهم. وبعض الذين يرددون ما يقرؤون دون خبرة في قراءة الأحداث. ولا يدركون عمق طبيعة السياسة وان المغامرة ليست سهلة في مثل هذه الحوال. قد يكون هذا محتمل في نظام أيديولوجي مستبد أو دكتاتوري. أما في نظام يعتمد الانتخابات فهذا احتمال مستبعد جدا.
وأما فيما يخص الثانية، فيبدو أكثر توافقا مع منطق يرى أن أردوغان كان بحاجة لتعزيز مكانته والتخلص من خصومه، فجاءته المحاولة –وهو يعلم بها – فرصة على طبق من ذهب ليستغلها خير استغلال سياسيا. لذا استعد لها دون أن يقمعها منذ البداية، واكتشف أسرارا كثيرة خلال المتابعة ومنها أسماء القائمين بالانقلاب والمؤيدون لهم. وربما هذا أحد أسباب معرفة هذه الشخصيات بهذه السرعة.
وفي الحالة الثالثة، احتمال وارد، لكنه معقد. إذ لا توجد معلومات كافية للحكم بناء عليها، وعلى الرغم مما في عناصرها من إغراء القبول بها. فالغرب يخططون لرسم خارطة في المنطقة، وهذا الإجراء قد يصب في خدمة مشروعهم بصورة أو أخرى. خاصة أن أصحابها يوردون أخبارا عن مشاركة إيرانية.
وفي الحالة الأخيرة، احتمال يتوافق مع أسلوب الغرب في التعامل مع السياسة، لكن تنبيهات وتحذيرات الفرنسيين والأمريكيين والألمان والروس…لأردوغان بالالتزام بالدستور والقوانين الديموقراطية … يشعر باحتمال وجود أمور خافية توحي بخوف هذه الدول من إجراءات تنال حلفاءهم، أو حتى بعض أبنائهم المتورطين من باب الاحتمال.
بكل الأحوال، القضية شديدة التعقيد. والتسرع قد يكون لخلط الأوراق، أو ربما لبساطة القدرة التحليلية أحيانا أو حتى للتعبير عن المواقف وتغلبها أحيانا انفعالات تكشف كثيرا من خلفياتهم.
ديرك
18/7/2016