افتتاحية مواطنة
في الصراع المتعدد الأطراف تبدو مقولة “التوجه نحو الطرف الأكثر خطورة ” بديهية في التنظير للصراع السياسي والعسكري وقد تترافق مع توزيع للنار بنسب متفاوتة ترتبها أوضاع استراتيجية وتكتيكية لا يمكن إهمالها حتى عند التوجه نحو الطرف الأخطر أو الأسوأ ،ولا تفيد المقارنات التي تستحضر ذاكرة التاريخ لتبحث عن صواب ما أو لتبرر توجهاً سياسياً او عسكرياً ملموساً إلا بالمعنى العمومي ومع الابتعاد دائما عن استنساخ أو مزاوجة قد تصادر الواقع .
وبالطبع من أجل مقاربة ملموسة وواقعية لابد من العودة الى خصوصيات كل حالة ،في “الثورة السورية ” مثلا يمكن تفسير سلوكات النظام السوري ، و مآلات الثورة ، وتركيبة المعارضة ، إلى حد كبير، ولكن ليس بشكل حصري ، بمقولة الخطر الأشد التي رعاها النظام وبدأ يصنعها بمهارة خطوة خطوة ، مدركا تماما لطبيعة التكوين الاجتماعي السوري وللدعم الكامن عند حلفاء إقليميين ودوليين مخلصين،
وقل أيضا بإدراك النظام لطبيعة العلاقات الدولية ،التي أصبحت شيئا جديد لا يرتبط بذلك النواح المرير عن القطب الواحد الذي كان لحناً مفضلا ليس فقط لليساريين والقوميين بل حتى لبعض الليبراليين بعد انهيار المنظومة السوفييتية ،وكان النظام مدركا تماما للنتائج التي ستؤدي إليها سياساته ،واستدراكا فإن هذه المهارة لا تعني البراءة ولا الطهر ولا النظافة بل تعني النقيض التام لكل ذلك ،لم يكن تصنيع حالة الخطر الأشد ممكنا دون إنهاء التظاهر السلمي الذي شكل ميزة التفوق لهذه الثورة ،الثورة التي استوحت ربيعا جميلا رغم كل ما عاناه السوريون من فصول شديدة الأنواء طوال أكثر من أربعين عاما ، ولم يكن تصنيع الخطر الأشد ممكنا أيضا دون استهداف البنية الثقافية الدينية الاجتماعية لأكثرية المجتمع في محاولة لتحطيمها وذلك بانتهاك حرماتها واغتصاب نسائها وتعذيب وقتل معتقليها وهدم مساجدها ووضعها بمواجهة التطرف الشيعي ورموزه فكان لا بد ان تفقد اي اعتدال وتبحث في فقهها عن كل ما يفيد التطرف في المواجهة ولم يكن أمامها إلا المقاومة، وأفضل مقاومة ممكنة في تلك اللحظة الراهنة هي التي اعتمدت عنصر القوة الكامن الذي استهدفته السلطة ،وهو الدين الاسلامي بطابعه السني ،الذي كان ملمحاً عاما وطابعاً عريضا شمل تدرجات واسعة ، وكان مقبولاً من السوريين العلمانيين والسوريين من أبناء المكونات الأخرى الذين كانوا الضيوف المدللين على خيم العزاء لشهداء الثورة من المتظاهرين والنشطاء السلميين، ولم يجد أصحاب الذقون حرجا في استقبال هؤلاء ومن معهم من النساء السافرات ، لكن مع تفاقم الاستدراج الطائفي للنظام يصبح الكمون الطائفي قابلا لاستعادة الهوية بالضبط على اساس التكوين الطائفي-ولا أحد يستطيع الزعم ان الحالة كانت هكذا عند انطلاقة الثورة رغم وجود التطرف ورغم وجود فقه التطرف – وتنزاح بالتدريج ألوان الطيف السوري الأخرى التي عرف النظام، بمهارة ،من يحيد منها ومن يتجاهل ، و أيضا من يخطف ومن يعتقل ومن يترك مصيره مجهولا ، وفي حين يفتقد المكون السلمي وال “وطني” بمعنى شموله لمكونات الوطن، قدرته على تقديم رد مناسب ،يبقى المكون الديني الطائفي هو الوحيد القادر على المقاومة كعمق اجتماعي ثقافي ،ولكن أيضا كحالة ضرورة يعبر عنها التراث السياسي بمقولة أنه ليس لديه ما يخسره في المقاومة فقد اُنتهِك دينياً وطائفياً واجتماعياً ومادياً وقيمياً وجنسياً .
وحتى نصل إلى “حالة الخطر الأسوأ” أيضا لابد من إضافة الخذلان الدولي الذي وجه صفعة للمتظاهرين الذين لم يجدوا ما يبرر الدور العالمي في إسقاط القذافي ،وعدم دعمهم لإسقاط الأسد هنا ، وهنا أيضا يبرز الدور الإقليمي الذي إذا أراد الدخول بقوة إلى اللعبة فلا يمكنه الاعتماد على قوى ضعيفة مشتتة فكان أمامه الخيار السهل في دعم قوى متمرسة وقادرة على توجيه ضربات موجعة من مثل القاعدة التي أنجبت داعش ، وهنا تصل اللعبة الى نهايتها ويتنفس النظام الصعداء فهو يستطيع أن يقول الأن ،وربما قبل :”أنا لست الأسوأ” وهاهو الخطر الأشد ماثل أمامكم، وبالطبع الذين يقرون بالواقع “الصائر” ليسوا أغبياء وهم يعرفون جيدا من هو الأسد وأغلبهم يقر بعدم شرعيته ، لكن في النهاية هناك واقع قائم هو “الخطر الأسوأ ” ولا توجد حتى الآن براعة دولية تسمح بتوزيع نيران مناسب بحيث تكون النار الأشد للخطر الأسوأ وبعض النيران على الطرف السيئ ولكن الأقل خطورة ، وهذا سبب تعثر الحل السياسي في سورية . مع ذلك أعتقد أن هذا الشكل من المحاكمة لا يزال موضع تفحص من حيث صحته ليس لأن الأسد أو نظامه يرتبط بعلاقات مضمرة مع المتطرفين وهي المقولة التي يقبلها الكثيرون ، الذين ليسوا بالضرورة من أصحاب نظرية المؤامرة ، انطلاقا من تحليل تكتيكات التحييد أو الهجوم أو الإنسحاب التي يتبعها الطرفان ،النظام و داعش ،بطريقة تبدو للآخرين وكأنها تكتيكات مدروسة لخدمة طرف واحد هو النظام .
أخيرا لا بد من معالجة أطروحة الخطر الأسوأ ليس انطلاقا من الفهم التآمري لعلاقة الأسد بالتطرف والإرهاب فهي علاقة مثبته عالمياً ،وهناك تفاصيل يعرفها الجميع دفعت المالكي رئيس وزراء العراق عام 2008 إلى الشكوى من دور الأسد في إرسال الإرهابيين وتدريبهم ،وأيضا لايجب الإنطلاق من معالجة التكتيكات العسكرية التي خدمت داعش ،أو الداعشية التي خدمت النظام حيث يمكن اعتبار ذلك نوعا من الاستفادة الموضوعية فكل طرف يختار التكتيكات المناسبة له في الهجوم والدفاع والإنسحاب . الخلل الذي تعانيه هذه الأطروحة يتعلق بسؤال هل يمكن الانتهاء من التطرف للتفرغ للنظام بعدها ؟ وهل إذا قبلت المعارضة بمواجهة داعش ، وهذا حاصل فعلياً في عدة مناطق ، هل يتركها النظام ولا يقصف مناطقها مثلا ؟ هل يقبل قتالها المستقل والمنفصل لداعش والنصرة؟ أم أنها يجب أن تصبح بإمرته ليقود المعركة ولتفقد هي أي قيمة أو أهمية حقيقية فيما بعد ؟بالمقابل فإن أيه معارضة سورية تحمل مشروعاً وطنياً سورياً بديلاً يجب عليها أن تكون ضد داعش والنصرة وبشكل لا يقبل أي التباس أيضاً ضد النظام ،ولكن عليها أن تبقى تقاتل من خندقها حتى تستفيد هي بدورها من مقولة الخطر الأشد ولا يبقى المستفيد الحصري هو النظام السوري .
تيارمواطنة
27/06/2016