إما نحن.. وإما أنا وأنت .. في خاصية خجل الحجل من صائده

د. ولات محمد
   ” نعم ! عرب ولا نخجل ” قالها محمود درويش يوماً في تحدٍّ لمن كان يعيب عليه هويته وانتماءه، لمن كان يريد له أن يذوب في غير لونه، أن لا يكون إلا كما يريدون. أتصوره (وهو يقولها) مرفوع الرأس بارز الصدر باثّاً في نفوس قومه طاقة هائلة من الثقة بالنفس ومن الاعتزاز بالانتماء وبالأصل وبالهوية. 
   بعض كوردنا (أفراداً وأحزاباً) يخجلون من التصريح بكورديتهم، أو بمشاعرهم أو برغباتهم الملبية لكورديتهم الموازية والمجاورة لعروبة العربي وتركية التركي وفارسية الفارسي، (ربما) ليس إحساساً بنقصٍ ما، بل احتراماً لتلك العلاقة التي جمعتهم بأصدقائهم العرب أو الترك أو الفرس عقوداً وعقوداً. 
تلك العلاقة التي انبنت على كثير من القبول بالتعايش اللامتكافئ بينهما، من حيث درجة التعبير عن خصوصية الذات الفردية والجماعية، أي التعايش المقبول بحده الأدنى، المانع للتناحر والتخاصم، لأن الأنظمة الحاكمة المتعاقبة لم تسهم في خلق حالة مواطنة تسمح للكوردي أن يعبر عن كورديته من دون أن يعني ذلك خيانة أو عمالة عند شريكه العربي أو التركي أو الفارسي. لذلك بقيت تلك العلاقة بين الكوردي وشريكه في حدها الأدنى حتى لو بدت أحيانا وكأنها تتسم بشيء من العمق، لهذا كانت عند أول محك تظهر على حقيقتها، لأنهم كانوا يَظهرون على حقيقتهم، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً.
  إذن، هل هناك ما يدعو للخجل فعلاً ؟. هل على الكوردي أن يخجل من التعبير عن اعتزازه بكورديته وحرصه عليها، أو الجهر بمشاعره الفطرية تجاه قومه لأن أصدقاءه من غير الكورد يتحسسون من ذلك ؟. هل سكوته عقوداً ولأسباب يعرفها الجميع يعني سكوته إلى الأبد، لأن المفترض عندهم أنه تم صهره، وأنه من المعيب أن يعبر عن خاصيته الأولى بعد ذوبانه (المفترض) في ما أرادوا له ؟. 
   نعم! أنا كوردي. وإذا كان في الحيّز خجل فهو من نصيب أخي وصديقي العربي والتركي والفارسي الذي مازال يظن (ونحن في عصر العلم والمعرفة وحقوق الإنسان والانفتاح والحريات التي باتت بلا حدود) أنه الوحيد صاحب هوية ولغة وتاريخ وحق، والذي مازال يُنكِر عليَّ حقي في الحياة الحرة الكريمة التي من أبرز مقوماتها سايكولوجياً ممارسة الهوية بصوت مسموع، وبلغة المهد.
   العربي والتركي والفارسي يقول بصوت مرتفع إنه عربي وتركي وفارسي، وهو تعبير عن افتخاره بانتمائه، وعن حسه العالي، وعن وعيه ووطنيته. أما الكوردي إذا أراد أن يعبر عن وعيه ورجاحة عقله ووطنيته فعليه أن ينتمي إلى واحد من هؤلاء أو غيرهم. أما إذا صاح: أنا كوردي، فإن تُهَم الخيانة والعمالة وضرب الوحدة الوطنية ستكون له بالمرصاد، وسيتعين عليه أن يخجل من تصرفه أمام ذلك الصديق الذي سيتحول عدواً مسبق الصنع. 
   الأخ والصديق الذي يُنكر عليّ حقي في الحياة كحقه تماماً، ليس أخاً ولا صديقاً، وليس جديراً بخجلي، وفقدانُه ربح لحياتي بقدر ما كان بقاؤه معي خسارةً لها وكارثة. 
   عندما سأل عبد الكريم قاسم البارزاني الخالد الملا مصطفى: ماذا تريدون؟، قام المرحوم بوضع القرآن الكريم أمامه قائلاً: ” عاملونا بموجب هذا “، أو شيئاً من هذا القبيل. فبموجب القرآن الكريم كل الناس سواسية، والله خلق الناس شعوباً وقبائل، وأكرمُ الناس عند الله أتقاهم ولا فضل لأحد على أحد، والعين بالعين والسن بالسن، أي مساواة تامة. وعليه، ما يحق للعربي والتركي والفارسي يحق للكوردي: حق اللغة بحق اللغة، والولاية بالولاية، والفيديرالية بالفيديرالية، والدولة بالدولة .. والبادئ أربح (فقد سبَقَنا أصدقاؤنا من تلك الشعوب إلى بناء دولهم بمئة عام)، وليس كما يحلو لهم تفسير السواسية بأن تكون لهم دولُهم، وأن يعيش الكورد فيها مواطنين متساوين مع غيرهم في حق الإقامة والسكن والعمل (علماً أن هذا أيضاً لم يتحقق في مائة سنة الماضية)، وهذا يعني بالنتيجة أنهم حرمونا من حقوقنا المساوية لحقوقهم بموجب القرآن الكريم والقوانين البشرية الوضعية لمدة مئة عام. 
   لا فضل لأي من شعوب المنطقة على الكورد، فهم مثل غيرهم أصحاب لغة وأرض وتاريخ وإرادة… وإذا اقتضت مصالح دول كبرى قبل مئة عام أن تكون لهذه الشعوب دول، وأن يُحرم الكورد منها، وإذا كانت الأنظمة الديكتاتورية المتعاقبة (التي تَبيّنَ لهذه الشعوب ذاتها مدى دمويتها) قد منعت الكورد من التعبير عن هويتهم وتمايزهم، فلا ينبغي أن يبقى هذا سُنّةً تُتَّبَعُ من طرف هذه الشعوب، ولا ينبغي أن يبقى هذا كاتماً لصوت الكوردي الذي من حقه أن يقول أنا كوردي كما أنك عربي وتركي وفارسي يا صديقي، فإذا اعترفتَ بي (كما أنا معترفٌ بك) فنحن إخوة وأصدقاء، في انتظار شكل التعايش الذي لا بد أن نتفق عليه مؤسَّساً على مبدأ من المساواة الحقيقية سالف الذكر. وإن لم تعترف بي وبخصوصيتي، وأصررت على الاستمرار في إقصائي، والنظر إليّ تابعاً لك وعائشاً في ظلك وعلى بقايا نعمك، فإنك غير جدير بخجلي منك، بل عليك أنت أن تخجل من فكرك وعنصريتك وظلمك وإنكارك لي كل تلك العقود.
   عندما أقول: أنا كوردي (بما يرتبط بهذا القول من حق سماوي وأرضي) فإنني أعبّر عن ذاتي، عن انتمائي كما ولدتْني أمي (كغيري ممن ولدتهم أمهات أخريات يتحدثن لغات أخرى)، إذ لم يختر أيٌّ منا عرقه ودمه، ولا يحق لأحد إلغاء ما خلق الله الإنسان عليه، أي فِطْرَته. لقد أثبتت مئة سنة الماضية فشل هذه الاستراتيجية وعقمها وكارثيتها، وآن لشعوب هذه الجغرافيا وشركائها أن تفكر بطريقة أخرى إذا أرادت أن تبني مستقبلاً أفضل لأبنائها بعيداً عن الصراعات التي لا تفضي إلى غير الخراب والتخلف وتنمية الأحقاد والضغائن بدلاً من تنمية البشر الاقتصاد والصناعة والزراعة والبنية التحتية …
   عندما أقول: أنا كوردي، فإنني أصف ما خلقني الله عليه وأقِرُّ به، وأحاول ترجمته بوسائل مختلفة للتعبير عن تلك الخصوصية، كما يفعل صديقي وجاري غير الكوردي. ومادامت هذه الممارسة طبيعية ومرتبطة بإنسانية الإنسان التي فطره الله عليها فإنها لا تستدعي خجلاً من أحد، لأنني بممارستها لست ضد أحد ولا ينبغي لأحد أن يقف ضدي.
   عندما أقول: أنا كوردي، فإنني لا أعبر عن عنصرية أو تعصب أو انغلاق أو تآمر أو ..أو… ومن يرى كل هذا السوء في تعبيري ولا يرى فيه شيئاً من حقي الطبيعي والإنساني المساوي (فقط) لحقه هو المتعصب والمنغلق والعنصري والمختنق. أي هو الجدير بالخجل من نفسه ومن لاإنسانيته وتخلفه قبل كل شيء، وقبل أي أحد. 
أيها الحجل دعِ الخجل لصائدك، فهو أجدر منك به وأشد حاجة…

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…