د. محمود عباس
2- لتثبيت جدليته حول هيمنة الوجود العربي ما قبل الإسلام، في شمال مملكة الغساسنة، وشمال الفرات الأوسط وشرقها وشمال العراق، أي شمال بلاد ما بين النهرين، وشمال الجزيرة السورية، محاولا تسخير البعد الديني المسيحي، ويظهر بجلاء التلاعب بالمصادر، وتنكشف المغالطة التاريخية، ما بين جغرافيتين، ويخلط بشكل متعمد ومن بداية الصفحة (39) بين القبائل العربية التي كانت في غالبتها غير مسيحية كربيعة وقضاعة وجذام ومضر وبكر وغيرها والتي كانت في حالة رحل في مناطق نجد والأنبار وجنوب الفرات الأوسط والجنوبي، ومثلهم قبائل مملكة الغساسنة، مع مسيحيي الشعوب الأصلية، كالسريان والكلدانيين والآراميين وغيرهم، والذين كان بينهم وبين القبائل العربية المسيحية اختلاف، لغوي، ومن حيث العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، والانتماءات الجغرافية،
فالسريان والكلدانيون وغيرهم لم يكونوا يتكلمون غير السريانية الشرقية والآرامية والكلدانية القديمة، وكتاباتهم كانت بالآرامية، حسب المصدرين اللذين يعتمد عليهما الباحث نفسه، المطران مار سويروس، والمطران مار باوي سورو، كما ولا يورد مثل هذا الجدلية في الكتاب التاريخي القديم لمار ميخائيل السرياني والمكتوب عام (1197م) والذي عثر عليه في الكنيسة الأرثوذكسية في مدينة الرها، حيث يتناول الكتاب تاريخ السريان في المنطقة أيام الحكم البيزنطي، وقد تُرجم عام 1997م من قبل المطران صليبا شمعون الموصلي، وكذلك في كتاب (تاريخ النساك الشرقيين) ليوحنا الآفسي ليس فيه ذكر عن تقديم العلوم باللغة العربية لمن خلفيتهم عربية، إلى جانب اليونانية والسريانية، وقد سمي ذلك الكاتب بيوحنا الآمدي (505م-585م) وكان من مدينة آمد والكتاب مترجم إلى الإنكليزية، والجزء الثاني من كتابه (الرهبان والرهبنة) والمترجم إلى العربية من قبل صلاح عبدالعزيز محجوب في مصر عام 2000م. وغيرها من المصادر القديمة، والتي يبتعد الباحث عنها إما لعدم اعتماده على الأسانيد الموثوقة، والتي لا يجد فيها ضالته، أو أنها أصعب تحقيقا من المصادر غير الموثوقة والملبية لغايته، وقد غاب عنه حتى المؤرخ (ابن العبري: وهو غريغوريوس أبي الفرج بن آهرون الطبيب الملطي ‘‘1226-1286م‘‘من مواليد مدينة ملاطيا) وهو من المؤرخين السريان المعتمد عليهم، وخاصة كتابه (تاريخ مختصر الدول، الذي ترجم جزأه الثاني إلى العربية بالتصرف) والمكتوب في القرن الثالث عشر، ويتطرق إلى تاريخ القبائل العربية في الحيرة والبصرة وتدمر. وما يؤسف له أن العديد من الكتاب العرب، وحتى الذين يدرجون كمفكرين أوقعهم “باحثنا” في أضاليله، فاعتمدوا، دون تمحيص، على هذا البحث الجميل شكلاً والمنخور مضمونا، عارضين لنا دراساتهم بناءً عليه غير منتبهين أو متناسين أن جملة من المعلومات التي يدرجها الباحث، غير موثوقة ، وبلا سند تاريخي، كالخلط بين القبائل العربية والسريان، ووجودهم الجغرافي في الجزيرة، أو بلاد ما بين النهرين، ولم توقع أضاليله المذكورين آنفا فحسب، بل شملت العديد من مسيحيي المنطقة أيضا، أصحاب الجغرافية، بعد هيمنة السلطات العروبية على مهد الديانتين، متناسين أنهم أبناء الحضارات السورية القديمة، ولا يمتون إلى العربية سوى في العمق السامي، وهذه الأثنية السريانية أو المسيحيين بشكل عام في سوريا يعتبرون من مخلفات تلك الحضارات، ورباطهم الوحيد كانت الديانة المسيحية، علما أن العمق الكنسي كان فيه اختلاف، فالمداخلة التي يذكرها الباحث بينهم يبنيها على استنتاجات ذاتية، ونابعة من الثقافة التي نشرت لتطبيع هذه الشعوب بالطابع العروبي، تحت سيادة اللغة العربية، وهي في عمقها طفرة سياسية ظهرت في الثلاثينات من القرن الماضي، ولسببين، أولهما كرد فعل على الاهتمام الواسع من قبل الاستعمارين الفرنسي والبريطاني بهذه الشعوب بعد انزياح الهيمنة الإسلامية العثمانية، وثانيهما بسبب تصاعد الحركة القومية العروبية في المنطقة، وأرادت أن تسيطر من خلال اللغة العربية، وتحت غطاء الوطنية والانتماء الجغرافي للعالم العربي. والباحث في (ص 40) يحاول طمس الحقيقة التاريخية الصارخة، والتي يعلمها جميع مؤرخي العالم، وأبناء الشرق جميعهم، وهي أن مسيحيي الشرق كانوا حضرا منذ ما قبل الإسلام؛ بينما العرب من الغساسنة الذين كانوا يعتنقون الديانة المسيحية والبعض من قبائل ربيعة وقيس (قبائل عرب الشمال المستعربة) معظمهم كانوا قبائل رحل، وجغرافيتهم تقع جنوب المنطقة التي يبحث فيها الكاتب. ومحاولته دمج العنصرين مع بعضهما عن طريق الكنائس غير موفقة، واستناده على بحث المطران مار سويروس اسحق ساكا، في تراث الكنائس المشرقية، والتي أوردها في الصفحة (38-39)، وكذلك كتاب إفرام بطريرك السريان الأرثوذكس، ومقولته في ديانة بعض القبائل العربية، ناقصة، ولم نقع على أي من المصادر التاريخية حول ما يدعيه الكاتب بالتداخل العرقي في مصادره المذكورة، بل معظمها، تؤكد على التمييز بين المسيحيين العرب والمسيحيين من الشعوب الأخرى، مخلفات حضارات ما بين الرافدين. والأغرب من هذه عرضه في الصفحتين (39-40) ثلاثة مقاطع لا علاقة بينها، وهي إسقاطات تاريخية ليوهم القارئ أنها توثيق لدعواه، فالمقطع الأول: يبحث عن العلاقة بين القبائل العربية المسيحية والسريان. والثاني: عن تعيين يعقوب البرادعي لعدد من الأساقفة والمتوفي عام (584م)، متناسيا عن قصد توضيح هوية هذا القديس السرياني، والذي كان أسمه الحقيقي يعقوب بار ثيوفيلوس، وسافر في معظم أرجاء المشرق؛ لكي يظن القارئ أن القديس له علاقة بالعرب، والرابط الوحيد الذي يمكننا استنتاجه عما أورده الكاتب أن يكون القديس قد عين بعض الأساقفة في الجزيرة، لا أكثر، وعلى الأغلب لا رابط يجمع ما نواه الكاتب مع فحوى دعواه، إن دل هذا على شيء؛ إنما يدل على تضليله المتقصد للقارئ الكريم بأن ما يدعيه مدعوم بالوثائق التاريخية، التي يسردها في هذا السياق، راهنا بذلك على أن القراء لن يراجعوا مصادره للتأكد منها. فـ”باحث” من هذا الطراز لن يكون سوى مضلل ومدعٍ، سيحرج كل من يعتمد على وثائقه لاحقا، بصدد ما أراد إثباته في كتابه هذا عن الجزيرة، إذا لم يتحقق بنفسه من مصادر الكاتب. وهنا ننوه إلى القارئ الكريم أن يأخذ حذره مما يقرأ لكاتبنا ألـ “باحث” من دراسات وبحوث، وألا يستشهد بها قبل أن يراجع مراجعه ليتأكد أن ما أورده يوافق مصادره. ومن جهة أخرى نجده يبتعد قليلا أو كثيرا عن المنهج العلمي للبحوث والدراسات فنراه قد كرر هذا المقطع بنفس الصيغة الكلامية والجمل، في الصفحة (231) لغرض آخر غير السابق. ومثل هذا التكرار ليس سوى استخفاف بعقلية القارئ. وعدا هذا ففي المقطع الثالث ينتقل فجأة إلى المراكز السريانية في الرها ونصيبين ومراكز التلقين التي ذكرها، مستندا لا على القديس اليعقوبي ولا على المؤرخين الذين تم ذكرهم سابقا، بل على باحث حديث، والصفحة المذكورة في الهامش لم يكن فيها ذكر للحدث. في هذا الموضوع يحاول الكاتب ألـ “باحث” بهذا المنطق، إلغاء، بشكل أو بآخر، تاريخ الحضارات القديمة في المنطقة، ليغيّب دور تلك الشعوب في صناعتها وبالتالي القضاء على وجودهم، أو في أفضل الأحوال، الحكم عليهم بالذوبان أو الانقراض، ليحل محلهم العرب المسيحيين. والواضح أنه يريد خلق قناعة مؤكدة لدى القارئ أن دعواه كالشمس لا يرقى إليها الشك؛ حتى لا يكلف القارئ الكريم نفسه في التحقق من مصادره، ويعاود نفس القضية ولكن بطريقة أخرى، وفي مرحلة تاريخية حديثة جدا ويربطها بالماضي، وهنا ألـ “باحث” بذاته يناقض نفسه، خاصة حين البحث عن محاولة الفرنسيين خلق المصطلح الأثوري، أنظر (ص 127-131) والتي حققه الفرنسيون على أرض الواقع عندما أسسوا (جيش الشرق) من الأشوريين –الكلدانيين، ومثلهم أسس البريطانيون (جيش الليفي) لإقامة كيان حكم ذاتي تحت المفهوم القومي الديني الأشوري-الكلداني. ويتجاهل عن قصد، لا يرقى إليه الشك، أن هؤلاء أي الآشوريين واجهوا الحكومة العربية أيام حكم الملك فيصل الأول في مذابح سميل التي يقيم مأساتها الآشوريون سنويا كي لا تنسى الأجيال ماذا أحل بهم العرب. وهؤلاء لم تكن لهم صلات ذات أهمية، عشائرية كانت أو قومية، مع القبائل العربية المسيحية في حقبة ما قبل الإسلام. ..
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
22/4/2016