ابراهيم محمود
هناك في أوساطنا الكردية ومنذ حين من الدهر، لوثة نشِطة لها علامة كردية فارقة، تتمثل في اعتبار الكتابة بالكردية هوية الكردي القومية الوحيدة، وهي لوثة تسمّي الضعيف جداً في الحساب اللغوي ودلالته.
ترى لو أجرينا مقارنة بسيطة، ومن حيث النوعية، بين الذين يتفقهون كردياً، ويعتبرون الكاتب بلغة أخرى ضالاً مضلاً، والذين يعتمدون لغة أخرى في الكتابة وهم على تماس مباشر بكرديتهم ليس لأنهم لا يمرّرون أفكارهم ومشاعرهم عبر الكلم الكردي، وإنما لأنهم يضمّنون كتابتهم بلغة أخرى آمالاً لهم، آلاماً لهم كردية وفي الصميم، تنبّه أصحاب اللغة تلك من يكونون هم مباشرة، ومدى تعرضهم للأخطار، كما تدل الوقائع، فإلى أي نتيجة سننتهي؟
ليس من باب التباهي، أو الاستعراض، لا بد أن الكرة ستكون في مرمى أصحاب اللوثة تلك، وخصوصاً في الوضع الراهن ومنذ أكثر من عقد من الزمن وكيفية مواجهة أعداء الكرد، وما يجب أن يقال فيهم في عقر دارهم أحياناً.
تُرى، ماذا يعني اعتبار” 15 أيار ” من كل عام يوم ” اللغة الكردية “؟ ألنعلَم أن الكردية حقاً لها يوم واحد، أم لينبري متلوثو الرؤية عبرها في استعراض كردية هشة من الداخل، وهم يجنّبون أنفسهم الخوض في أي مواجهة مع أعداء بني جلدتهم، وليحاولوا التعويض عن نقص فيهم، يستحيل عليهم تأمينه في ضوء افتئاتهم على أنفسهم، وحتى جبنهم عن تسمية أعدائهم بدقة ؟
لنعاين وقائع تاريخية: ما الذي دفع مقداد مدحت بدرخان إلى إصدار صحيفته ” كردستان ” في عاصمة الفراعنة” 22 نيسان 1898 ” ؟ أليخبِر أخلاف الفراعنة بكرديته، أم لأن حسرة لافتة من الكردية القائمة دفعته ليقوم بما قام به، وفي الوقت الذي أحبِط سياسياً، وهو سليل العائلة البدرخانية ؟ أم التأكيد على أنه أراد إعلام من كان يجب أن يعلَم، وهو إعلامه مفتوح، كما يظهر حتى في توجيهه إلينا حيث نعيش كردياً ونكتب هنا وهناك بلغة أخرى، أراد التأكيد على أن ليس في مقدور كردي التعريف بكرديته وتفعيلها إن لم يكتب بالكردية لغته الأم؟ من أين يأتي هذا اليقين؟ ربما يباح/ يجاز له ذلك تبعاً لظرف معين، وإزاء وضع معين، وفي نطاق تحد معين، أي على خلفية من المعايشة والمكابدة السياسيتين، أما التعميم فتضليل كارثي ضمناً.
بدوره، فإن قريبه البدرخاني العتيد جلادت بدرخان صاحب الصرخة المعمدانية في عالم الكرد الممزَّق، وفي عاصمة قلب العروبة النابض هذه المرة ” دمشق، عبر إصدار صحيفته : هاوار” الصرخة ” في 15 أيار 1932 “، لم يكن له ليصدر ” هاوار:ه ” ولا ” روناهيـ:ـه “، لولا شعوره بالخيبة ومرارة الهزيمة واليقين بأن البحث عن محاولة إنشاء دولة كردية: بوتانية العلامة، قبل كل شيء، أقرب إلى المستحيل، وعلى وقع تردد أصداء هزيمة إحسان نوري باشا في ثورة المعتبرة في ” آرارات ” في تلك الفترة ؟ كما لو أن ” هاوار” كانت نعياً لأمل الكرد الكردستاني، وولادة طفل كردي، سيظل طفلاً أقرب إلى العجمة، أقرب إلى العجز في التعبير عن الذات، وهو يُرى باكياً مستغيثاً متوسلاً على بوابات العالم الكبرى والصغرى، يصرخ ويستصرخ، من خلال اللغة كإمكان وحيد لتأكيد أن الكردي إذا كان قد أخرِج من الجغرافيا أو عُدَّ غريباً عنها، وهي مُلْك يمينه الكردي منذ زمان طويل، فإن العزاء الوحيد هو في إعلان يوم اللغة الكردية، انعطافاً آخر في تاريخ مأساة الكرد أنفسه، وقد جرَّب ” حظه ” هو وأخوه العتيد الآخر ” كاميران ” مع مختلف القوى على الأرض وإعلان ممثليها أن هناك شعباً جرّد من اسمه الكردي، وجغرافيا حرّم حتى من العيش فيها ولو باستقرار نسبي، منفياً وملاحقاً عليها، وهو الذي دفع الكثير، فماذا دفع المتبدرخون ” إن جاز التعبير “، ماذا دفعوا بالمقابل، لتأكيد تلك الكردية التي عناها البدرخانيون، ومن سلكوا طريق اللغة أولاً مع دفع أثمان من دمائهم وشقائهم المستدام، أكثر من المتاجرة بأسمائهم، والتعتيم على سلوكياتهم البغيضة في التفريق بين كردي وآخر من خلال ” مشجب ” اللغة الواهي، وإسناد أدوار بطولية إلى أنفسهم، وقد كانوا، ومازالوا في الدرك الأسفل من الاعتبار القومي إن تم تقييمهم من منظور البازار اللغوي الكردي.
حسن إذاً، لينظر المتلغونون الكرد، ما الذي آل إليه أمر الدعاة إلى لزوم التعلم بالكردية، بالإكراه، دونما تقديم المسوغات المفيدة، وما كان ويكون من شأنه الدفع بمئات الألوف لأن يخرجوا من جغرافيتهم الكردية، وربما وهم يكفّرون بالكردية نفسها، إذا كان التنسيب إليها يتم بالطريقة هذه، وهاموا على وجوههم عائلياً وأفرادياً، ليستقروا في بلاد ربما تنسيهم كل صلة لهم بلغتهم الأم. أتراها الكردية هي هذه في شمولية السلطة المطبقة لها، ومن يتشدق بشأن الكردية في ظلها، كما لو أن لا صلة بين الكردية كلغة والكردية كعلاقات اجتماعية وسياسية وغيرها؟
حسن إذاً، لكم كرديتكم، ولنا كرديتنا، وسوف نرى من سيكسب الرهان من خلال قربة الدعوة اللغوية الكردية المثقوبة!
دهوك – في 16 أيار 2016