ابراهيم محمود
منذ متى كان اعتبار ” الخيانة، العمالة، التشهير…”، مدخلاً إلى المجتمع المدني، وبالنسبة للكرد قبل غيرهم، لما يُعرَفون به من بؤس حال وانقسام مجال جغرافي وثقافي ونفسي؟
وفي الخيانة والتخوين أم المصائب، لا بل إن الكردي لحظة تحرّي تاريخه يرى أن الأذى الذي نال منه جرّاء هذه السُبَّة الموجَهة إلى كرديّه، ربما يبزُّ أحياناً الأذى الذي تعرض له على أيدي أعدائه في تاريخه المديد وحتى الآن، لا بل إن اعتماد هذه السبَّة كان داعماً لعموم أعدائه، لأن يتصرفوا بمصيره على خلفية منها، لأنها تشظّي كل شيء. ولا أخال أي حزب كردي قبل أي طرف آخر، بمتجاهل لخطورة قولة طاعنة سيئة الصيت ومهلكة ومفرّقة للجماعة وحتى مبيدة لها مثل ” التخوين “. فهل قانون الكردي، هو: أنت خائن إذاً أنا موجود؟
منذ متى كان تخوين الآخر علامة سوية المتكلم وإخراج قيد سلوكياً للآخر” المعتبر مذموماً ” ؟ منذ متى كان التخوين يعدُّ الكردي ” الذي يخوّن كرديه ” لأن يرتقي باسمه ومجتمعه ويقربه من وطنه الموعود به ؟ منذ متى كان ثمة مرتجى ومؤمَّل في فعل التخوين بسلوكيته المنفّرة ؟
طالما أن الجاري تخوينه يلفت الأنظار إليه في مجتمع متخَم بتصورات انفجارية من هذا النوع،أو جارية تغذيته بمثل هذه ” الطعوم ” التي تحيل المعتبَر خائناً إلى ضحية مجانية، لعنف محسوب على المخوّن وما يمثله اجتماعياً وسياسياً.
مثلما أن تخوين الآخر هو الخطوة الأولى للتعبير عن ضعف القدرة في التحاور مع المخوَّن، وتأكيد الأنانية الطاغية للذات المخوّنة، فإن فعل التخوين هو المقدمة التي تؤدي إلى نهاية وخيمة لمن ينتشي بتخوين غيره . لا وعد للمخوّن يمنحه أمل استمرار جرّاء فداحة التهمة الفيروسية!
أنا لا أسمّي أحداً، أي ممّن لا يضبط نفسه ويراجع حسابه الثقافي والمعرفي، وهو يتلمس في قذف الآخر بالتخوين، دون تفكير في الحصاد المر والكارثي لفعله، إنما أتحدث عموماً عما يجري في أوساطنا الكردية، وفي الآن الراهن بالطبع، عن الذين ما أن يستشعروا خلافاً مع سواهم” وبلغة الجمع هذه المرة “، حتى يستدعوا هذه الكلمة ” البغيضة ” التي ما أحيت نسلاً، ولا سهَّلت وصلاً، وتجييش الوعي الشعبوي، لا بل وتأليب ” الرعوي “، دون التفكير في المردود كما يجب، وإذا كان هناك تخطيط دقيق لكل ذلك، فهي الكارثة بعينها، إذ يستحيل أن يجري اتهام أي كان، وبمثل هذه السهولة، وعلى الملأ، وفي أمكنة مفتوحة، اتهامه بالخيانة، دون مد النظر إلى الأفق المسدود لذلك.
أنت خائن إذاً أنا موجود! في الرد: وأنت خائن إذاً أنا موجود! في المحصّلة: الكل خونة ؟ هل يعقَل هذا ؟
أعلم تمام العلم، أن مفردة الخيانة نتاج تلك الذهنية العاجزة عن مواجهة التحديات، عن قبول الآخر والمختلف رؤية وسلوكاً، وغير القادرة على ضبط نفسها، وهي تمنحها أهلية سيطرة على الزمان والمكان. إنها الذهنية ما دون المدنية، الذهنية التي تنغلق على نفسها، وكل مس بها ينقلب مؤامرة، كما هي سيكولوجيا الإنسان المقهور، والذي يحوّل ضعفه وحتى انخراطه في عمل يُشَكُّ في محتواه، إلى قوة وسؤدد. المخوّن كائن ناقص عقلاً وثقافة اختلافية، إنه في أفضل حالاته يعيش في وضعية شك فيما حوله، واشتباه بالعالم المحيط به، وخلل في أعماق نفسه الأمارة بالسوء. المخوّن كائن مهزوم في بنيته النفسية والعقلية والمعرفية سلفاً، والمهزوم المرضي يلبّس الآخر مرضه والذي تبرز خطورته على قدر التخوين المسمّى وجهته. من يخوّن الآخر، وفي وضع كوضع، يستحيل إيجاد مبرّر لفعل تخوينه، لأن مجرد تلبيس الآخر بالخيانة، يعني تجريده من كل ما هو اجتماعي وإنساني وسوي يخص مجتمعه، يعني التنبيه إلى أنه خطر يتهدد أمن المجتمع عموماً، ولا بد من القضاء عليه. التخوين حتى في أكثر وضعياته سوية في مقام الطلاق الذي هو ” أبغض الحلال إلى الله ” بالمعنى الديني، أي إن المترتب على هذا الإجراء ينعكس سلباً على المجتمع، والتخوين طلاق اجتماعي وسياسي مركَّب، فهو لا يستهدف الفصل بين طرفي، إنما يطالب بالتخلص ممن يخوَّن. تُرى من منح المخوّن سلطة التخوين هذه؟ أي سلطة تشريعية، قضائية، فئوية عصية علية على المس، حزبية فوق المجتمع، اعتبارية لا تقيّم، دينية فوق كل سلطة، أجازت وتجيز لنفسها التمادي في مثل هذا المسلك المريع، وتحويل الأنظار إلى خطر مزعوم يتمثل في عدو مزعوم، هو نتاج ذهنية واهمة متوهمة ؟
يبدو أننا على الصعيد الكردي، مازلنا نعتقد، في نسبة كبيرة مما نتفكر ونتدبر أمورنا، وفيما بيننا حزبياً ومجتمعياً، أن أقصى العنف الاستئصالي وغير المسئول واقعاً، كما في تخوين من ” نحب ” تخوينه، هو الحد الأقصى من الذهنية التي تبصر صورتها في مرآة ذاتها الفردية والتحزبية والشعبوية بوصفها الصورة التي نظير لها. خائن من يفكر خلافي، وخائن من أعتبره خارج صفي الحزبي أو الفئوي، وخائن من يعمل معتمداً على نفسه ويشق طريقه بنفسه ويبدع في مجالات مختلفة، كما لو أنه في عُرف متهمه خارج جماعته، وخائن من لا يؤمن بما أؤمن به حرفياً.
قانون: أنت خائن إذاً أنت موجود، قانون من لا ينضبط ضمن قانون يضمن حق الاختلاف في مجتمع تعددي، يحوَّل فيه كل من يخوّن غيره إما إلى محكمة مدنية، أو إلى مصحة نفسية وعقلية، حرصاً على وحدة المجتمع وسلامة إنسانه، وعلى حياة المخوّن ذاته!
دهوك- في 13 نيسان 2016