الفدرالية بين مطالبة الكورد وممانعة الشوفينين

م.رشيد 
    أصبح مسلّماً به لدى الكورد ومعروفاً للخاصة والعامة، أنه مهما بلغت الاختلافات بين الدول المقتسمة لكوردستان شدةً، والصراعات بين أنظمتها ومعارضاتها حدةً، والمواجهات الطائفية والعرقية بين مكوناتها عنفاً، فإنهم يتوحدون على معاداة الكورد ويقفون صفاً واحداً بكل أسلحتهم ووسائلهم وإمكاناتهم ضد حركاتهم الوطنية وتطلعاتهم التحررية، ومنعهم من تشكيل أي كيان قومي خاص بهم مهما كان نوعه أو شكله، وأياً كانوا دعاته ورعاته، وفي أي زمان ومكان، والأمثلة كثيرة ومريرة في هذا المجال، نكتفي بالإشاره إلى الحالة العراقية سابقاً والسورية لاحقاً، وحالياً الزيارات مكوكية والمباحثات ماراثونية بين طهران وأنقرة للتنسيق والتعاون لذات الغاية.
 وقد جن جنون الشوفينيين والشموليين من الدول الإقليمية (أصيبوا بالهيستريا) وبدأوا يفقدون رشدهم وتوازنهم خوفاً من الدور للكورد المتعاظم على الساحة، وتطور علاقاتهم مع الدول العظمى وحلفائها التي تقدم لهم المساعدة والمساندة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.. بشكل مباشر وعلني (وهذه رسالة دعم وتأييد- قوية وصريحة- من المجتمع الدولي يجب على الكورد تلقفها وفهم فحواها واستثمارها)، وشرعت بالتآمر والضغط على الكورد  بشتى السبل لتمزيقهم واقصائهم، لا سيما بعد تبني الفدرالية الديموقراطية لروژآڤا – شمال سوريا(بغض النظر عن طريقة وشكل وتوقيت إعلانه) في مؤتمر رميلان منتصف آذار الجاري من قبل حركة المجتمع الديمقراطي(TEV-DEM) وممثلي المكونات  العرقية والدينية المشاركة في مجلس سوريا الديموقراطية ومن المناطق التي تقع تحت نفوذ الادارة الذاتية القائمة (علماً بأنها من صلب الرؤية السياسية المشتركة لاتفاقية هولير الموقعة بتاريخ 23/11/2012 بين المجلس الوطني الكوردي (ENKS) ومجلس شعب غربي كوردستان(EGRK) برعاية السيد مسعود البارزاني رئيس اقليم كوردستان العراق)، وقد سبق أن تبنى تيار سوريا الغد بزعامة أحمد الجربا الرئيس الأسبق للائتلاف السوري المعارض في مؤتمره بالقاهرة بداية الشهر الحالي، وكذلك تلميحات الموفد الأممي دي مستورا لأكثر من مرة بأن نظام الحكم الأمثل لسوريا لما بعد الأزمة هو النظام الفدرالي للحفاظ على وحدتها، كما أن الروس لم يخفوا دعوتهم وتأييدهم لبناء سوريا الجديدة على أساس اتحادي لا مركزي، وكذلك حذا الأمريكان حذوهم وصرحوا بها في أكثر من مناسبة على لسان مسؤوليها في الخارجية والدفاع، وهناك أتفاق دولي على إستعادة الكورد لدورهم  الطبيعي والمطلوب في تقرير مصير الشرق الأوسط الجديد لتشكيل إدارات ذاتية خاصة بهم وفي مناطقهم لكونه شعب أصيل وعريق لحق به الحيف والغبن خلال ردح طويل من الزمن .
    والسؤال المطروح إلى متى ستستمرهذه الذهنية العدائية التسلطية بمفاعيلها وتأثيراتها ؟ وما حكمة الكورد وحيلتهم في دحضها وافشائها وتجاوزها؟
    مع تصاعد الإسلام السياسي، وتعاظم التيارات التكفيرية المتطرفة فيه، وتحولها إلى مجاميع مسلحة كمنظمات القاعدة ومثيلاتها وتنظيم (داعش) وأخواتها، والتي باتت تشكل خطراً حقيقياً على الأمن والسلام والاستقرار في العالم بسبب العمليات الارهابية والوحشية التي ترتكبها ضد الانسانية، ومعها تبدلت الأولويات لدى مراكز القرار الدولية والرأي العام العالمي في تناول القضايا العالمية عامةً والشرق أوسطية خاصةً وغيّرت الأساليب والآليات والخطط في معالجتها، تبعاً لتغيّر الشروط والظروف والمفاهيم تلازماً للتطور والتقدم الهائلين في التطبيقيات والتقنيات، كما أن الحروب الأهلية الطاحنة الجارية في المنطقة، والتي تغذيها وتسعّرها التدخلات الخارجية بأجنداتها السرية والمعلنة لم تجلب لشعوبها سوى المزيد من الفناء والعناء والشقاء، بسبب عمليات القتل والتدمير والتهجير المستمرة بشكل ممنهج ومنظم، هذه العوامل وغيرها أجبرت الأطراف المحلية المتصارعة الخضوع للأمرالواقع (كماهو) وأنه لا مناص من القبول بالآخر المختلف واحترام تميزه والاعتراف بخصائصه والتفاوض معه لاشراكه في السلطة والثروة على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، والجنوح  للتصالح والتسامح والتعايش السلمي المشترك للحد من المأساة والمعاناة التي لا تظهر في الأفق نهايةٌ لها في ظل التشبث بالمواقف والمواقع ودوام التناحر والاستنزاف.
    إن الفدرالية (الاتحادية) هي أفضل نظام حكم للدول المركّبة من عدة مكونات على أسس مناطقية أوعرقية أو دينية أوطائفية..، لتحافظ على سيادتها ووحدتها، وتزيد من قوتها، وهي مطبقة بنسبة تزيد عن 60% من دول العالم من بينها العظمى كروسيا والولايات المتحدة وألمانيا والمتقدمة اقتصادياً وعلمياً واجتماعياً وسياسياً.. كالإمارات العربية المتحدة ونيجيريا والبرازيل والهند وسويسرا.. وغيرها، وهي أنجع نظام  تصالحي وتوافقي وتشاركي للبلدان التي تمر في حروب أهلية مدمرة و صراعات دموية ، محدثة الشروخ الكبيرة والجروح العميقة في النسيج الاجتماعي المتعدد والمتنوع أثنياً ودينياً كسوريا والعراق.
    لذلك فإن تجربة الفدرالية في كوردستان العراق، ناجحة في الإدارة والتنمية والبناء، ورائدة في تطبيق الديمقراطية وصون الحريات العامة، وحماية حقوق الانسان والأديان، واستتباب الأمن والاستقرار، وكذلك فإن الإدارة الذاتية القائمة في روژآڤايي كوردستان بالرغم من تجربتها الفتية وظروفها الصعبة هي أيضاً نجحت (إلى حد ما) في توفير الأمان والخدمات للمناطق التي تحت نفوذها بعد ملئها للفراغ الإداري والأمني فيها، وإشراك باقي المكونات العرقية والدينية في إداراتها ومؤسساتها.
    لقد أصبحت كلتا الإدارتين الكورديتين، انموذجين فريدين جديرين بالاهتمام والاحتذاء بهما، لاسيما وقد أصبحتا ملاذات آمنة للنازحين والهاربين من ساحات المعارك الدائرة بين الأطراف المتصارعة، وأصبحت جبهات أمامية ساخنة دفاعاً عن الانسانية جمعاء في محاربة قوى الإرهاب المتمثلة بداعش والنصرة واحرار الشام وأقرانها على امتداد المئات من الكيلومترات من جلولاء جنوباً إلى عفرين شمالاً. 
    إن الظروف الموضوعية الحالية أحدثت تحولات في الخارطة الجيوسياسية والعسكرية في المنطقة، (وهي إشارة لإعادة تقسيم المنطقة على أنقاض اتفاقية سايكس- بيكوالمنتهية صلاحيتها) تفرض على الحركة الكوردية تهيئة الظروف الذاتية في ظل توفر الارادة الدولية المؤازرة لها لإثبات الحضور وتحسين الأداء لمواجهة التحديات القائمة، فإضافة لمسؤولياتها القومية باستغلال الفرصة التاريخية لتأمين حقوق الشعب الكوردي كما تقره العهود والمواثيق الدولية، يتطلب منها أيضاً مهام وطنية وإنسانية وأممية نبيلة في نشر وإرساء قواعد الحرية والديمقراطية والتعددية والسلام.
    إن تبني كافة أطراف الحركة الكوردية للفدرالية خطوة استراتيجية  صحيحة وهامة، يمكن البناء عليها لتوحيد الصف والخطاب الكورديين في ظل الأحداث الكثيرة والمتسارعة، وبالتالي المساهمة في توحيد سوريا واستعادة عافيتها ومكانتها بعد أن أصبحت مقسمة عملياً بفعل الأزمة الكارثية المستدامة، وتعميم التجربة في المنطقة ككل كأفضل صيغة للعيش المشترك ضمن كل دولة وفق تركيبتها الاثنية أو الدينية أو المذهبية أو الإجتماعية..، وهي بذلك حل للأزمات الخانقة والمشاكل المزمنة، وضمان للبقاء والنماء مستقبلاً. 
   فالمطلوب من أطراف الحركة الكوردية بإلحاح وعجالة، ترك الخلافات البينية جانباً (تأجيلها لحين تثبيت الوجود والحقوق، ومن بعدها اللجوء إلى صندوق الاقتراع ليكون الفيصل في الخيارات) والجلوس حول طاولة الحوار من أجل ترتيب البيت الكوردي وتقويته بتقاسم الأدوار وتنسيق المواقف، وتنشيط الفعاليات والممثليات الكوردية على كافة الأصعدة الإعلامية والدبلوماسية والسياسية والعسكرية..، وفي كل الساحات والمحافل المحلية والاقليمية والدولية، من أجل الإقرار بهوية الشعب الكوردي وبكامل استحقاقاتها، وتثبيت الفدرالية  في الدستور الجديد كتجسيد لحقه في تقرير مصيره ضمن الإطار الوطني الموحد، فالعملية التفاوضية جارية في جنيف (3)، والقطار يسير والزمن قصير، وعلى الحركة الكوردية اللحاق بالموكب وإلا ستفوتهم الفرصة وحينها لن يفيد الندم والعقل الكوردي الأخير، ولن يرحم الشعب والتاريخ كل من نصب نفسه ممثلاً أو مسؤولاً أو قائداً في المرحلة المفصلية الحالية.
    والمدخل هو العودة إلى روح اتفاقية دهوك22/12/2014 المبرمة بين المجلس الوطني الكوردي (ENKS) وحركة المجتمع الديمقراطي(TEV-DEM) برعاية رئيس الإقليم وإشرافه المباشر، وإحيائها في ثوب وهيكل جديدين بدون أية شروط مسبقة، وتنفيذ بنودها بآليات وأساليب عملية مبتكرة (تتفق عليها خلال الحوارات والمناقشات التمهيدية)، تتخطى حواجز الخوف والضعف، وتتجاوزالحسابات والمنافسات السياسية، وتترفع عن الأنانيات الحزبية والشخصية، وتخرج عن الرسميات والشكليات، وتوافق التطورات والتغيرات الحاصلة، انطلاقاً من المصلحة القومية العليا، آخذين بعين الاعتبار أهمية المرحلة وخطورتها وحساسيتها من كل الجوانب، مستندين إلى شرعية المطاليب والأساليب، مستعينين بالطاقات والمساعي الخيرة من القوى الكوردستانية للرعاية والضمان، ومستفيدين من ذوي الخبرات والكفاءات والمؤهلات المستقلة والمخلصة في جلسات التفاوض والتوافق، وتوكيلهم مهام  التنسيق والتوثيق والتنفيذ.
    إن الصدق والاخلاص والجدية تتجسد بالاقدام عملياً بدمج مشروعي الفدرالية المعلنين فوراً (بلا تأخير ومن دون شروط تعجيزية معرقلة، وذلك رداً وتحدياً على ممانعة ومعارضة المستبدين والعنصريين والشموليين فكراً وثقافة وسلوكاً، الذين يضخمون الفوبيا الكوردية ويتناسون الوقائع التاريخية والجغرافية ، ويتجاهلون حقوق شعبنا الكوردي الانسانية المشروعة والعادلة كما تقره جميع الشرائع السماوية والقوانين الوضعية دون أي مبرر أخلاقي أووطني أو إنساني أو ديني..، سوى الحقد والكراهية الجاثمة على قلوبهم والدفينة في ثقافاتهم وذهنياتهم، وطبائع التسلط والاستبداد المعشعشة في نفسياتهم وسلوكياتهم)، الأول وهو المنفّذ عملياً على أرض الواقع من قبل حركة المجتمع الديمقراطي (TEV-DEM) وحلفائها وشركائها في الادارة الذاتية القائمة، والثاني المعلن نظرياً ورسمياً (سياسياً ودبلوماسياً) من قبل المجلس الوطني الكوردي في سوريا (ENKS) وكذلك المشتقين والمنشقين عنه، من خلال وثائقهم وبياناتهم ونشاطاتهم، في مشروع  كوردي موحد ومتكامل يعبر عن رؤية وموقف جميع الأطراف الكوردية  المتواجدة والفاعلة والمؤثرة في الساحة، وهي الأرضية الصلبة التي توحدهم سياسياً وميدانياً.
   إن نجاح هذه المبادرة (توحيد المشروعين) بتنفيذ هذه الخطوة الجريئة ومن المدخل المقترح سيحقق أهدافاً كثيرة أهمها :
1) ستكسب الحركة الكوردية في سوريا ود ودعم جماهيرها في الوطن والشتات بمختلف شرائحها وتياراتها، وبالتالي ستتسلح بأعلى درجات الثقة والهيبة والشرعية والاستقلالية والمصداقية.
2) ستكسب الحركة عون ومساندة وإحترام الأطراف الكوردستانية الشقيقة، والقوى الديمقراطية والمتقدمة الصديقة وعلى رأسها أمريكا وروسيا، والتي ستفتح أفاقاً أوسع للتحرك والتعاون والتنسيق، وشروطاً أفضل لبناء العلاقات والتحالفات.
3) ستمنع الانجرار أوالانزلاق إلى أية خنادق أومحاور للأطراف المتحاربة على أسس عرقية أو طائفية أو مناطقية وتجنب أجنداتها وتداعياتها، وتتحرر من إملاءات الأنظمة الحاكمة لكوردستان والارتماء في أحضانها، أوالرهان على وعودها المخادعة الكاذبة ومشاريعها التآمرية الزائفة. 
4) سد الثغرات التي قد تنفذ منها بعض الجهات المتربصة للكورد لإجهاض نضالاتهم وإفشال محاولاتهم، وذلك من خلال كيلها الاتهامات لهذا الطرف الكوردي أو ذاك ووصفها بالارهاب أو معاداة الثورة أو الانفصال أو العمالة..، والتذرع بها لخلق الخلافات والانقسامات داخل البيت الكوردي واضعافه والنيل منه. 
5) فرض المكون الكوردي كعامل توازن وضمان وأمان (بيضة قبان) لسير العملية السياسية بشكل سليم وصحيح حاضراً ومستقبلاً على الساحة السورية.
6) دمج وتوحيد المشروعين الكورديين(النظري والعملي) يؤمن كافة المقومات والعوامل اللازمة لإعلانه وتحقيقه داخلياً وخارجياً، ويوفر جميع شروط الأمان والضمان لحمايته واستمراره.
                             ————-  انتهت  ————–

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…