الكورد والصفقة الروسية!

جان كورد 

لم يقف الروس في يوم من الأيام مع الشعب الكوردي في كفاحه من أجل
الحرية، بل على العكس من ذلك كانوا على الدوام في الخندق المجابه لهذا الكفاح، وعلى
الرغم من طول أمد الحروب العثمانية – الروسية، فإن القياصرة لم يساعدوا شعبنا في
التخلص من نير الاستعمار التركي. وأقول “الاستعمار” لأن الترك قدموا من صحاري شرق
آسيا وفرضوا سلطانهم عن طريق السيف على شعوب المنطقة، ومنها الكورد والأرمن
واليونان والبلغار والعرب، واستغلوا الدين الإسلامي ليصعدوا باسمه إلى قمة القيادة
في المنطقة قرونا من الزمن. ولكن يجدر بالذكر هنا، أن معهدا للغات والعلوم الشرقية
في مدينة بيترسبورغ الروسية كان قد اهتم في القرن التاسع عشر اهتماما جيدا بجمع
النصوص الكوردية المختلفة وبدراسة اللغة الكوردية،
 كما يجدر بالذكر أن النظام الشيوعي لدى قيامه في روسيا قد فضح عقد اتفاقية سايكس –
بيكو الاستعمارية لعام 1916 التي قسمت كوردستان ودول المشرق العربي، وسمح بقيام
“جمهورية كوردستان الحمراء” على بقعة صغيرة جدا من أراضي الكورد التي تم ضمها إلى
الاتحاد السوفييتي، إلا أن الشيوعيين قد ألغوا تلك الجمهورية الصغيرة، بعد الاعتراف
بها، إرضاء للآذريين والأرمن وبهدف كسب حكومات الدول التي تقتسم كوردستان. ثم إن
النظام الشيوعي قد ساعد مصطفى كمال الطوراني أثناء عقد اتفاقية لوزان 1923 للقضاء
على معاهدة سيفر في عام 1920 التي منحت الكورد حقا دوليا في الاستقلال إن أرادوا
ذلك. ومن ثم انتهج ستالين الجيورجي سياسة تهجير واسعة النطاق ضد الكورد بأن وزعهم
على عدة جمهوريات للاتحاد السوفييتي، منها أرمينيا وآذربايجان وطاجكستان وقيرغيزيا
وغيرها بهدف صهرهم تماما، كما فعلت بالألمان أيضا.
ولا يخفى على أحد أن روسيا
الشيوعية خانت الزعماء الكورد أثناء قيامهم بإعلان جمهورية كوردستان في مدينة
مهاباد في شرق كوردستان عام 1946 على الرغم من أنها أعلنت في البداية تأييدها
لتأسيسها وتأسيس جمهورية آذربايجان أيضا، ثم سمحت لشاه إيران بالقضاء عليهما دمويا
وبإعدام رئيس وقادة الجمهورية الكوردية الفتية. وقد عانى البارزانيون الأمرين على
أيدي الشيوعيين لدى التجائهم إلى الاتحاد السوفييتي على أثر انهيار الجمهورية في
العام التالي. 
ومنذ اندلاع ثورة أيلول المجيدة في عام 1961 بقيادة البارزاني
مصطفى (رحمه الله)، فإن الروس وقفوا مع الدكتاتور عبد الكريم قاسم الذي سعى
الشيوعيون من خلاله إلى دعم مواقع الحزب الشيوعي العراقي، إلا أن قاسم لم يحقق
للروس طموحهم، فراحوا يبحثون عن بديل له، ووجدوا في الحكومات العراقية الضعيفة
المتتالية، ومن ثم في حزب البعث العربي الاشتراكي، وأخيرا في نظام صدام حسين الدموي
حليفا لهم، فراحوا يدعمونه في حربه الوحشية ضد الشعب الكوردي، كما دعموا البعثيين
السوريين المنافسين له على “قيادة البعث”، على أمل أن يتسللوا من خلال البعثيين إلى
قلب الأمة العربية، حتى قضى صدام حسين بعقد اتفاقية الجزائر المشؤومة في عام 1975
على الثورة الكوردية باستخدام السلاح الروسي المتطور  والخبرات العسكرية الهائلة
التي قدمتها موسكو له، مقابل خيانة وزير خارجية أمريكا هنري كيسنجر والشاه الإيراني
لقائد الثورة الكوردية الذي لم يكن يميل إلى الشيوعية أبدا لأنه خبرها جيدا أثناء
فترة لجوئه التي دامت 12 عاما في الاتحاد السوفييتي، رغم أن الإعلام العربي كان
يسميه ب “الملا الأحمر!” بل كان يميل إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا
ويطالب بحكم ذاتي لشعبه ضمن إطار الجمهورية العراقية “الديموقراطية”. 
ولم يشهد
موقف الروس من القضية الكوردية أي جديد، في تركيا أو إيران، رغم أن كلا البلدين
كانا يحاربان الشيوعية على كافة الصعد السياسية والثقافية والدبلوماسية وكانا
منخرطان في تحالفات عسكرية وأمنية مع العالم الغربي.
وعلى الرغم من انهيار
النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، فإننا لم نر أي تقدم ملحوظ في الموقف الروسي
تجاه قضية الشعب الكوردي، لا قبل مجيء بوتين الساعي لاستعادة مجد الدولة العظمى
لبلاده  ولا بعد وصوله إلى قيادتها وانتزاعه صلاحيات واسعة كرئيس يكاد يكون قيصرا
فيها.
وفجأة، بسبب ما يجري في سوريا الآن، بعد أن سلم الأمريكان أمرها ومصير
شعبها لروسيا وإيران، وبعد أن أسقط الترك طائرة حربية روسية ورفضوا الاعتذار عن ذلك
للروس، نجد تحولا صارخا في الموقف الروسي حيال الكورد الذين أثبتوا أنهم من أشد
المقاتلين شجاعة وصمودا في خندق الكفاح ضد الإرهاب في كل من العراق وسوريا وأنهم من
أفضل حماة الأقليات القومية والدينية في المنطقة وقادرون على إدارة أنفسهم، فإذا
بالروس يدعون الكورد للتنسيق معهم ومع الرئيس السوري الضعيف بشار الأسد الذي لولا
الدعم الجوي الروسي والدعم الأرضي الذي تقدمه إيران وتنظيماتها الإرهابية المختلفة،
ومنها حزب الله اللبناني، لكان في خبر كان الآن، وهاهم يزعمون أنهم مع “حق الكورد
في التمتع بفيدرالية لهم” في شمال سوريا. 
هذا التحول السياسي الذي نعلم أسبابه
قد لا يكون سوى سراب بقيعة، بمجرد أن تعتذر حكومة أحمد داوود أوغلو في أنقره أو
رئيس تركيا للروس بسبب حادثة اسقاط الطائرة التي أوصلت البلدين، تركيا وروسيا، إلى
حافة الحرب، لولا أن تركيا عضو في حلف النيتو، وروسيا تحسب لهذا الحلف ألف
حساب.
من ناحية أخرى، يعلم الروس جيدا أن بشار الأسد، حتى وإن تمكن من دحر كافة
فصائل الثورة السورية بعون الروس والايرانيين، فإنه لن يتمكن من حكم سوريا أمدا
طويلا، فالبنية الاقتصادية للبلاد مدمرة بسبب الحرب، والخزينة فارغة، والديون
السورية عظيمة للغاية، والمزارع والمعامل مهدمة وخاوية، والنسيج الاجتماعي السوري
ممزق ومخضب بالدماء… ولذا، فإن الروس بحاجة إلى من يساعدهم في الاستمرار في
ممارسة وصايتهم على سوريا المتفق عليها مع الولايات المتحدة ولربما الاتحاد الأوربي
أيضا.  وإن أمريكا -كما يبدو-  لن تعارض “الفيدرالية” للكورد، رغم أنها تعلن بين
الحين والحين عن رفضها ذلك، فهي تدعمهم بقوة في العراق، ولكن قد تشترط أن يتم ذلك
بالتنسيق مع جنوب كوردستان التي تخطو خطوات ثابتة صوب إعلان الاستقلال عن العراق.
وهي  تعتمد على الكورد في العراق وسوريا في حربها ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)
وضد تنظيم (القاعدة) المتمثل بجبهة النصرة وغيرها في سوريا.
هذا المشروع
“الفيدرالي” الذي أفصح الروس عن دعوتهم له، يتمسك به الكورد سياسيا في برامجهم
الحزبية، ويطالبون بتحقيقه من ضمن تنسيقهم مع ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية
الذي انضم إليه المجلس الوطني الكوردي (تحالف عدة أحزاب كوردية وطنية ديموقراطية)
ويطالب به حزب الاتحاد الديموقراطي وبعض الأحزاب الأخرى بعد إعلانه عن سعيه لتطوير
ما يسميه ب”الإدارة الذاتية الديموقراطية” المطبقة من قبله في ظل نظام الأسد
وحلفائه في مناطق (الجزيرة وكوباني وجبل الأكراد) في شمال البلاد، ولذا فإن له
أرضية ملائمة الآن، وبخاصة فإن نظام الأسد لن يكون ضده بسبب أنه خطوة لابد منها
للإعلان عن “فيدرالية علوية” في غرب سوريا، حيث من الصعوبة إعادة اللحمة الوطنية
بين العلويين والسنة في سوريا، والعودة إلى سلطة الدولة المركزية، بعد مسلسل
المجازر الرهيبة التي قام بها النظام الذي قياداته المتقدمة في أيدي العلويين خلال
سنوات الحرب الماضية. وقد صدرت من النظام تصريحات بأنه مستعد لمناقشة موضوع
“الفيدرالية” فيما بعد وليس الآن.
المشكلة التي تعترض المشروع والطموح الروسي في
ضرب تركيا من الخاصرة وارغامها على التراجع عن غطرستها والاعتذار لروسيا والتعويض
لها عما أصابها من خسارة مادية ونفسية بسبب اسقاط طائرتها الحربية، هي أن كلا من
إيران وتركيا رغم البون الشايع بينهما في العديد من المجالات، بل ووجود خلافات
كبيرة بينهما في الشأنين العراقي والسوري، إلا أنهما متفقتان على ألا يكون للكورد
أي كيان قومي يمكن له التأثير في داخل البلدين، لما فيهما من حجم ديموغرافي كبير
للشعب الكوردي، وتعاونهما عبر التاريخ منذ قرون، رغم الحروب بينهما، في هذا المجال
دائم وظاهر للعيان. 
إلا أن إيران التي ترى في روسيا منافسة لها في التواجد على
الساحة السورية قد لا تجد حرجا في حصول الكورد في هذه الساحة على مستوى من الحكم
الذاتي أو حتى الفيدرالية، طالما يساعد ذلك على بقاء نظام الأسد أو استمرار
تواجدها، ولذلك فإن إيران لن تقوم بما تقوم به تركيا من هجوم على الطموح القومي في
سوريا. في حين أن تركيا لا تدعم كل تنظيم سوري ضده فحسب، ومنها تنظيمات “إرهابية”
بكل معنى الكلمة، بل تقصف بمدافعها عبر الحدود مواقع كوردية، بذريعة أنها تحارب
الإرهاب، ولكن العالم يرى ويسمع ما يحدث ويعلم عن النوايا التركية جيدا. 
ماذا
على الكورد أن يفعلوا في هذه الحال؟
برأيي أن يعمق الكورد من أسباب وحدتهم
ليزدادوا قوة وفعالية على الساحة السورية وأن يبنوا جسرا متينا وعظيما مع الفصائل
الوطنية والديموقراطية السورية، ويكون هدفهم في ذلك أمران: إسقاط النظام الذي تسبب
في كل هذه المآسي والمجازر وأوصل سوريا إلى الهلاك، وتحقيق نظام ديموقراطي يسمح له
بالحصول على “فيدرالية قومية” لهم ضمن حدود الوطن المشترك، وهذا سيحد من التدخل
التركي السافر في شأنهم السوري إلى حد كبير… وأن “يلحقوا الكذاب إلى باب داره!”
كما يقول المثل العربي، فيقولوا للروس نحن مستعدون للحوار معكم من أجل إعادة هيكلة
النظام السوري ووضع دستور جديد يمنحنا حق الحصول على فيدرالية كوردية، بشرط أن
تعطونا ضمانات دولية بذلك… 
طبعا، الروس -كما قلنا سابقا- لهم أسباب سياسية في
دعوتهم الكورد للتعامل والتفاعل معهم، وسيتفقون مع تركيا تماما بحكم المصالح
الاقتصادية والاستراتيجية لكلا البلدين، عاجلا أو  آجلا، وعندها سيخونون الكورد كما
خانوهم أثناء جمهورية كوردستان 1946، إلا أن الحديث ولو إعلاميا فقط عن “مشروع
فيدرالية” قد يقنع المعارضة السورية بضرورة فتح الحوار السوري، العربي – الكوردي،
حول الفكرة،  قبل أن تصبح القضية “دولية”،  ويتسع الرقع على الراقع، وقد يدفع
النقاش مع الروس بالأمريكان وحلفائهم الأوربيين للدخول في المعترك الذي سيخرج
الكورد منه ببعض المكاسب بالتأكيد. أما رفض الدعوة الروسية للحديث حول المشروع
الفيدرالي، فيعني ذلك وأد الفكرة من بدايتها، وافساح المجال أمام الروس لتحريك
الدمى السورية المؤيدة لسياستها، من قوى كوردية وعربية، للتصرف في نطاق أضيق مما
يحلم به الكورد من حقوق قومية، وفي هذا خطأ شنيع للحركة السياسية الكوردية التي
نضجت مع الأيام وتوالي الأحداث حسب رأيي.
على قيادات الحركة الكوردية السورية
ألا تكتفي بالمطالبة بالفيدرالية لشعبها، وإنما عليها النزول إلى الساحة السورية
والصعود إلى سائر الساحات الإقليمية والدولية لتحقيق هدفها خطوة خطوة، وأن تستعين
بشكل جيد من تجارب الإخوة الكورد في جنوب كوردستان الذين أبدوا تأييدهم التام لمطلب
“الفيدرالية” في غرب كوردستان على أعلى المستويات السياسية في اقليمهم.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي تحت شعار “وقف العنف والتهجير – العيش المشترك بسلام”، وبمبادرة من مجموعة نشطاء من الشابات والشباب الغيورين، شهدت مدينة إيسين الألمانية يوم 21 ديسمبر 2024 وقفة احتجاجية بارزة للتعبير عن رفض الاحتلال التركي والتهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الكردي المسالم. الحضور والمشاركة: حضر الفعالية أكثر من مائه شخصً من الأخوات والإخوة الكرد والألمان، إلى…

د. محمود عباس ستكثّف الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا وستواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية. تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، وتعلم أن أي إدارة أمريكية قادمة، حتى وإن كانت بقيادة دونالد ترامب، لن تتخلى عن الكورد، لذلك، جاء تصريح أردوغان بعد عودته من مصر، ووزير خارجيته من دمشق اليوم كجزء من مناورة سياسية تهدف إلى تضليل الرأي…

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…