فيدرالية سوريا لا تعني التقسيم

د. محمود عباس

 مفاجئة للكثيرين، تصريحات نائب وزير خارجية
روسيا( سيرغي ريابكوف)، ووزير خارجية أمريكا (جون كيري) وطرحهما للخطة البديلة عن
الهدنة فيما إذا لم تنجح، والتي من ضمنها إقامة نظام فيدرالي اتحادي في سوريا،
الأول قائلا أن: ” روسيا ترى إمكانية اتفاق المشاركين في المحادثات السورية
على إنشاء جمهورية فيدرالية، إن رضيت جميع الأطراف السورية بهذا النموذج

والثاني بعده بيوم وفي جلسة أمام الشؤون الخارجية للكونغرس الأمريكي  محذراً فيها
القوى المتصارعة في سوريا من “صعوبة منع تقسيم سوريا إذا لم يتوقف القتال
هناك قريبا
“. أصاب التصريحين البعض بالدهشة والغضب،
وآخرون لا يزالون يفكرون بجواب، كتركيا ومثلهم المعارضة السورية العروبية
الإسلامية، فالصدمة قوية، ولم يصدر تعقيب جدي، وسلطة بشار الأسد رد بالحنق والرفض،
ولا غرابة في موقف سلطة استبدادية، فهي أول الخاسرين، رغم أن طائفتها أكثر
المستفيدين والمتصالبين عليه. 
علماً أن المطروح لم يتجاوز البعد الإعلامي، وفي عمقه خدعة دبلوماسية أكثر من أن
تكون مرحلة تكتيكية تسبق التطبيق، ولا يستبعد بأن تكون عملية ضغط على المعارضة
السورية ومن يقف ورائها كتركيا والسعودية، وعلى سلطة بشار الأسد ومجموعته إيران
وأدواته، للحضور إلى جنيف بدون شروط مسبقة، ومن ثم قبول ما ستدرج على طاولة
المحادثات من بنود متفقة عليها روسيا وأمريكا.
 في العمق السياسي الجاري ضمن
سوريا وخارجها، حيث هول الكارثة الإنسانية، والتي تغرق فيها شعوب وطوائف، لا يتوقع
أن يكون هناك حل آخر غير (النظام الفيدرالي) مع خطوة نحو (الكونفدرالية) وهي وجود
قوة عسكرية لكل فيدرالية، قومية أو طائفية، أو الأعمق منه، دستور تعطي صلاحيات أوسع
للفيدراليات، كتغيير وإلغاء بعض البنود، ومنها المركزة على أن يكون الرئيس عربياً،
مسلماً، وبشكل غير مباشر ملغيا ولاية المرأة. والمطروح بالنسبة للدول المحتلة
لكردستان، وللمعارضة العروبية الإسلامية وسلطة بشار الأسد تعني المرارة السياسية
والثقافية، كرها بالكرد والعلويين والمسيحيين، قبل أن يكون رفضاً للنظام الفيدرالي،
ومعظمهم يدركون أن الفيدرالية لا علاقة لها بالتقسيم الجغرافي، وبالعكس قد تكون
أفضل الخطوات لإعادة التلاحم والتعاضد، وهو ما يتضمنه على الأغلب تصريح جون كيري. 
  طرح المجلس الوطني الكردستاني-سوريا، منذ 2006م، في جميع
المراكز السياسية الأمريكية التي دخلته، بدءً من وزارتي الخارجية والدفاع إلى قاعات
البيت الأبيض وأروقة الكونغرس الأمريكي، النظام الفيدرالي لسوريا القادمة، ومن
ضمنها فيدرالية المنطقة الكردستانية، بناءً على جغرافية تاريخية، وليست الديمغرافية
المهشمة من قبل السلطات العروبية المتعاقبة على الحكم في سوريا، وركز المجلس عليها
في كل محفل ولجت إليه خارج أمريكا، وكانت إحدى أهم القضايا التي لم تساوم عليها،
رغم المواجهات العديدة والحجج المتنوعة، وأهمها عدم ظهور الظروف واللحظة المناسبة،
إلى حالة التحسس من الدول المجاورة المعروفة بعدائها للقضية الكردستانية، واتبعت
المعارضة العروبية الإسلامية السورية الدول الإقليمية، فمعظمهم خرجوا من رحم ثقافة
الحكومات العنصرية المتعاقبة على سوريا. 
 واجهت هذه القضية المصيرية عدة
إشكاليات، سياسية وثقافية، وكانت أغربها من بعض رؤساء الأحزاب الكردستانية، علماً
أن بعض الأحزاب الكردية في غربي كردستان تبنوا الطرح الفيدرالي ولا مركزية السلطة
فيما بعد وبشكل رئيس، رغم أن الأجواء لم تكن مهيأة في المنطقة بعد. لكن الأولين
طرحوا مفاهيم، مشوهة عن حقيقة الواقع الكردي الديمغرافي التاريخي والجغرافي لجنوب
غربي كردستان، أو ما أصبح يعرف بغربي كردستان مجازاً، وتناوبت ما بين تجزئتها،
جغرافية أو ديموغرافية، والتي عكست ظاهرة التناسي التاريخي، وذلك تحت تأثير مصالحهم
الآنية. إلى عدميتها، المبنية على تنازلات سياسية فيها من الانتهازية أكثر من البعد
التكتيكي الدبلوماسي. 
  من السذاجة التوقع من سلطة بشار الأسد والحكومات
التركية المتعاقبة ووليدهم أردوغان بشكل خاص، قبول أو عدم الاعتراض المطلق على
النظام الفيدرالي لسوريا، والتي ضمنها ستكون كيان كردستاني، حتى ولو كانت مرافقة
لكيانات أخرى كالعلوية والدرزية، والسنية، وربما المسيحية. ومن الطبيعي خروجهما من
الصمت المتقصد، أو التعتيم الكلي على الوجود الكردي وماهيته، إلى الرفض المطلق،
فالملم بثقافتهم ومواقفهم السياسية العدائية سيتجاوز الدهشة أو الوقوف على
تصريحاتهم، والمتوقع من المعارضة العروبية الإسلامية السورية، وبعض زعمائها المواقف
العدائية المرضية للديكتاتوريات المستعمرة لكردستان، والتي لن تقدم أي منفعة لشعوب
المنطقة ومن ضمنها الشعب العربي.  
 الواقع السوري بشكل عام،
يفرض نظاماً سياسياً، يخلق الثقة بين شرائح النسيج السوري، ويعطي الأمان لهم من ثأر
قد لا يتوقف، مثلما يحصل في العراق، ويحفظ للجميع كرامته، دون أن يتعرضوا إلى
دكتاتوريات مركزية، والمتوقعة ظهورها ضمن الفيدرالية ذاتها، والتي حلولها ونتائجها
ستقع على عاتق شرائح النسيج السوري، أو الطوائف، والقوى السياسية التي تتشكل منها
الفيدرالية، ومدى احترامهم لدساتيرهم. وعلى الأقل ستكون الصراعات داخلية، ولا
يستبعد تأثير الأطراف على بعضهم بالإيجاب، والتسابق لخلق الأفضل
لشعوبهم.
 الواقعية السياسية، تتطلب تبيان حقيقة مصيرية بالنسبة لسوريا، وهي أن
المطلب الفيدرالي ليست خدعة تسبق الانقسام، تتكالب عليها الطوائف الرئيسة في سوريا،
قبل الكرد، وبينهم شريحة واسعة من السنة، الذين يصعدونها إلى مرحلة إقامة كيان
جغرافي مستقل، والمعارضون هم من نفس الجماعة، لكنهم  يختفون تحت عباءة الخباثة،
ويتهمون الأخرين بما  يقومون هم به من النفاق،  لهذا فالثقة انعدمت عند الأغلبية من
الشرائح السورية، فكل من يرفضها أو يعاديها أو ينافق بخباثة، يجرم بحق الإنسان
السوري، ويكرس منطق الاستبداد، ويفتح الأبواب لكل أنواع الثأر، والإجرام، ولا يبغي
الخير لسوريا وإنسانها، وأعداءه أكثر من يعادي هذا النظام الأنسب لسوريا القادمة،
وبه يسهل دروب أسقاط النظام بكل بشائعه، الثقافية والسياسية والاقتصادية
والاجتماعية، وأول من سينهار على عتباته هي سلطة بشار الأسد، والحكومات الدكتاتورية
المحاطة بسوريا، والذين تلاعبوا بمصيرها، وستكون نهاية المنظمات الإرهابية المستندة
على دعمهم.
 وفي الواقع الكردي، حيث أصابع العنصريون العربيون
توجه إليهم في هذه القضية، وتقف معهم تركيا الأردوغانية، علماً أن الطوائف السورية،
السنية والعلوية، يسبقونهم في تحفيزها، ولسيرة السلطات العروبية المشبوهة، وعدم
تقبلهم رؤية الأخر، والاختلاف العرقي بينهم وبين الكرد، يتناسون الأخرين فلا يرون
في الساحة إلا الكردي صاحباً لهذا الطرح. مع ذلك، لا يخفى أن الاستقلال وحق تقرير
المصير حق كل شعب على وجه البسيطة، ولا يستثنى منهم الشعب الكردي، ولا يخفى على أحد
أن الكرد يعارضون تقسيم سوريا، والظروف بكليتها تبعد الطرح بل وتلغيه، وهي سذاجة
سياسية في هذه المرحلة، ولا أظن بأنه توجد منظمة أو حركة كردية سياسية في غربي
كردستان، ترفع هذا المطلب حالياً. فالأعداء الذين يعرفون الفيدرالية بالتقسيم أو
الانفصال، يتقصدون إثارة القضية بخباثة، ويعرضونها تحت مصطلحات استفزازية نابعة من
الثقافة العدائية، والمبثوثة من قبل السلطات الاستبدادية في مفاهيم الشعوب المحاطة
بالكرد. والكل يعلم أن غربي كردستان، في البعد التاريخي، جزء من كردستان الأصل،
أقتطع عنها لتكوين سوريا الحالية، فلا يمكن أن تنقسم عن ذاتها، وتنفصل عن جسدها،
وأن حصل ستكون عملية تحرر لا أكثر، والتحرر هي مرحلة الخلاص من السلطات
الدكتاتورية، وليست من الشعوب المجاورة، فما بين الانفصال والتحرير مسافات ثقافية
وسياسية، والشعوب لا تعادي ولا تستعبد بعضها، وأن ظهرت طفرات شاذة، فهي نتيجة
الثقافة المشوهة التي تنشرها وتستند عليها الأحزاب العنصرية والأنظمة الشمولية.
فكردستان جغرافية مستعمرة سياسياً، ولم تكن مجتاحة ديمغرافيا قبل عمليات التعريب
والتتريك والفرسنة. فالمصطلحات الاستفزازية العنصرية، التي نسمعها وتنشرها الشريحة
العروبية الإسلامية التكفيرية، هي في عمقها لإثارة مشاعر الشعوب، ولا تمت إلى
المنطق، نابعة من تراكمات ثقافة الحقد والكراهية. نعود ونؤكد أن تطبيق النظام
الفيدرالي في سوريا لا تعني التقسيم لكيان جغرافي لم يكن له وجود أصلاً قبل بدايات
القرن الماضي، والمتباكين على المركزية بدموع التماسيح، نفاق سياسي، غايتهم إعادة
الطغيان بوجوه جديدة.
د. محمود عباس
الولايات
المتحدة
الأمريكية
mamokurda@gmail.com
1/3/2016
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…