الكرد.. وداء الانشقاقات

علي شمدين

خلال فترة عملنا في موضوع
(الإعلام والرأي العام الكردي في سوريا)(١)، تبلورت لدينا فكرة البحث في ظاهرة
الانشقاقات في صفوف الحركة الكردية في سوريا، ورصد
دورها المفتت لهيكلها التنظيمي والسياسي، هذه الظاهرة التيخلفت وراءها كل
هذه الجماعات والأحزاب الوهمية الهزيلة، فضلاً عن دفعها للمئات من خيرة الكوادر
والقيادات الحزبية الى ترك صفوف الحركة الكردية بمرارة بعد ‌أن أصابها اليأس والملل
من الخلافات العقيمة والانشطارات غير المبررة.
وإن ما شجعنا لخوض هذا الموضوع
الشائك والمعقد، ودفعنا إلى البحث بمسؤولية في ما خلفه لنا الرواد الأوائل من
مذكرات وكتابات وحكايات وأحداث، هو المتغيرات الجذرية والتطورات المتلاحقة التي
عصفت خلال السنوات الخمسة الأخيرة بدول المنطقة عموماً وببلدنا سوريا خصوصاً، والتي
أظهرت ميدانياً عجز الحركة الكردية في سوريا عن مواكبة هذه التطورات ولعب دورها
التاريخي فيها، وتخلفها عن التجاوب مع استحقاقاتها بسبب تشتتها وانقسام صفوفها بهذا
الشكل المخيف، إلى درجة إن هذه الآفة باتت تهدد الشعب الكردي بضياع هذه الفرصة
التاريخية من بين يديه مالم يبادر إلى توحيد خطابه ولملمة صفوفه في خندق واحد.
كما أن الذي حفزنا أكثر هو مرور قرن من الزمن على إتفاقية سايكس بيكو التي تم
توقيعها في 1916، والتي كان من أخطر بنودها تقسيم كردستان، والتي انتهت صلاحيتها
بحسب القانون الدولي مع حلول عام 2016، وهذا يفتح أمام الشعب الكردي من جديد فرصة
تاريخية للبحث عن مستقبله وفرض دوره، ولهذا لابديل عن عقد الـ(مؤتمر القومي
الكردستاني) المنشود، بين أطراف الحركة السياسية الكردية بهدف تسوية مشاكلها وحل
خلافاتها واتفاقها على استراتيجية مشتركة تعكس طموحات الشعب الكردي في أجزاء
كردستان الأربعة، إلاّ أن هذه المحاولات ‌لم تسفر هي الأخرى عن أيّة نتيجة مع الأسف
الشديد حتى اللحظة، لأسباب هي نفسها دون غيرها التي وقفت ومازالت وراء ظاهرة
الانشقاقات بين صفوف الحركة الكردية والكردستانية، التي ورثها مجتمعنا عبر عقود
طويلة من عقلية التشتت والتشرذم والانشقاقات (٢). 
 لذا كان لابدّ لنا من
المساهمة- وبجهودنا المتواضعة- في دراسة هذه الظاهرة الخطيرة التي لازمت نضال الشعب
الكردي على مدى تاريخه المرير، وكانت على الدوام الداء الذي بدد آماله ووأد أحلامه
وفوت عليه فرصه التاريخية، حيث نجح الخصوم في حقن تلك الجرثومة داخل المجتمع
الكردي، وتمكنوا من تنميتها بمهارة حتى بات ضرب الكرد بعضهم ببعض سهلاً
وميسوراً.
فهل هي لعنة حلت بالكرد !؟.
لاشك بان الكرد ليسوا أبناء الجن(٣)،
ولم يأتوا من كوكب آخر كما يتصوره البعض بكل تأكيد، وإنما هم ببساطة كغيرهم من
البشر من نسل آدم الذي نجحت حواء في إغوائه وإغرائه بالتمرد على إرادة الله ومعصية
أمره بترغيبه في تناول التفاحة التي كانت سبباً في طردهما من الجنة، ليهيما على وجه
الأرض مخلفين ذرية تمثلت في ثنائي (قابيل وهابيل)، ليبدأ التباين والاختلاف بين
الشقيقين في المصالح والطموحات حتى تعمق بينهما الخلاف والصراع الذي لم ينتهي إلى
الحوار والتفاهم والمنطق، وإنما انتهى بتصفية ‌أحدهما للآخر من الوجود
نهائياً..
هذا هو الداء بعينه الذي نبهنا إليه أحمدي خاني منذ (1650-
1707) (٤) ، ووضع بشكل مبكر اصبعه بدقة على جرحنا الأزلي العميق، في إن آفة الكرد
إنما تكمن في التشتت والتناحر والعناد، وشخَّص دوائهم في الوحدة والتوحد والاتفاق..
ولكن لم يصغ أحفاده لصرخته المخلصة هذه، وإنما ظلوا حاملين بعناد لفيروس التشتت
والشقاق، وشكلوا بتخلفهم تربة خصبة لازدهار تلك الثقافة التدميرية التي أنتجت
صراعاً من نوع (المحمودكي/ والعثمانكي)(٥)، وكانوا أقرب إلى سلوك الحجل في الإيقاع
ببعضهم في مصيدة الخصم، رافضين غسل الدم في معظم صراعاتهم إلاّ
بالدم.
لقد انتقلت تلك العقلية وبشكل منظم ومدروس إلى الحركة الكردية في سوريا
بعد أن وضع المؤسسون الأوائل لبنتها الأولى أواسط الخمسينيات من القرن المنصرم،
وتجسدت تلك العقلية بشكل واضح في الطريقة التي واجه بها أوصمان صبري نده الدكتور
نورالدين زازا، والتي أدت في النتيجة إلى افتعال صراع عميق توزع انصارهما
على طرفيه، فانقسمت بذلك الحركة الكردية في سوريا ولأول مرة في تاريخها على جبهتين
متقابلتين لم تردم خنادقها العميقة حتى يومنا هذا، ودفعوا بهذا الصراع نحو معارك
دونكيشوتية في محاربة طواحين الهواء، أدارها خبراء في فن الفتن والتكتل والتضليل في
ظل شعارات مخادعة ومن خلال ثنائيات مفتعلة وخنادق وهمية، تمترس في جهة منها أوصمان
صبري ومريديه، وزجوا بالدكتورنورالدين زازا وتلامذته في الجهة المقابلة ودفعوهم
مرغَمين نحو خانة (الشيطان)، لتستمر تلك الخلافات حتى يومنا هذا
ويزداد الصراع شراسة وحقداً. 
لم تجد تلك المشاكل والخلافات طريقها إلى الحل
إلاّ بالمزيد من الانشقاقات وأساليب التكفير والتخوين والاغتيالات السياسية التي
خلفت ورائها قوافل من الضحايا، حتى توصلنا إلى هذا الواقع المرعب من التمزق
والتشتت الذي نعيشه اليوم ونحن نخوض أهم مرحلة مصيرية في تاريخ الكرد، حيث بات
نيلهم لحقوقهم قاب قوسين أو أدنى، وهي مرهونة بتطهير الجسد الكردي من فيروس الحقد
والغدر والانتقام، والاستجابة لنداء أحمدي خاني الذي أطلقه منذ أكثر من ثلاثة
قرون..
هكذا انجذب انتباهنا إلى ضرورة البحث في ظاهرة الانشقاقات في الحركة
الكردية في سوريا، والمغامرة في الغوص بين محطاتها الرئيسية وتتبع مساراتها
المتشعبة وظروفها المعقدة ودراسة أسبابها الرئيسية وبالتالي استخلاص النتائج
والعبر لاستثمارها في حشد القوى الكردية في سوريا وتجميع إمكاناتها المتبعثرة في
جبهة واحدة للمشاركة في هذه الثورة العارمة التي يعيشها الشعب السوري بمختلف
مكوناته، وخوضها بصف متراص وصوت واحد ضد نظام دكتاتوري أرعن، لم يوفر سلاحاً محرماً
إلاّ واستخدمه في إبادة الشعب السوري وتدمير بنيته التحتية..
ومن هنا تبلورت
لدينا العزيمة والتصميم للبدء بتأريخ وتوثيق درب الآلام هذه التي عاشتها حركتنا
السياسية على مدى نصف قرن من الصراعات الوهمية في جبهات مصطنعة أهدرت ذخيرة نصف قرن
من النضال والتضحية والصمود.. فكان لابدّ من صرخة قوية وإن كانت متأخرة، تدين هذا
الشرّ المتجذر في مفاصل المجتمع الكردي وتلافيف وعيه، والذي أباح كل المحرمات
العقائدية وتجاوز جميع القيم الإنسانية وتجاهل كافة الآداب الاجتماعية وانتهك مختلف
الأصول التنظيمية والحزبية..
نعم لقد كان لابدّ من كلمة حق وفاءاً للخير الذي
كان ضحية لهذا الشرّ الذي استباح كل المحظورات السياسية والتنظيمية، ونصرة له وإن
بعد فوات
الأوان..

الهوامش:

١- صدر
كتاب (الإعلام والرأي العام الكردي في سوريا)، لمؤلفه علي شمدين/ عام 2014، يتناول
فيه العوامل المؤثرة في الرأي العام الكردي، والأساليب التي استخدمت في تضليله
وتشتيته.، من اصدارات مؤسسة (ماركريت)/ مطبعة كمال بمدينة السليمانية بكردستان
العراق، يضم الكتاب (264) صفحة من القطع الكبير، قدم له الأستاذ عبد الحميد درويش
وصمم غلافه الفنان كاميران شمدين.

٢-  بتاريخ (23/07/2013)
اجتمعت الأحزاب الكردية والكردستانية بهولير، واتفقت على تشكيل لجنة تحضيرية لعقد
(المؤتمر القومي الكردستاني) في أقرب وقت، حيث كان مسعود بارزاني قد وجه دعوة إلى
تلك الأحزاب، باسمه وباسم مام جلال طالباني، وباسم عبدالله اوجلان، وقد حرص مسعود
البارزاني في كلمته الافتتاحية في الاجتماع على طمأنة دول الجوار وبأن الهدف
الرئيسي من المؤتمر: (هو أن تصبح الأطراف السياسية الكردية في الدول الأربع- عراق،
تركيا، سورية، إيران- صاحبة خطاب واستراتيجية مشتركة أساسها إرسال رسالة سلام
وتعايش إلى شعوب المنطقة.. وبأنهم يريدون إنهاء حالة العداء بشكل تام والوصول إلى
اتفاق كامل وحل سلمي وعادل لمشكلة الأكراد..).

٣- روى الكليني
في كتابه (الكافي)، عن ابى الربيع الشامي: (ولا تنكحوا من الاكراد أحداً فإنهم جنس
من الجن كشف عنهم الغطاء)/ (5/352).

٤- جاء في ديوان (مم
وزين)، التي نظمها الشاعر والفيلسوف الكردي احمدي خاني عام 1695، في أبيات/
(216/217/230/231/232)، مايلي:

ez mame di hikmta xwedê
de

kurmanc di dewleta dinê de

eya bi çi wechî mane
mehrûm

û bil le ji bo çi bûne mehkûm

lew pêkve hemîşe bê
tifaqin

dayim bi temrud û şiqaqin

ger dê hebwa me
itifaqek

vêkra bikira me inqiyadek

tekmîl di kir me dîn
û dewlet
 

tehsîl dikir me ilm û
hukmet
  .. 

٥-  يقول ( حليم يوسف)، في مقال له حول
الـ(
Mehmûdkî û Etmankî): بأنه كان هناك في منطقة (أومريان/ التي
تضم العشرات من قرى نصيبين وماردين في كردستان تركيا)، اثنين من زعماء الأومرية
وهما أخوة، باسم (محمود، وعثمان)، وذات يوم اختلفا وتصارعا حول الزعامة، فنشب
بينهما قتال شديد، وجلب القتال قتالاً كالسلسلة دون أن تنقطع لسنوات طويلة، ومع
الزمن توزع أبناء منطقة (الأومريان)، على جبهتي القتال بين (المحمودكي،
والعثمانكي)، نسبة الى (محمود) وأخيه (عثمان)، ومازال حتى اليوم يحتفظ احفادهما
بالحساسية والحقد العميقين تجاه بعضهما البعض.. فأصبح هذا الصراع مضرباُ للمثل./
المقال منشور على الرابط:

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…