أحمد اسماعيل اسماعيل
لا يجد المهاجر، أو الجموع المتدافعة من المهاجرين، على شواطئ البحار، وفي الغابات، متسعاً من الوقت، أو رغبة في الرَّد على سؤال جوهري وجارح حتى لو جاء في أغنية جميلة وبصوت ساحر طالما أحبوه مثل صوت فيروز:
-لوين رايحين..ولوين مسافرين.. وليش مسافرين؟
تتردد كلمات هذه الأغنية هديراً وسط الأمواج المتدافعة، ثم لا تلبث تتلاشى حين يغادر المهاجرون المكان مخلّفين على الشواطئ التي انطلقوا منها صدى وترجيعات أرواح، كانت قبلُ تنبض بالحياة والمرح حين كان أصحابها يسمعون صوت فيروز في صباح كل يوم وهم يرتشفون القهوة، وها هم يمضون على عجل بلا انتظار من يقرأ لهم ما تخبأه الأقدار، كما كانوا يفعلون في الأيام الخوالي، فلقد أصبح البحر فنجان القهوة الذي ستتهافت قارئات الفناجين الحديثة، من وسائل إعلام ومحللين سياسيين، على قراءة صورهم وهم في قعره الكبير.. رغم وضوح المشهد بكل ما يجلله من مأساة.
بداية، وبموضوعية أكثر، ينبغي الإقرار بأن الهجرة ليست حالة طارئة حدثت مع قدوم هذا الربيع العربي، وذلك بعد انقلاب، بل تحوَّل، ثوراته إلى حروب؛ حروب صغيرة وأخرى كبيرة، داخلية مسلحة، وخارجية دبلوماسية. وأن المهاجر ليس مجرماً أو كائناً ممسوخاً إلى فأر شدّ الرحال حين ظهرت القطط السمان والمتوحشة في شوارع وساحات بلاده، فحالة الهجرة قديمة قِدم البشرية ذاتها، وإليها يعود فضل إنقاذ البشرية من الغرق، وحفظ الجنس البشري من الفناء، وذلك حين رافق بشر النبي نوح وهاجر على سفينته إلى أرض لا يسودها الضلال.
لتتكرر الحالة في كل مرحلة تاريخية، وفي كل زمان ومكان: هجرات شعوب وقبائل وأمم، غزاة طامعين في أراض أكثر خصوبة من تلك التي يسكنوها، أو لاجئين مستجيرين بأرض وقوم من غضب عناصر الطبيعة أو جبروت سادتهم.. ويكاد المُطلع على تاريخ الهجرات، يجزم أن الكرة الأرضية ليست سوى جسور ودروب تتدافع فيها، ومنذ بدء الخليقة، موجات بشرية، رائحة غادية من قارة إلى قارة، ومن منطقة إلى أخرى .
لقد قيل الكثير عن الهجرة، قديماً وحديثاً، بين مؤيد ومعارض، وبين بين من تعاطف إنساني، ولقد تفرد الإسلام قديماً بموقف عدَّ اللجوء في ظل الاستبداد خاصة، خياراً مباركاً، وجهاداً، وزيادة في ذلك، كان لاعتماده الهجرة، هجرة الرسول إلى المدينة، بداية تاريخه، رغم وجود تواريخ أخرى وأحداث أكثر أهمية من هذا الحدث، فتحة مكة مثالاً، كان له دلالته العظيمة.
يزخر شريط التاريخ المرئي بمشاهد لا تحصى من الهجرات، موجات بشرية مختلفة الأجناس وهي تسير في دروب متشعبة، تكاد تشمل كل بقاع الأرض، ليست تلك القادمة من أوربا إلى آسيا، في زمن موغل في القدم، هي أولها، بل تشاركها في المشهد ذاتِّه الهجرات القادمة من شبه الجزيرة العربية إلى الهلال الخصيب وشمال أفريقيا، ومن أسيا إلى الأناضول، ثم، وفي زمن تال، من أوربا إلى القارة الجديدة التي اكتشفها كولومبس.
وفي هذا المشهد الناهض حديثاً، على ضفتي المتوسط، البحر الذي تحول لدى المهاجرين إلى مسافة تفصل بين قارتين وعالمين: عالم الظلمة والنور، وعالم الموت والحياة، يُكرر التاريخ نفسه، في مشاهد تراجيدية حديثة هذه المرة، الجموع فيها تغادر مسرح الوطن تاركة إياها “للديب والريح”.
حين تفقد البلاد التي اسمها الوطن ما يجعل منها مكاناً صالحاً للعيش، ليس بسبب غضب الطبيعة وأفعالها الجنونية الطارئة والمؤقتة في حالات مثل: الطوفان والزلازل والبراكين وحتى الجفاف. والتي تلقى التسامح من لدن الإنسان، بل بفعل جنون آخر أشد قسوة وأدوم زمناً، يحوّل الوطن إلى سجن، والإنسان إلى حيوان يسمع ولا يحكي، حينها فقط يصبح من إقدام المواطن على قطع حبل السرة مع كل الأرحام، الاجتماعية والعاطفية والوطنية.. جريمة كبرى؛ المحرض عليها هو المجرم لا الفاعل.
وطن هذا حاله، ليس سوى جحيم لا يطاق.