الكوردي السوري.. الأخ الصغير القاصر

م.رشيد
 بحكم الأقدار وسياسة الاستعمار وجد الكوردي السوري نفسه صغيراً قاصراً بين أخوته الكبار، بالرغم من تفوقه الكبير عليهم بالخبرات والطاقات في العديد من المجالات، يشاركهم أفراحهم ويشاطرهم أتراحهم، مطبقاً قاعدة الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ويأويهم في دوره، ويطعمهم من قوته، ويفديهم بدمائه، ويغمرهم بوده ووفائه، يتحمل أعباءهم ومآسيهم في المحن والشدائد بالرغم من جسده المثخن بالجراح النازف دوماً، بسبب الظلم والغبن والحرمان الذي عاشه ويعيشه بفعل الاجراءات الشوفينية والمشاريع العنصرية والقوانين الاستثنائية المطبقة بحقه.
    استبشر الكوردي السوري خيراً بقدوم الربيع العربي وهبوب رياح الاصلاح والتغيير العاصفة بالمنطقة، حيث كان ينتظرهما بفارغ الصبر وأحرّ من الجمر، ليستعيد حضوره واعتباره، فبدأ ببيته ليجدّد إعماره، ويحصّن أسواره، ويؤمّن جواره، ويكتم فيه أسراره، ويلملم شمل أفراد عائلته بأخياره وأشراره، بصغاره وكباره، ثم ينصرف إلى محيطه ليترجم رؤاه وأفكاره، فيلعب أدواره في حماية دياره، ومكافحة أضراره وتحسين أحواله وأخباره، وتأمين كامل حقه وإقراره.
    لكن كالمعتاد وقبل الشروع في تنفيذ ما يدور في ذهنه، وما يتطلب منه من مهام وواجبات، استشار الكوردي السوري أخوته واستعان بهم، فلبوا نداءه، ولكن كل بطريقته الخاصة ووفق أجندته ومصلحته، فاستخدموا صلاحياتهم الوصائية، وآلياتهم الادعائية، وأساليبهم التهديدية والترغيبية، ووسائلهم التحريضية من أمنية ومالية وأعلامية، فتدخلوا في شؤون بيته، وفرضوا عليه مخطط بنائه، وطريقة إكسائه، ونوعية أثاثه وأضوائه، وطبيعة أجوائه، وأجبروه على نمط محدد من الادارة والتدبير والحراك، وفرقوا بين أبنائه، وصنفوهم وفق أهوائهم، فجعلوا من الصالح طالحاً، والفاعل خاملاً، والواعي غبياً، والغني فقيراً، والمقدام متخاذلاً، والنظيف وسخاً، وبالعكس أيضاً، حسب معاييرهم ومقاييسهم التي تخدم سياساتهم ومشاريعهم، ونجحوا إلى حد ما في استقطاب بعض القيادات الحزبية واستمالة بعض الفعاليات المجتمعية، واحتوائهم ضمن أُطر سياسية مبرمجة ونُظم مؤدلجة، حسب الولاء لحلف هذا الأخ، أوالانتماء لحزب ذاك الأخ، على قاعدة  الاصطفاف والتخندق والتمحور.
    اختار قسم كبير من أبناء الكورد السوري الهجرة والاغتراب، والالتزام بشروط السماسرة والتجار، وفضلوا الغرق في البحار والضياع في الأدغال على الانصياع لأوامرالأخوة المتخاصمين، وارتكاب حماقات كالمشاركة في الاقتتال الداخلي، أوالانزلاق إلى الصراعات الطائفية والدينية والعرقية، أو الخوض في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، والأهم هو عدم السير في نفق طويل مظلم لا يرى  في نهايته بصيص ضوء أو أمل قريباً، بسبب الوضع المتأزم والمتفاقم يوماً إثر يوم.
    ورضي قسم لا بأس به بالمغامرة والانخراط في المحاور، أوعن قناعة ومبدأ، رافعين راية أحد الأخوة الكبار، طامحين في ثروة أو سلطة أو جاه، أو ساعين وراء ثأر أو انتقام، أو غايات أخرى خاصة بهم، مستثمرين الظروف الاستثنائية الراهنة، والتي أوجدتها الحروب الدائرة بين أطراف مختلفة وعلى جبهات مختلفة في المنطقة ولا سيما في سوريا الأزمة.
     وقسم آخر يمثل الأكثرية الصامتة، التي توخت التشبث بالأرض والصمود بما تمتلكه من مقومات بسيطة ومستلزمات متواضعة توفر لها الحد الأدنى المقبول من الاستمرار في الحياة بكرامة وشرف، بالرغم من الظروف الأمنية والمعيشية الصعبة، متكيّفة مع الأوضاع  الحرجة والظروف الطارئة، ومتحديّة الضغوط والمخاطر، محافظة على ثوابتها القومية والوطنية والانسانية، على كافة الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
    مشيئة الكوردي السوري وقدره أنه إبن القضية الكوردية وجزء منها بجميع أبعادها ومضامينها، وقد توفرت له الفرصة التاريخية الحالية ليثبت جدارته ومقدرته، على امتلاك نفسه وتهيئتها لمواجهة المستجدات والتحديات، واستثمار الأحداث والمتغيرات، ويكون بمستوى المسؤولية والأهلية ليقرر مصيره بحرية واستقلالية، ليبلغ مقصده ومبتغاه، لكن أخوته الكبار منعوه، وأرادوه صغيراً قاصراً كما كان عليه سابقاً، يفكرون بدلاًعنه، يجدولون أعماله، ويضبطون أقواله وأفعاله، وينظمون أحواله، ويزكون أمواله، ويحددون حله وترحاله (زماناً ومكاناً) ، ويفاوضون باسمه، ويعينون لسان حاله، كي يبقى قرباناً لصراعاتهم، وورقة في مساوماتهم، ورقماً في تصفية حساباتهم كوردستانياً واقليمياً ودولياً.
    وما عسى الكوردي السوري فعله سوى التحلّي بالجرأة والصدق والجدية ومراجعة الذات وترتيب الأوراق، والتمسك بالثوابت والدروس، التي استخلصها من تجارب حركته التحررية وتربى عليها، والتأكيد على الخصوصية والاستقلالية والحرية والاعتماد على الذات في اتخاذ الموقف والموقع فكرياً وتنظيمياً وميدانياً، مع احترام البعد الكوردستاني على أساس التعاون والتنسيق، وتبادل الدعم والمساندة، وتقديم الخبرات والقدرات، ضمن تفاهمات استراتيجية عامة وشاملة على قاعدة التكامل والتضامن.
    وبقي عليه تجميع أبنائه العقلاء والحكماء، من المهتمين والغيورين، ومن الكوادر والخبرات والنخب الفاعلة والنزيهة (في الوطن والشتات) وتأطيرهم ، وتوحيد صفوفهم وخطابهم وطاقاتهم، بعيداً عن وصايات الأخوة الكبار واملاءاتهم، الذين دأبوا واعتادوا على استثمارها واستغلالها في تنفيذ أجنداتهم، وكذلك لاستعادة الشخصية الكوردية السورية بكامل خصائصها وحقوقها وممتلكاتها، التي تعرضت للسلب والتشويه والتمييع والتحجيم.
            ——————    انتهت    ———————–
      05.01.2016

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

مصطفى منيغ / تطوان تأجيل المُنتُظر لا يجُوز، ومِن المُنتَظر التأجيل بالواقع ممزوج، بالتمعن في الجملتين نصل لمدخل معرفة دول تائهة كتلك البلهاء لا تفكر إلا أن يحتَلَّها زوج وإن قارب أعمال يأجوج ومأجوج ، و تلك العالمة لما تقدِّمُه من معقول لكل مَخْرَج لها معه نِعْمَ مَخْرُوج ، المكشوفة رغم تستُّرها وراء سَدٍّ يقِي وجودها دون تقدير إن تردَّ…

د. محمود عباس   يعوّل الشعب الكوردي على المؤتمر الوطني الكوردي في غربي كوردستان بوصفه لحظة مفصلية، لا لمجرد جمع الفاعلين الكورد في قاعة واحدة، بل لتأسيس إرادة سياسية حقيقية تمثّل صوت الأمة الكوردية وتعبّر عن تطلعاتها، لا كفصيل بين فصائل، بل كشعبٍ أصيلٍ في جغرافيا ما تزال حتى اللحظة تُدار من فوق، وتُختزل في الولاءات لا في الحقوق. إننا…

ماهين شيخاني في عالم تُرسم فيه الخرائط بدم الشعوب، لا تأتي التحوّلات العسكرية منفصلة عن الثمن الإنساني والسياسي. انسحاب نصف القوات الأمريكية من شرق الفرات ليس مجرد خطوة تكتيكية ضمن سياسة إعادة التموضع، بل مؤشر على مرحلة غامضة، قد تكون أكثر خطراً مما تبدو عليه. القرار الأميركي، الذي لم يُعلن بوضوح بل تسرب بهدوء كأنّه أمر واقع، يفتح الباب أمام…

لم يعد الثاني والعشرون من نيسان مجرّد يومٍ اعتيادي في الروزنامة الكوردستانية، بل غدا محطةً مفصلية في الذاكرة الجماعية لشعبنا الكردي، حيث يستحضر في هذا اليوم ميلاد أول صحيفة كردية، صحيفة «كردستان»، التي أبصرت النور في مثل هذا اليوم من عام 1898 في المنفى، على يد الرائد المقدام مقداد مدحت بدرخان باشا. تمرّ اليوم الذكرى السابعة والعشرون بعد المئة…