آلة الاستبداد ولذة المواجهة (شهادة ذاتية) … 1/4

إبراهيم اليوسف


أهددكم بأعظم سلاح
أمتلك.. إنه الكلمة

      (أحدهم)

“هل يستطيع أي كاتب أن يقدم
– بلا حرج – شهادة عن معاناته تجاه أية سلطة استبدادية؟”، هكذا رحت أسأل نفسي، وأنا
أهمّ الكتابة في هذا المجال، وذلك بعد أن ترددت طويلاً أمام هذه المهمة الحساسة*،
لأن في مقدور الكاتب ذي الموقف المبدئي – أياً كان – تشريح آلة الاستبداد، بل
وتوصيف مكابدات سواه في مواجهتها، بيد أنه قد لا يفلح في كتابة تفاصيل ما جرى ويجري
له، لدواع عديدة، وإن كانت للشهادات الذاتية في مثل هذا المقام أهميتها الكبرى
كوثائق حية من قبل شهود العيان الذين دفعوا ويدفعون ضريبتهم على نحو باهظ، وفق
وتيرة وعيهم للحظة الزمنية، وترجمتهم لها، من دون الاكتراث بما سيترتب عليهم لقاء
ذلك.
وما دام أمر الشهادة، في هذا المقام، غير خاص، في نهاية الأمر، وله جوانب كثيرة،
أبرزها ما هو توثيقي، لا بد منه، لا سيما عندما يتعلق الأمر بنظام دكتاتوري دموي،
كما النظام السوري، وأن ما كان يسجله عليه بعض أصحاب الأصوات النظيفة، من مثقفين،
وعامة، ومؤسسات، لم يكن تجديفاً أو تجنياً من لدنهم، ولا نتاج مؤامرة على هذا
النظام، بل مجرد مقاربات نقدية، متفاوتة، بهذا القدر أو ذاك، فإنه لمن اللازم أن
يبادر كل من اكتوى بألهبة نيران السلطة، إن عبر  الأذى المعنوي، أو الفعلي، بتسجيل
ما تعرض له، كخطوط عريضة، أو كتفاصيل، بحسب الفضاء المتاح، لأن هذه الكتابة، تحيل
في التالي، إلى معاناة مدفوعة الثمن، من قبل صاحبها، على حساب حريته، وأمنه،
وراحته، ناهيك عن أنها ترتبت عليه نتيجة رفضه، ضمن ما هو متاح، للواقع العام، على
أيدي زبانية النظام.
ومؤكد، أن حياة كل فرد سوري، لا ينتمي إلى بطانة النظام، أو
الساكتين – تواطؤاً – على اضطهاده المبرمج لمواطنه، وشذوذه، ليست إلا مساحة من
المعاناة تحت سطوة رحى آلة القمع السلطوي، فإن هذه المعاناة أشبه بشريط فيلم
سينمائي، مليء بتفاصيل القهر الذي يتعرض له، ليس في الشارع، أو المدرسة، أو مكان
الوظيفة، أو المؤسسة – فحسب – بل وحتى في بيته، وفي غرفة نومه، وفي يقظته وغفوته،
لأن كابوس حالة الرعب يلاحقه أنى حل، وكيفما كان، فلا مناص منه، وهو كابوس ناجم عن
أشكال العسف التي يشهدها، بأم عينيه، مع فنجان قهوته، أو جريدته الصباحية، أو جرعة
نشرة الأخبار التي يتلقاها، عبر جهاز الترانزيستور أو التلفزيون، وحتى لحظة
انهداده، الطبيعي، وخلوده إلى النوم المخترق بأشكال القلق والرعب.
كل هذا الإرث
من المكابدة تحت نير رحى النظام، يجعل أية محاولة لرصد كل فرد خارج لجة ما عاناه،
عبر الشريط الزمني لحياته، منذ لحظة وعيه، وحتى اللحظة الحاضرة، أشبه بالمعجزة، لأن
في ذهن كل منا آلاف المواقف التي يمكن تناولها، في هذا الجانب، بل أن من بينها آلاف
المواقف المريرة التي يستحق كل منها أن يكتب في مجلدات كاملة، من دون أن تعطى حقها،
لأن لا شيء أعظم من الألم البشري، لا سيما عندما يتم ذلك على يدي ممتلك للسلطة،
قوي، همجي، قمعي، يعاني من فصام في خطابه، إذ يتخذ من الشعار القيميّ وسيلة لممارسة
المزيد من القمع، من أجل ترسيخ شوكته، وديمومة مصالحه، وكرسيه.
من هنا، فإن أياً
منا، لا بد له، وهو يدلي بشهادته، بهذا الخصوص، من أن يعتمد على سمة الاصطفاء،
عندما لا يسمح له طابع وعاء نشر الشهادة، بالاسترسال، عسى أن يتمكن من توثيق ما
يتعلق به، بطريقة أشمل، في مدونة خاصة، وإن كانت كل مدونة شخصية – مهما كانت واسعة
– ليست سوى مجرد حالة، من مدونة أكبر، هي مدونة بلد، وأربعة وعشرين مليون سوري، لم
ينج أحد منهم من شرور النظام، حتى بالنسبة إلى هؤلاء الذين تطوعوا في الذود عنه، إذ
أنهم يدفعون الآن، ثمن قربهم الافتراضي أو الواقعي من بؤرته، أو هؤلاء الذين لم
يكونوا راضين في قراراتهم عنه، لهذا السبب أو ذاك، فوجدوا أنفسهم – على حين
انزلاقةٍ – في أحضانه، أو تحديداً مجرد وقود مجاني للذود عنه.
في حياتي الشخصية
– كما ملايين السوريين – الكثير من صور القهر العظمى التي رأيتها بأم عيني، بل
عانيتها، لا سيما أنني ولدت في بيئة كردية، مهمَّشة من قبل نظام، لا يرى في
مناطقها إلا مجرد بقرة حلوب، يمضي مردود نفطها إلى جيوبه – الآمنة – ويحضرني هنا ما
أجاب به حافظ الأسد ذات يوم على الراحل خالد بكداش، عندما سأله: أين يذهب ريع النفط
السوري؟ قائلاً: إنه في أيد أمينة، وتبين لنا، عندما كبرنا أن ريع النفط السوري لم
يكن يدرج في حسابات موازنة البلاد – وما دمت أتحدث هنا – ولو استرسالاً – عن النفط
الذي اكتشف في سوريا، لأول مرة في منطقة “الرميلان”، فإن خوضي لأول مسابقة وظيفية
على أمل العمل في هذه الحقول، في نهاية سبعينيات القرن الماضي، كان صاعقة بالنسبة
إلي، حيث لم أقبل فيها، وكان أكثر الموظفين المقبولين، من أبناء المحافظات السورية
الأخرى، بينما كانت آبار النفط تلوث منطقة الجزيرة، برمتها، ما أدى إلى انتشار
الأوبئة والأمراض، في هذا المكان، وعلى رأس قائمتها: صنوف أمراض السرطان والكبد
إلخ، بل أن أكثر من بئر نفطي يتغذى من أعماق قطعة أرض لنا، صارت في أيدي الغرباء،
داخل سوريا – اليوم – وخارجها، أي في ما يسمى بـ”تركيا”، من دون أن يكون لأسرتي
منها مجرد دونم ملكية واحد، أو حتى شبر واحد من الهكتارات الكثيرة التي نمتلك
“سنداتها” “كمبيالاتها” العثمانية!


تجزيء المكابدات

يخطر
لي، وأنا أحاول تشكيل مداخل إلى معاناتي الشخصية على أيدي أجهزة أمن النظام السوري،
وعيونهم من كتبة التقارير، من خلال تبويب بعض المحطات الشخصية البارزة، في هذه
المعاناة، أن أي تفكيك لهذه المعاناة، أشبه بمحاولة تفريغ سماء كاملة على طاولة
مجردة، وأنه تواطؤ ضد ألم مكثف، ومحاولة للتآمر عليه، باعتبار أن ألم المعاناة على
أيدي السلطة، كأقوى أداة تعذيب نفسي، لا يمكن تفكيكه إلى عناصره الأولية، لأنه حالة
لا يمكن مقاربتها – فعلياً – بغية التنطع لتوصيفها – كما يخيل إلي – إلا عبر عمل
إبداعي، ورغم ذلك، فإنني لم أجد بداً من هذه المداخل التي كلما أوردت واحدة منها،
انفتحت، في وجهي، غيرها، في دوامة تكاد لا تنتهي.


مدخل
أول:


حوارات 1987

– أثناء إبعادي عن التعليم
الثانوي قلت لموجه اللغة العربية المباشر، وكان اسمه: رشيد الذيب: لم فعلتم بي
ذلك؟
قال: “لقد قرأت في جريدة تشرين ما كتبته أنت وفلان عن النوروز! “
وكنت
كتبت في نص أدبي كلمة نوروز على نحو عابر فحسب
– نائب مدير التربية وأتصور أن
اسمه “مطانيوس خوري – أبو رامي” قلت له عندما راجعته بعد إبعادي عن التعليم الثانوي
1987: يبدو هناك تقرير كيدي ضدي، رد علي بعفوية: “يا رجل، ليس تقريراً واحداً بل
هناك ثمانون تقريراً كتب ضدك”
– مدير التربية عبدالقادر خلف البرخو استكثر علي
أن أقول له أثناء نزوله عبر “درج” دائرته: “يفترض أن تقفوا إلى جانبي” فرد: “كيف
تقول – أنت – لنا “يفترض” عليكم…” فكان لي ردي المناسب عليه.
– نقابة المعلمين
طلبت مني أن أتقدم لها بكتاب، أشرح لها ما حدث معي، كي تقف إلى جانبي، ولا أزال
بانتظار الرد.
– اتحاد الصحفيين الذي كنت عضواً فيه لم يبال بالأمر.
– عن
طريق ممثل الحزب الشيوعي السوري في الإدارة المحلية – نوري فرحان – التقينا أمين
فرع الحسكة، فتبين لي أنه على إطلاع بما جرى لي، وكان من جملة ردوده: “أنت تقول وجه
حبيبتي خريطة. لم لا تقول وجه حبيبتي وردة؟ أنت تقصد كردستان”، قلت له وكان عدد من
رجال الدين المسيحي جالسين في مكتبه:
“إن صرتَ شاعراً، فاكتب ذلك، أما أنا فأكتب
ما أريد” وانصرفنا من مكتبه… أنا ورفيقي الحزبي.
نائب وزير التربية رد علي حين
شرحت ما تعرضت له: اشك لي أبك لك.


مدخل ثان: 


حوارات 2006

بعد قرار نقلي إلى تربسبي راجعت
اتحاد الكتاب العرب الذي كان يرأسه حسين جمعة، شرحت له ما حدث لي، فقال: “إن كان
الأمر بسبب نقدك للنظام، فأنا أيضاً ضدك”!


لا لحافظ
الأسد!

لا تزال صورة أبي ماثلة في عيني، وهو يعد حقيبة ملابسه على جناح
السرعة، ليحتل مقعداً في باص قريتنا “تل أفندي” متوجهاً إلى عامودا، ليذهب من هناك
إلى بلدة “تل معروف” – بلدة المشايخ الخزنويين – وليغيب في اليوم التالي، عن القرية
في فترة انتخابات حافظ الأسد، ويتملص من الإدلاء بصوته. وحدث أننا صحونا في صباح
اليوم التالي، لنجد “باصاً” مزيناً بالأعلام، يرافقه بعض الذين سمعت عن طريقهم –
الهتافات – لأول مرة، في قرية ظلت نظيفة من هذه المظاهر، قد أرسل من مخفر تل بيدر –
المركز الانتخابي – لجلب أهل القرية للإدلاء بأصواتهم لانتخاب الرئيس.
بعد
أسبوعين، أو أكثر، عندما عاد أبي، سألته – وكنت في الصف الثالث أو الرابع الابتدائي
– بروحي الطفلة، المشاغبة، الثرثارة: “بابا كيف أصبح حافظ الأسد رئيساً؟ حيث صار
اسمه يردد على كل الشفاه” وواصلت أسئلتي: “هل لأنه كبير في السن، أم لأن عقله
كبير؟” فرد علي: “أنا أكبر منه سناً، وهو رجل عادي كأي شخص”. موقف أبي ذاك، أو
حكايته تلك، وهاتان العبارتان وسواهما من المواقف المماثلة ظلت راسخة في مخيلتي،
كلما رحت أفكر بكيفية “تشكل السلطة” بل صارت مفتاحاً أولياً من قبلي لفهم آلية
الاستبداد الذي أكرس نفسي لمناوأته، وفق فهمي، ومقدراتي، وتبعاً لأدوات كل
مرحلة.

يتبع …..

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…