كيف يعدم الكردي ذاته – الجزء الأول

د. محمود عباس   
 نزعة
الانتحار ولدت مع الإنسان، معظم الحالات تسبقها انهيار الإرادة، ونشفان الثقة
بالذات وبالمحاط، وبقادمهم، فيطمحون نحو هجرة إلى الخلود الروحي أو الصمت الأبدي.
الكرد في غربي كردستان أمام حالة مشابهة، لضمور الإرادة وجفاف الثقة، والمؤدية إلى
بروز الكوارث الديمغرافية والثقافية والسياسية، وتكاد تشمل كلية المجتمع الكردي في
غربه وبدأت في جنوبه، أو بشكل أدق جغرافيا، (كما يصر عليه أحد الإخوة المثقفين
الكرد في الداخل) جنوبيه الشرقي والغربي، في السنوات القليلة الماضية، وفي مقدمتها
انعدام ثقتهم بحركتهم السياسية، والقوى الصديقة المدعية بالتحالف معهم، وتتفاقم
عندما يلاحظ الشعب لامبالاتهم بالكوارث الجارية وتركيزهم على توسيع سيادتهم
وخلافاتهم الحزبية:
أول الكوارث الناتجة عن تدهور الثقة بين الشعب، وهي أبشعها،
النزوح الجماعي عن الوطن، المتجاوزة شريحة المثقفين أو الطلبة أو الشباب الطامح،
ليعدي في البداية جيل كامل من الشباب، ويتفاقم إلى حيث العامة من الناس، ويكاد أن
يبلغ حد هدم البنية التحتية لديمغرافية المنطقة، فيما إذا لم يكن قد بلغتها بعد.
فما الذي أدى إلى تفاقم الهجرة إلى الحدود الكارثية، والتي لم تتمكن جميع السلطات
الشمولية من الناصرية والبعث إلى حافظ الأسد وأبنه بشار، ورغم جميع عمليات التعريب،
والتهجير القسري للعديد من القرى وغيرها من العوامل التي افتعلتها، لخلق ما يجري
حاضراً.
   المؤامرة هي لتقزيم القضية الكردية، بعد تصاعد حضوره كشعب يصارع
الإرهاب عن العالم في المحافل الدولية، والمؤدية إلى طرح قضيته على طاولة
المباحثات، بوجود ممثلهم أو غيابهم. فكان لا بد للقوى الإقليمية المعادية من خلق
مشاكل تلهي الشعب الكردي وحركته على التركيز. فأظهروا العوامل المؤدية إلى قتل
الثقة بين الشعب الكردي بحركته وذاته وبمستقبله. ووجهوا الناس إلى دروب الخلاص
بالنزوح من الوطن، وأوجدوا لكل شريحة نازحة عاملها الأقوى.
 خلقت عوامل متنوعة
متداخلة لخلق الجاري، منها عدم الإيمان بالقوى السياسية الكردية والكردستانية
المتنافرة، والرهبة من قادم كردستان، وعدم قدرة القوى الكردستانية على وقف القوى
التكفيرية المحيطة بالمنطقة، وتبينت من خلال التركيز على عدم دعم القوى العسكرية
الكردية بالأسلحة الثقيلة والمناسبة أو إرسالها عن طريق طرف ثالث. وظهور الفساد بين
القوى الكردية المتحكمة بالأمور الإدارية، وعدم قدرتهم على تأمين السبل المعيشية
الملائمة، في وطن لا يتمكن رب العائلة تأمين أبسط مقومات الحياة لأطفاله، ففاقمت
هنا السلطة الرابعة المغرضة من عامل الدعاية لأرض الحضارة والرفاهية. إلى جانب
عوامل أخرى بسيطة للبعض ولكنها لأخرين رئيسية، ومنها حالة الحاجة والعوز، الفقر،
والتي تقتل بشكل أو آخر الإيمان بالوطن والأمة.
وجميعها تؤدي إلى انتشار مرض عدم
الثقة بين الشعب، من المستقبل، واحتمالية ظهور الأشرار في أية لحظة، ومن مسببات
المعاناة والمآسي المتزايدة، في الشارع والدار، إلى أن ظهرت جملة من التناقضات بين
المجتمع، بين التمسك بالأرض، أو ركوب الأهوال نحو المهجر. رغم مخاطر دروبها،
والصعوبات التي ترافقهم، ورغم تكالب الأخبار والمعلومات المرسلة يوميا، من المهجر،
حول مصاعب الحياة، والأوضاع المزرية في الحاضنات السكنية، تظل فكرة النزوح وترك
الوطن طاغية، ووباء عدم الثقة مستفحلاً.
قوتان وراء تغذية انعدام الثقة بين
الشعب الكردي: 
1.    خارجية، القوى الإقليمية تحركت لتثبيتها، وأوصلتها إلى ما
هي عليه الأن. بدءً من سلطة بشار الأسد، عن طريق مربعاتها الأمنية، وأدواتها،
ساندتها الدول المستعمرة لكردستان، التي سخرت المنظمات التكفيرية الإسلامية كداعش
والنصرة، وبعض قوى المعارضة العروبية الإسلامية.
2.    داخلية، أغلبية الأحزاب
الكردية والكردستانية، التي انقسمت على بعضها، تحت أجندات خارجية، وضغوطات إقليمية،
وخاصة المسيطرة منها، والمستمرة في صراعاتها رغم الظروف الملائمة نسبيا لتقليص
الهوة. 
يمكن للفرد وضع تبرير للقوى الخارجية، لأنها تعمل لمصالحها القومية،
وتضمن وجودها من خلال ألغاء الأخر، لكن تبرير القوى الداخلية لا يمكن إلا من خلال
حالتين: إما الجهل بالجاري، وبقادم كردستان، أو تيههم بين الأخطاء التي أحيانا تفرض
عليهم السقوط فيها، بخبث المحرض. والتبريران لا يقلان من الكارثة ذاتها، وهما
نابعان من السلطات الشمولية ومربعاتها الأمنية. وفي الحالتين، منصات محاكم الشعب
ستعرض يوما ما، من خلال الويلات التي يلحقونها بهم، والقادم الكارثي الذي يندلق
إليه الشعب الكردي وقضيته، ومصير جغرافيته وديمغرافيته السكنية. وأول ما يكون
محكوما هي تلك القوى الكردية التي تؤمن بالسيطرة الحزبية الذاتية، كقوة وحيدة في
المسيرة، وتلغي الأخرين، وترى النصيحة أو النقد خيانة بالجاري. 
 حدثت هجرات على
مر التاريخ، فردية وجماعية، لها عواملها، معظمها بيئية، لكن ما يجري في كردستان من
نزوج جماعي ومن كل الطبقات والشرائح، ليس بعامل طبيعي، بل مفتعل، ورائها مؤامرة
إقليمية، وبخطط مدروسة، غذتها ونمتها قيادات كردية لم ترى أبعد من إطار الصراعات
الحزبية، ولم تأبه بما يفرض عليهم من إملاءات، ومعظمهم، طبقوا بجهل أو دونه مخططات
السلطات الشمولية، خاصة عملية ترهيب المجتمع.
   فعندما يريد طاغية أو دكتاتور،
أو منظمة شمولية السيطرة على الشعب، يستخدم  أبسط الطرق وابشعها، وهي ترويع الشعب
من خطر خارجي قادم، يهدد سلامتهم و حياتهم وسلامة الوطن، ونشر دعاية بأن سلامة
الأمة والوطن على المحك، وبالمقابل، إما ستقوم السلطات بخلق تلك القوة الشريرة في
المحيط أو سيغذيها إن كانت موجودة، ويوصلها إلى الواقع العملي، بها سيؤمن تبعية
الشعب وراء القيادة المنقذة، وسيستمر في تحفيز الشعور الوطني، والبشاعة، أن معظم
هؤلاء، إن كانوا قادة أو منظمات، سلطات شمولية أو أحزاب متسلطة، يروجون الكذبة على
الذات ويصدقونها، قبل أن يروجوها على الشعب، والشراكة في الدفاع معدومة في منطقهم،
فلا يرون إلا ذاتهم أصحاب القضية، والنقاد أو المعارضون خونة في أحكامهم. وهذه
جدلية مرت بها معظم الدول الدكتاتورية في التاريخ، والطغاة، وهي خطة تناسب الجميع
وتتلاءم وكل الأزمنة.
جل هم المواطن العادي الأمان والاستقرار، والحماية
الجماعية مثل الحالة الجارية تصبح من ضرورات المرحلة، فبغيابها تنعدم الثقة بين
الناس، وسيكون من السهل خلع المواطن جذوره، ليبحث عن آمان في الأبعاد، وهنا يكون
دور القوتين متنوعا.
 الأول، السلطات الشمولية، يخلق وباستمرار مخططات لتحفز
وتفاقم من عملية عدم الثقة، ومعها ستؤمن وتسهل طرق الهجرة، بل وكثيرا ما ستقوم
بتكليف منظمات لها، ولا شك تجار الحروب لهم حضور في مثل هذه الظروف، فكلما تزايدت
أعداد المهاجرين ونسبة الضحايا تزايدت أسعارهم وأرباحهم. 
والثاني، الحركة
الكردية أو الكردستانية، حتى وعندما تحس بخطئها، ستبقى متمسكة بآرائها، ولن تعترف
بأخطائها، إلا ما ندر، بل وستصر على منطقها، فتضطر إلى المواجهة، بتكثيف التهم
للمعارضين إلى حد التخوين، والإصرار على أن الأمة والوطن مهددتان كيانهما ويجب
تكثيف الجهود بالدفاع عنهما، علما أنهما ينخران من الداخل، والبنية التحتية
تتهدم…
    

يتبع…

د.
محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

10-
25 -2015

نشرت في بينوسا نو العدد(42) الناطقة باسم رابطة
الكتاب والصحفيين الكرد في سوريا.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…