رحيل عمّي الذي هو أبي الآخر: مفارقات الموت الكردي

 ابراهيم محمود

اليوم مساء، قرابة الساعة التاسعة عزّيت
أخي وصديقي ابراهيم يوسف بوفاة ابن عمه وصهره الشيخ عبدالله شيخ عبدالقادر يوسف إثر
نوبة دماغية صباح يوم الخميس” 24 أيلول 2015 “، في مشفى مدياد، وبعد ساعة فجِعنا
“أنا وزوجتي والأولاد” برحيل عمي الذي هو أبي، أعني به “حموي” محمد صالح خلف عثمان
“، إثر نوبة قلبية في أحد مشافي قامشلو.. ونحن في دهوك.. ما أقرب المسافة، وما
أوغلها في اللاتناهي وصولاً.. يظهر أننا نعيش ميتات جديدة، وربما سنشهد ميتات أكثر
ضراوة جرّاء انفجار المكان، والتشظي الكردي..
وجدتني أكتب هذه الكلمات في رجل في منتهى العادية، سوى أنه وطوال علاقاتنا على مدى
عقود زمنية، كان أكثر عمقاً من كثيرين ممن يدّعون الثقافة والسياسة.. وجدتني
مأهولاً بهول صدمة صحبة عائلة وهي تبكي أباها الذي لم تره منذ سنتين ونصف، وكل يوم
كانت تزداد شوقاً إليه وإلى أمها وأخوتها وأخواتها، ولكن الوصول من هنا إلى هناك،
لا يقاس بالساعات، إنما بالتوترات، حيث المكان الكردي مثقَل ببصمات تترى: الهجرة،
اللجوء، الغربة، القرب البعيد، والبعد القريب، والموت يؤدي أدواره، ليكون للكردي
على وقْع الفاجعة السورية قاطبة، ولو بتفاوت ما، هذا الشهود عيان لموت يعزّز مواقعه
في مقابر مستحدثة، أو متناثرة في أمكنة أو جهات لم تكن في الحسبان.
هكذا، ربما،
يخيم على أنفاسنا موت له طابع وطني رغم أننا لم نبلغ سن رشد الوطن، وموت له طابع
قومي، وإن كنا دون بلوغ نصاب القومي فينا، وموت يعم أمكنة داخل الجغرافيا الكردية
وخارجها، رغم أننا ما زلنا دون التأهيل الجغرافي الواحد الموحد، ليكون لموتنا طعم
آخر، وعنف آخر، من الكردية المفعّلة هنا وهناك، وفي مناخ كردي، وجهات لم تحقق لم
الشمل الكردي رغم أنها تحمل دمغة الكردية بامتياز، سوى أنها دمغات تفتت في
الجهات..
أقولها وبي وجع روحي من هذا الانشطار الكردي، إذ يصعب قطع المسافة التي
لا تتطلب سوى ساعات محدودة، وفي حالات من هذا النوع، حالات مآس، إنها المسافة
الملغومة، وللألغام الكردية الكردية هيئات خاصة بالكرد الذين يشددون على كرديتهم
موحدة، لكن شهادة الألغام التي تتقاسم الكلمات والكتابات والإعلامات الكردية تقول
شيئاً آخر تماماً.
أقولها متوجعاً، منزوع الحيلة والوسيلة، إذ يمثل أمامي طيف
هذا الإنسان الدقيق كضوء نقي، الخصب الروح كنبع ضحوك بتدفقه، طيف عمي الذي هو أبي
الآخر، وزوجتي تبكي أباها وحولها أولادها يبكون وهم يخشون من وقع موت آخر ينال منها
جرّاء وضعها الصحي، تمثل أمامي أطياف الأحبة وهم يعيشون فاجعة أحبتهم من الأخوة
والأخوات، من الأهل والأصحاب، في غربة غير مسبوقة، وهجرة غير مسبوقة، ومكابدة
تصدعات روح غير مسبوقة، ومعايشة زمن ثقيل الوطء غير مسبوقة، أقولها مراراً عما أنا/
نحن عليه ، من هذا التفعيل غير المسبوق كردياً، حيث يصعب علينا البكاء بالقرب من
موتانا كنوع من الوداع الأخير، يصعب الوقوف بخشوع أهلي بجوار مقرهم الأخير، إذ
يموتون قهراً، إذ يموتون، وما كان لهم أن يموتوا لولا هذا الاستثناء الكردي في
استحداث ميتات كردية، ما كان لها أن تحدث، إلا لأن إرادة كردية ” سامية ” تقاسمت
جهات كردية بأسماء تعنيها، ومنحت الموت حق حصاد المزيد من الأرواح الكردية، كما لو
أن الكرد المعنيين بالجاري لديهم ولع خاص بالتمايز عن الجوار بصدد ميتات من هذا
النوع، إذ يصبح الكردي محكوماً بالكردي، ليموت موتاً يسجَّل بعلامة كردية خاصة،
يعلَم بها ” الغريب ” ومن يجاور الكردي..
أقولها بتفجع، وأنا في حسرة ساعات عدة
تحول دون رؤية عمي الذي هو أبي وهو في رحيله الأخير قبل مواراته الثرى، وخلّل
الدموع وحشرجة البكاء تنظر إلي زوجتي ويتابع أولادها من حولها نظرتها المفجوعة
برحيل أبيها، كما لو أنها تكشف عن ضعفي الكامل، أعني عجزي، لأنني لا أستطيع “تأمين”
المسافة القصيرة/ الطويلة لتودع أباها الذي لم تره قبل سنتين ونصف.. يا لعار الموت
الكردي ..!
دهوك ، الساعة الثانية من فجر الجمعة في 25 أيلول 2015 .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…