السّلوك الإيراني بين الحقائق والنّوايا

صبري رسول

سيشهد الشرق الأوسط علاقات إقليمية ودولية
جديدة بعد الاتفاق النووي بين إيران سليلة الصفويين والساسانيين، والدول الكبرى
(1+5) ذلك الاتفاق الذي وصفه بعضهم بـ«التاريخي» ووصفه آخرون بـ«الخطأ التاريخي»
كلّ من منظاره الخاص.
الاتفاق «التاريخي» الذي أبرمَتْه إيران مع الدول الكبرى
السّت أراده أوباما نقطة تحوُّلٍ في صياغة أزمات المنطقة، ونصراً كبيراً له قبل
انتهاء ولايته. فصرَفَ طاقةَ إدارته القصوى ونفوذَها لدى القوى الحليفة له لإنجازه،
متغاضياً النّظر عن مصالح حلفائه العرب، الذين وقفوا متفرّجين حائرين.
فمن جهة تقليص نفوذ إيران النووي، وإيقاف سعيه إلى امتلاك القنبلة النووية، يُعَدُّ
الاتّفاق أمراً هاماً ومفيداً للعرب، ومن جهة أخرى سيدرُّ الاتّفاقُ أمولاً هائلة
على إيران (مايزيد عن مئة مليون دولار) مما يمكّنُها من مدّ أدواتها في المنطقة
العربية بالمال والسّلاح، وإكمال استلابها للإرادة العربية التي أصبحت رهينةَ
التشتُّت والتّمزُّق. فمثلثُ القوة العربية مكسورٌ بعد خروج العراق وسوريا واليمن
من المعادلة السياسية، وبعض الدول العربية الأخرى منشغلة بإرثٍ ثقيل بعد إسقاط
أنظمتها القمعية (تونس وليبيا). ولم يعد بإمكان السعودية ومصر الركيزتان الأساسيتان
لمثلّث القوة من مواجهة التمدّد الإيراني بمفردهما، خاصة بعد الاتفاق النّووي الذي
سيجعل من إيران ليست دولة مهمة في الإقليم، بل «الدولة المهمة فيه» حسب تصريحات
صقورها المتشددين. 
يعرف السّيد أوباما أن حلّ قضايا المنطقة المستعصية يستغرقُ
وقتاً أطول من فترة بقائه في سدّة الحكم، فتركَ شعوبَ المنطقة تواجهُ مصيرَها
وحدها، وألقى بثقل الولايات المتحدة للاهتمام بالملف النووي الإيراني ومعها الدول
الكبرى، تاركة المنطقة على صفيحٍ ساخن، وأزماتُها تتعمّقُ بعد ركوب القوى المتشددة
والمتطرفة ثوراتها الشعبية، وحرفها من مساراتها.
يساور القلقُ دول المنطقة
(الخليج خاصة) بأنّ الاتفاق قد تُوِّج على حساب قضاياها الشائكة، بعكس منظور
الولايات المتحدة التي تأمل في وضع إيران تحت مظلة المراقبة، وتغيير سلوكها. فإيران
ورغم مشاكلها الداخلية، وصعوباتها الاقتصادية لم تتوقَّفْ عند حدودها يوماً، فلم
تتوانَ في تصدير ثورتها الطائفية، وتسويقها، لضرب الاستقرار العربي والسيطرة على
دولها المتشاطئة معها طائفياً، تقودها في ذلك شهوتها في بناء إمبراطوريتها، وتقسيم
ممالك الشرق بينها وبين الغرب، وتصريحات على خامنئي الأخيرة تؤكّد أنّ ((إيران لن
تعطّل مبادئ الثورة)) مما يدلّ إلى أنّ تصديرها لن تتوقّف.
يلاحظ المراقب أنّ
الحوار الماراثوني سرق الأضواء عن النزاعات والحروب التي اجتاحت المنطقة العربية،
فانشغل به الإعلامُ المحليّ والدوليّ، وكانت إيران تنفِّذُ مشاريعَها العسكرية على
الأرض دون كلل.
الاتفاق «التّاريخي» الذي أبرمته إيران مع القوى الدولية (5+1)
هو الأفق المفتوح لها، ستخرج من خلاله من النّفق الطّويل، الاتفاقُ أنقذَ إيران من
تورّطها في قضايا المنطقة، ويُنقذُ اقتصادها المتعثر، فاتحاً أمامها الفرصة لتلعب
دوراً أكثر خطورة على مصالح شعوب المنطقة، وفي الوقت نفسه تبقى هواجس دول الخليج
العربي قائمة من تمدّد نفوذ إيران رغم تأكيدات باراك أوباما في الحفاظ أمن المنطقة
وتعزيز علاقات بلاده مع دول الخليج أثناء لقائه مع عادل جبير وزير خارجية السعودية
17/7/2015م.
ستبقى الأشهرُ القادمة اختباراً لمعرفة نواياها ومواقفها من قضايا
تؤرّقُ العرب، وتضعُ مصيرهم الوجودي على المحك، ستكون الحقائق هي المعيار في تغيير
السّلوك وليس النّوايا التي تتبجّحُ بها حفيدة الإمبراطورية
الساسانية.

نقلاً عن أورينت نيوز

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

سعيد عابد* في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني ألقى المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي خطاباً أمام مجلس الخبراء، مؤكداً على الدور الحاسم الذي تلعبه هذه الهيئة في اختيار “المرشد المقبل”. وأعرب عن شكره لاستعدادهم، وحثهم على اليقظة في أداء هذا الواجب الذي وصفه بأنه ضروري لضمان استمرارية النظام ومنع انحرافه. ويعتبر المجلس، الذي أنشأه مؤسس النظام روح الله الخميني،…

صدرت للكاتب والباحث د. محمود عباس مؤخراً ثلاثة كتب جديدة، وبطباعة فاخرة، ضمن سلسلة مخطوطاته التي تتجاوز الأربعين كتابًا، متناولةً القضايا الكوردية من مختلف جوانبها: النضال السياسي، والمواجهة مع الإرهاب، والتمسك بالهوية الثقافية. تُعدّ هذه الإصدارات شهادة حيّة على مسيرة د. عباس، الذي يكتب منذ أكثر من ربع قرن بشكل شبه يومي، بثلاث لغات: العربية، الكردية، والإنجليزية. إصدارات الدكتور محمود…

اكرم حسين تستند الشعبوية في خطابها على المشاعر والعواطف الجماهيرية، بدلًا من العقلانية والتخطيط، حيث أصبحت ظاهرة منتشرة في الحالة الكردية السورية، وتتجلى في الخطاب السياسي الذي يفضل دغدغة المشاعر الجماهيرية واستخدام شعارات براقة، ووعود كاذبة بتحقيق طموحات غير واقعية، بدلاً من تقديم برامج عملية لحل المشكلات المستعصية التي تعاني منها المناطق الكردية. إن تفاقم الاوضاع الاقتصادية وانتشار الفقروالبطالة، يدفع…

خالد حسو عفرين وريفها، تلك البقعة التي كانت دائمًا قلب كوردستان النابض، هي اليوم جرحٌ عميق ينزف، لكنها ستبقى شاهدة على تاريخٍ لا يُنسى. لا نقول “عفرين أولاً” عبثًا اليوم، بل لأن ما حدث لها، وما يزال يحدث، يضعها في مقدمة الذاكرة الكوردية. لماذا عفرين الآن؟ لأن عفرين ليست مجرد مدينة؛ هي الرئة التي تتنفس بها كوردستان، والعروس التي تتوج…