إيران وتفكيك المجتمعات العربية

صبري
رسول

الأنظمة الاستبدادية
التي حكمت البلاد ورقاب العباد، منذ عقودٍ طويلة، نجحت في ترسيخ الطّائفية والفئوية
في بنية المجتمع، وتحت شعاراتٍ سياسية برّاقة، وجعلها سلوكاً في نظام الحكم، على
حساب قِيم الوطنية وإن كان تحت شعاراتها، فاستغلّ النّظام الإيراني خلخلة المجتمع
العربي فتغلغل فيه بقوة. 
كان همُّ الأنظمة الشّمولية الاستحواذ على اقتصاد
البلاد، وتطويع رقاب أفراد المجتمع، والحكم على النّاس بقبضةٍ من حديدٍ، فسخّر كلّ
ما لديها من قوة ونفوذ لترسيخ الطائفية، وجعلها سلوكاً وثقافة يومية، بالاعتماد على
أجهزة أمنية تغوَّلت بشكلٍ مُرعِب، تحميها حصانةٌ مطلقة لاتطالُها المحاكمات مهما
ارتكبت أفعالاً شائنة، حتى أصبح النّسيج الاجتماعي منشطراً وقابلاً للتّشظّي
والانفجار في أي لحظة،
 ونظام ولاية الفقيه في إيران لم يتوانَ في التّغلغل عميقاً في بنية المجتمعات
العربية، ونشر أفكاره ودعم مؤيديه، منذ بداية التّسعينات، مستغلاً فئة الشباب
وعزلتها الاجتماعية والبطالة المتفشية بينها كحصان طروادة، لتسهيل التّحكم بها
مستقبلاً، وبات يُراقب الوضع عن كثب، للدّخول إلى السّاحة عند حدوث أي قلاقل أو
مشاكل داخلية، من اجتماعية وسياسية. 
وضعَت إيران مشروعها السّياسي الدّيني هذا
على نارٍ هادئة، لتستوي بعد عقدين من الزمن. فالتوسّع الشّيعي القوي والسّريع
والعابر للقوميات والخرائط الجغرافية والسياسية، والخارق لأسوار الحكومات، ولحصون
استخباراتها. تسعى إيران إلى تقوية نفوذها نتيجة طموحاتها في التوسّع. والسّيطرة
على قراراتٍ سياسية تشكّلُ هدفاً لملالي طهران في سعيٍّ إلى امتلاك قوى وأوراق قد
تحرّكها عند الحاجة، وشكّل هاجساً للعرب. 
  حيثُ تعتمد إيران على وجود هذه
الطّائفة لدى مختلف القوميات في الشّرق الأوسط، العرب، والترك، والكرد، فيسعى إلى
جعلها نقاطَ ارتكازٍ لتغلغلها في النّسيج الاجتماعي لتلك القوميات، وطلائع متقدمة
لضرب الاستقرار السياسي عند الحاجة. 
المفاهيم المذهبية المشتركة، والمتقاربة أو
المتقاطعة مع ولاية الفقيه يستغلّها النّظام الطّائفي في إيران للاستفادة من
الطّاقات البشرية في العالم العربي، والاعتماد عليها لتحقيق أهدافها، فقد أباح قائد
ثورة إيران الإسلامية آية الله الخميني هتك المسلمين من أهل السّنة في كتابه
(المكاسب المحرمة): ((إن أهل السنة و الزيدية والإسماعيلية ليسوا إخوان للاثني
عشرية، يجوز لعنهم وغيبتهم وهتكهم))الجزء الأول  صـ251
ومن أبرز الطوائف التي
اعتمدت عليها إيران في العالم العربي، تلك المتقاربة معها عقائدياً، كالشّيعة في
العراق ولبنان، والعلويين في سوريا، والحوثيين في اليمن اتّخذتها أدواتٍ تستعملها
للدخول إلى المجتمعات العربية، وبدأتْ تتجذّر في نسيجها الاجتماعي، لخلقِ أرضيةٍ
ملائمة لنشر ثقافتها الطائفية. 
خلال أمَدِ الأزمات التي عصفت بالمجتمعات
العربية تحت تأثير الربيع العربي لم تختلف إيران مع روسيا لتشابك مواقفهما وحرصهما
على بقاء تلك الأنظمة حفاظاً على مصالهما، لكن التطورات الميدانية الأخيرة الناتجة
عن عاصفة الحزم 26/3/2015م ضدّ الانقلاب الحوثي وبقايا نظام علي عبدالله الصالح
غيّرت منهج التعامل مع النظام الإيراني وتابعيها في المنطقة العربية، وكذلك
الاتفاقيات الأخيرة بين السعودية وروسيا (في مجالات الطاقة والإسكان والفضاء إضافة
إلى اتفاقات عسكرية) قد تفتح آفاقاً جديدة في العلاقات بين دول الخليج وروسيا،
تُدخل الطمأنينة والدفء إلى الثورات العربية، وتوقف نزيفها الأليم، وتدفع الدّب
الأبيض الرّوسي إلى إعادة قراءتها لعلاقاتها مع أنظمة الحكم.
وهذه التطورات قد
تضع حدّاً للنفوذ الإيراني وتخلقُ توازناتٍ جديدة سياسية وعسكرية، تُصيغ المشهد
السياسي الجديد خلال الأشهر القادمة.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

كفاح محمود حينما كان الرئيس الراحل عبد السلام عارف يُنعى في أرجاء العراق منتصف ستينيات القرن الماضي، أُقيمت في بلدتي النائية عن بغداد مجالسُ عزاءٍ رسمية، شارك فيها الوجهاء ورجال الدين ورؤساء العشائر، في مشهدٍ يغلب عليه طابع المجاملة والنفاق أكثر من الحزن الحقيقي، كان الناس يبكون “الرئيس المؤمن”، بينما كانت السلطة تستعدّ لتوريث “إيمانها” إلى رئيسٍ مؤمنٍ جديد! كنّا…

نظام مير محمدي *   عند النظر في الأوضاع الحالية الدائرة في إيران، فإن من أبرز ملامحها ترکيز ملفت للنظر في القمع المفرط الذي يقوم به النظام الإيراني مع حذر شديد وغير مسبوق في القيام بنشاطات وعمليات إرهابية خارج إيران، وهذا لا يعني إطلاقاً تخلي النظام عن الإرهاب، وإنما وبسبب من أوضاعه الصعبة وعزلته الدولية والخوف من النتائج التي قد…

خالد حسو تعود جذور الأزمة السورية في جوهرها إلى خللٍ بنيوي عميق في مفهوم الدولة كما تجلّى في الدستور السوري منذ تأسيسه، إذ لم يُبنَ على أساس عقدٍ اجتماعي جامع يعبّر عن إرادة جميع مكونات المجتمع، بل فُرض كإطار قانوني يعكس هيمنة هوية واحدة على حساب التنوع الديني والقومي والثقافي الذي ميّز سوريا تاريخيًا. فالعقد الاجتماعي الجامع هو التوافق الوطني…

تصريح صحفي يعرب “تيار مستقبل كردستان سوريا” عن إدانته واستنكاره الشديدين للعملية الإرهابية الجبانة التي استهدفت دورية مشتركة للقوات السورية والأمريكية بالقرب من مدينة تدمر، والتي أسفرت عن سقوط عدد من الضحايا بين قتلى وجرحى. إن هذا الفعل الإجرامي يستهدف زعزعة الأمن والاستقرار، ويؤكد على خطورة الإرهاب الذي يتهدد الجميع دون تمييز، مما يتطلب تكاتفاً دولياً جاداً لاستئصاله. كما يُعلن…