تركية ايران والحسابات الخاطئة

بقلم: الدكتور شمدين شمدين
argo-kk@maktoob.com

قم يا برهو بالله عليك قم
لما تركت أرارات هكذا خربة
هذه المقطوعة الغنائية الفلكلورية الحزينة ،تعود بتاريخها إلى العام 1930حين تحالفت الحكومتان التركية والإيرانية لقمع انتفاضة الجلاليين في كردستان إيران بقيادة برهو وفرزندة، وذلك بعد القضاء مباشرة على انتفاضة الأكراد في ارارات بقيادة إحسان نوري بك ،وفي هذه المقطوعة تتوضح صور التلاحم والتضامن بين أبناء كردستان كافة ،ويتضح أيضا مدى التنسيق والتعاون بين أعداء حرية الكرد ،واليوم ومع توارد الأنباء عن الحشود الهائلة للدولة التركية والإيرانية على حدود إقليم كردستان العراق

يعيد التاريخ نفسه، ولكن في هذه المرة الظروف ليست كما الأمس، فالواقع الدولي قد أصبح اكثرا انفتاحا على مطالب الشعوب بالحرية والديمقراطية ،كما إن الكرد حاليا أصبحوا أكثر قوة ومنعة وتضامنا، فالعراق اليوم يقوده رئيس كردي يتمتع بكل المصداقية والاحترام من  قبل جميع القوى والشخصيات العالمية، باعتباره أول رئيس منتخب للعراق الفيدرالي الديمقراطي الجديد ، إضافة إلى حصول كردستان العراق على فيدراليتها التي تشكل الحصانة الكبرى والسند الخلفي والأساسي لكل الأمة الكردية وهذا ما وضحه رئيس إقليم كردستان حينما أكد على حرمة التراب والحدود العراقي وحرمة الدم الكردي ، وهو نفس الموقف الذي تبناه الرئيس العراقي الفيدرالي .
تركية التي حشدت على الحدود ما يقارب الربع مليون عسكري والمتخوفة من الانجازات الكردية المتحققة على الصعيد العراقي والعالمي ، تمد يدها اليوم لتتحالف مع جارتها إيران ،والهدف المعلن لهذه التحركات والتحشدات هو بضع ألاف من المقاتلين الكرد المحتمين بكهوف وأخاديد الجبال، هربا من دول لا تعترف بأدنى حق لهم في العيش بكرامة وإنسانية على ترابهم الوطني والتكلم بلغتهم الأم ، هؤلاء المقاتلون الذين دأبوا على الإعلان عن وقف لإطلاق النار لمرات عديدة ، وذلك من اجل إفساح المجال أمام الجهود المبذولة لإقامة سلام دائم ،يستند إلى الاعتراف بالهوية القومية الشعب الكردي كجزء أصيل وتاريخي من كيان هذه الدول، ولكن الجواب الدائم الذي كان وما زال تتلقاه هذه الإعلانات والنداءات المطالبة بالسلام والتآخي هو فوهة البندقية والمزيد من إراقة الدماء من كلا الطرفين ، وهذا بالضبط ما بدا واضحا من تصدي الجند رمة التركية والإيرانية للمظاهرات الكردية العارمة التي شهدتها مؤخرات مناطق عدة في كردستان تركية وإيران حيث جوبه المتظاهرون العزل في آمد وشمدينلي وماكو  بسيل من الرصاص الحي، مما أدى إلى مقتل وجرح العشرات من المدنيين ، دون أي اعتبار لأعمار وأجناس هؤلاء  المتظاهرين حيث كان بينهم الأطفال والشيوخ والنساء ، بل وصل الحد برئيس الوزراء التركي إلى الإيعاز إلى قواته بقتل الأطفال والنساء الأبرياء .
وتركية التي لم تستطع بعد الخروج من تحت العباءة الكمالية والموروث الفكري العثماني ، والذي رسخ في ذهن وعقلية التركي بذور العنصرية والقومية الضيقة، حتى بات هذا التركي المسكين أداة تابعة لقادة الجيش والعسكر الباحثين عن مصالح ذاتية ورتب عسكرية ، دون أي اعتبار لمطالب الشعب التركي والكردي وطموحهما المشترك بالعيش سوية وبسلام على تراب الجمهورية التركية، التي ينبغي أن تكون ديمقراطية قولا وفعلا ،وان تترك والى الأبد المقولة التي تروج وتشاع بين أبناء الشعب ، والتي تربط سعادة المواطن الذي ينتمي إلى كيان الدولة التركية بكونه تركيا، فأنت تركي إذاً أنت سعيد، أما إن كنت كورديا أو شركسيا أو ارمنيا فالويل لك والتعاسة هي نصيبك، وهكذا هو الكردي في تركيا فإما أن يتنازل عن قوميته ويصبح تركيا خالصا حتى يفوز بجنة أتاتورك المزعومة ،أو يحرم من كل حقوقه الإنسانية ويصبح مواطنا من الدرجة العاشرة  ، وهذا هو حال الكرد في مختلف الدول التي تسيطر على الوطن الكردي ، وتركية الحالمة بالدخول إلى الاتحاد الأوربي والحائرة بين انتماءاتها المختلفة، فهي ليست بشرقية خالصة وليست بغربية خالصة، تطمح من جهة إلى اللحاق بركب الدول الديمقراطية وفي الوقت نفسه تجد صعوبة جمة في الالتزام والتطبيق الجاد لمعايير الالتحاق بهذه الدول، فإلى الآن مازالت تحرم الكرد والأقليات الأخرى من التكلم والتعبير عن أنفسهم بلغتهم الأم ،كما تمنع الأحزاب السياسية المعبرة عن طموحات وأراء هذه الأقليات والشعوب من العمل السياسي الحر والقانوني ، إضافة إلى الواقع الاقتصادي المتردي الذي تعانيه مختلف المناطق التي تتواجد فيها الشعوب و الأقليات الغير تركية،  والنظام التركي المسلوب من قبل العسكر يتخبط اليوم كثيراً،حتى غدا غير قادر على الرؤية ابعد من نظارات جنرالاته  وقادته العسكريين ،الذين يعتقدون إن مشكلتهم تكمن في بضع آلاف من المسلحين و إن القضاء عليهم ، سوف يؤذن بنهاية القضية الكردية في تركيا وهو اعتقاد خاطئ جدا، فكم من الثورات الكردية التي أخمدت وبوحشية كبيرة، وكم من الانتفاضات الكبرى التي قام بها الكرد في مختلف أجزاء كردستان، وكانت نتيجتها أعواد المشانق والسجون والنفي والتشريد والمجازر الجماعية،ولكن كل ذلك لم يلغي لا الطموح الكردي ولا الشعور القومي والتوق الكردي إلى الحرية والعيش المشترك مع مختلف شعوب المنطقة بحب وسلام وإخاء .
اليوم ومع تزايد الحشود التركية والإيرانية على جانبي الحدود بشكل كبير جداً ، والتي فاقت بعددها وعديدها ما خصصته الولايات المتحدة في حربها الأخيرة على العراق ، وهو ما يبعث الشك والريبة بنوايا الدولتين المتخوفتين من النجاح الكاسح الذي حققه الكرد في العراق ،وإظهارهم اليومي للمزيد من التعقل والانفتاح على الآخرين ،حتى باتوا مفتاح الحل لمعظم صعوبات ومشاكل الدولة العراقية ، ولا يمكن أن يتصور المرء هنا أن تحشد تركية نصف عدد قواتها من اجل ثلاثة آلاف مقاتل ، وفوق هذا العدد تتحالف مع إيران عدو أمريكا الأول والراعية للإرهاب حسب المنظور الأمريكي والغربي ، وهنا نتساءل عن مدى التحدي الذي يشكله هؤلاء المقاتلين لدولتين كبيرتين في الشرق الأوسط وهم الذين لا يملكون من وسائل القتال غير الأسلحة التقليدية البسيطة إضافة إلى شعور عظيم بعدالة قضيتهم واستعداد دائم لبذل الدم والمال للوصول بهذه القضية إلى بر الحرية والسلام ، هل السبب وراء هذه الحشود هو التحدي الكردي أم هروب للدولتين من استحقاقات قادمة،  فتركية المطالبة بتحقيق معايير الانضمام إلى الاتحاد الأوربي ،والمطالبة في الوقت نفسه بالمشاركة في جهود أمريكا الرامية إلى القضاء على التهديد الإيراني المتوقع ،ولا سيما بعد النجاحات التي حققتها إيران في برنامجها النووي ، الذي بات يشكل لإيران نفسها وللعالم اجمع تهديدا ربما يؤدي إلى إشعال المنطقة برمتها بنيران حروب جديدة ، ومن هنا يبرز هذا التحالف التركي الإيراني للهروب إلى الأمام ، في حملة مشتركة للقضاء على المجموعة الكردية المسلحة في جبال قنديل وحاجي عمران، هذا التحالف الذي يشكل رداً تركيا غير مناسب لطلب أمريكي بالتعاون ضد إيران ، وهي بذلك كمن يرد على طلب العون بكسر يد المستجير ،وهنا تكرر تركية نفس الخطأ الذي ارتكبته في رفضها التعاون مع الولايات المتحدة في حربها لإسقاط نظام صدام حسين ، هذا الخطأ الذي اثر سلبيا على علاقات تركية وتحالفها مع الدولة العظمى في العالم، والذي استطاع الكرد في العراق وبحنكة بالغة ، أن يشغلوا ويملئوا هذه المكانة وأصبحوا حلفاء أساسيين لأمريكا والغرب عموما ، فهل تستمر تركية وإيران بهذه العقلية المبنية على التحليل الخاطئ للأمور ،وهل مازالت الدولتان تعيشان في الزمن الإمبراطوري ،وتحلمان إن بمقدورهما النيل من الشعب الكردي بالرصاص والقتل والأساليب الغير إنسانية، وإذا ما كان المسؤلون في كلا الدولتين مازالوا على هذا الاعتقاد، فإننا نرى وبيقين تام  إن مستقبلا مماثلا لمستقبل النظام العراقي سيكون في انتظارهم وذلك لان إرادة الشعوب وأمالها في الحرية والسلام والأخوة لا تنهى بالقنابل والصواريخ ،وان أمثلة كثيرة في العالم تؤكد ذلك كايرلندا ويوغسلافيا وإلباسك  وفلسطين وتيمور الشرقية ،والمثال الأقرب هو العراق وعلى الجميع بما فيهم  الأنظمة المسيطرة على كردستان أن تستذكر دوما تاريخ الشعوب وماضيها النضالي، قبل أن تقدم على أية خطوة خاطئة تضر بالإخاء والحق والحرية وعليها أن تستذكر قبل القيام بأية عملية عسكرية، قول الشاعر العربي الكبير الجواهري حينما وصف البطولات الكردية قائلا :

شعب دعائمه الجماجم والدم                              تتحطم الدنيا ولا يتحطم

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…