في ضيافة الراحل الشيخ عدنان حقي

 ابراهيم محمود

ربما مع رحيل الشيخ عدنان حقي، يكاد يختفي
كبار مشايخ الدين الإسلامي في روجآفا كردستان، باستثناء الشيخ خاشع حقي، وهم من
الكرد، ممن لعبوا وعلى امتداد عقود زمنية طويلة، دوراً لا يستهان به في توازنات ”
الجزيرة السورية العليا “، ولكل شيخ طابعه أو مسلكه في التعاطي مع الأحداث، سوى أن
خاصيتهم الكردية أضفت عليهم ميزة خاصة من منظور السلطات السورية المتعاقبة، وعلى
المستوى الأمني بالذات، وصُنّفوا كرداً رغم اتصاف الغالبية منهم، ممن ظهروا في كل
من ” تل معروف ” وحلوى ” القريتين الأهم في التعاطي الديني المختلف واستقطاب 
جماهيرهم إيمانياً، إنما أيضاً على مستوى الواقع كيفية تفهم الحياة وما يعقبها
تالياً” لنذكّر بكتاب السيء الصيت محمد طلب هلال ” في هذا المضمار.
قبل سنوات كان رحيل الشيخ عبدالقادر علواني ذي الحضور اللافت لدى الخاصة والعامة،
حيث اللغة المعتمَدة هي وحدة المشاعر والتقريب بين النفوس المتنافرة ما أمكن دون
النظر إلى الانتماء الاثني وغيره، ومن خلاله كانت شجرته العائلية الظليلة بأفرادها،
من الراحل حسام إلى الفنان الكبير سرور إلى الباحث القدير عبدالواحد إلى بقية
المنتمين إلى شجرته الطيبة الثمار هذه: عبدالعظيم، محمد شفيق، أنس…الخ، حيث
حضورهم الاجتماعي والاعتباري مقدَّر لدى كل الذين تعرفوا إليهم انطلاقاً من الشجرة-
العنوان: عبدالقادر علواني. قبل سنوات كان رحيل الشيخ الشهيد معشوق الخزنوي الأكثر
إثارة للنفوس والرؤوس بما تقدَّم به جسداً وروحاً على مستوى الدين باعتباره سياسة
في عرفه المحتفى به.
واليوم، حين قرأت نعي رحيل الشيخ عدنان حقي وأنا محكوم
بغربة لا مخرج من قسوتها إلى إشعار آخر، أستحضر وجهه البيضاوي المشوب بالحمرة
الطبيعية، ولحيته البيضاء المستدقة، وعمامته البيضاء، وأنا هنا ” الدهوكي ” الطارئ،
أعيش عنف الغربة المضاعف، وهول المصاب، والمعنى الأقسى لرحيل من لا يمكنك أن تعيش
حداد رحيله إلا على مبعدة عنه، أن تعزي روحك، وداخلك وجوه الأحبة من أقربائه في
الصميم، وكل منهم في جهة طي موجة متقلبة في أوقيانوس غربة مضطرب، متخيلاً صمتاً
باكياً، وقلوباً ناطقة بشجن لجي، وأنت تصافحهم بروحياً من على بعد آلاف الأميال:
البقية في حياتكم.. العبارة المعتادة، ولا أحد يبقى.. هنا: سرور، بجواره عبدالعظيم
بجوار عبدالعظيم عبدالواحد، بجوار عبدالواحد محمد شفيق، بجوار محمد شفيق أنس…
والكل تحت ظلة حزن كبيرة، في جغرافيا الوجع الأهلي البليغ.
ربما في وضع كهذا
الذي نعيشه وننزف قوانا الروحية كثيراً، يمكن تذكر الفراغ الذي يتركه كل شيخ، وهو
من الاستحالة بمكان، ملؤه، ولشيخ من طراز عدنان حقي بسجله الجهادي الخاص والكردي
الخاص والإنساني الخاص، وكتاباته الجامعة بين الديني والاجتماعي، ما يستوقف المرء
في وضع خاص، ومعاينة الدور الكبير الذي عرِف به هو ومن كان قبله، وما هو فظيع ومقلق
جداً لاحقاً، حيث لا يشكل الدين مجرّد حلقة وصل رفيعة بين شخص وآخر من منظور تعبدي
حصراً، إنما هو التنوع فيما هو اجتماعي ووجداني ونفسي وسياسي وثقافي ..
في مثل
هذا الوضع الذي ينتقل من انفجار قيمي إلى آخر، هناك، حيث كان مسرح حياة الشيخ عدنان
حقي الفعلي وليس التمثيلي، يمكن تلمس ما كان يمثّله من قيمة جمعية للمحيطين به
كرداً وعرباً وخلافهم.
وماذا يمكنني أن أقول أكثر مما قلت، حيث السكنى على حد
خنجر ؟ ماذا أقول لأحبة عرفتهم وأعرفهم وسأعرفهم باطمئنان روحي أكثر، هم من ذكرتهم،
سوى: بوركت دوحة الشجر التي تنتمون إليها، وبورك في كل شجرة وارفة الظلال تسمّي
كلاً منكم، وكل قادم وأنتم بعبق أوفر .

دهوك- في 22 أيار 2015 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لم يكن، في لحظة وطنية بلغت ذروة الانسداد، وتحت وطأة أفق سياسي وأخلاقي مغلق، أمام الشيخ حكمت الهجري، شيخ عقل الطائفة الدرزية في السويداء، كما يبدو الأمر، سوى أن يطلق مكرهاً صرخة تهديد أو يدق طبول حرب، حين ألمح- بمسؤوليته التاريخية والدينية- إلى احتمال طلب الحماية الدولية. بل كان يعبّر عن واحدة من أكثر المعضلات إلحاحاً في واقعنا…

د. محمود عباس صرخة في وجه التكفير والخراب والإرهاب. من يهاجم المكون الدرزي في السويداء؟ من يحاصر مدنها، ويهدد شيوخها، ويحرّض على أبنائها بذريعة كلمة قيلت أو لم تُقَل؟ من نصب نفسه حاميًا للرسول الكريم وكأن الإسلام ملكيته الخاصة، وكأن نبي الرحمة جاء لقوم دون قوم، ولدين دون آخر، متناسين أن محمدًا عليه السلام نبي الإنسانية كلها، لا نبي التنظيمات…

بوتان زيباري في رياح السياسة العاتية التي تعصف بأطلال الدولة السورية، يبدو أن الاتفاق الموقّع بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وهيئة تحرير الشام (هتش) لم يكن سوى وميض برقٍ في سماءٍ ما لبثت أن اكتظت بالغيوم. فها هو مؤتمر قَامشلو الأخير، بلغة ملامحه المضمرة وتصريحاته الصامتة أكثر من الصاخبة، يكشف عن مكامن توتّرٍ خفيٍّ يوشك أن يطفو على سطح…

إبراهيم اليوسف لقد كان حلم السوريين أن يتوقف نهر الدم الذي فاض وارتفع عداده ومستواه، تدريجياً، طيلة العقود الأخيرة، أن يُفتح باب السجون لا ليُستبدل معتقل بآخر، بل ليُبيّض كل مظلوم مكانه، أن يتحول الوطن من ساحة للبطش إلى حضن للكرامة. لقد كان الأمل كبيراً في أن تؤول الأمور إلى دولة ديمقراطية، تُبنى على قواعد العدالة والحرية والكرامة، لكن هذا…