الكُرد والحَيوَنة

 ابراهيم محمود

يظهر أن حساسية الكرد اللغوية، وكونهم في
الغالب، يقيّمون الأشياء عن قرب، تبقيهم في خلاف مع الجاري، وتحديداً في فارق
المعنى من لغة إلى أخرى، فأنت إن قلت لأحدهم أو سمّيته بـ ” Rovî ” بالكردية، خلاف
قولك ” ثعلب، مثلما الحال في قولك ” خنزير ” بالعربية، حين تقول ” Beraz “. الكرد
رغم معرفتهم اللافتة بعالم الحيوان، كيف وهم يصهرون في نفوسهم الجبل والسهل! ووجود
كم كبير من الأمثال والأقوال المأثورة تخص الحيوان من باب التشبيه أو الوصف، سوى
أنهم لا يفكّرون إلا بالأسوأ أو الأبأس مرتبة .
الحيونة سلوك نفسي واجتماعي وثقافي، وفي مثال ” الثعلب ” وهو ما كتبتُ في نطاقه،
لكَم يُساء الفهم، حيث المعنى المبتذَل هو الذي يجري اعتماده، رغم الإشارة إلى أن
الاقتصار على معنى محدود يعني اعتماد تفكير سطحي يترجم طريقة التعامل مع الحياة
وتعقيداتها.
المعنيون الكرد بالحيونة، وما يصل الإنسان بالحيوان، على علم بمفهوم
الثعلب، كما هو المشهور عن القائد الألماني ” رومل ” والذي وصِف بأنه ” ثعلب
الصحراء “، وكما في حال الأمير حين يكون ثعلباً في ظروف معينة .
قابلية الكرد في
التعاطي مع الألقاب في ظاهرها تعبّر عن بؤس تصريف المعاني وطريقة إدارتها لديهم في
القول والفعل اليوميين، وفي الكردية كلغة، قبل كل شيء، كأن أشير إلى الوصف المغنَّى
في قصيدة جكرخوينية :
Bûye wek rovî  li pa xwe na nêrî
صار مثل الثعلب الذي
لا يلتفت وراءه !
إننا هنا إزاء حالة انسحاب من العالم، لا بل وبدائية الدلالة
بالنسبة لمفردات اللغة، وتحديداً، لأن ثمة انعداماً لمسافة التفكير المطلوبة،
لتقليب المفردة على وجوهها في معانيها، وكون كل مفردة تحمل سيرة حياة وتاريخاً حياً
متنوعاً من المعاني .
في الطب، تكون ” الثعلبة ” مرضاً جلدياً، وكثيراً ما
يشاهَد في رقعة أو أكثر في الرأس، إذ يسقط الشعر، وعدم المعالجة لهذه العلة قد يحول
الرأس كله إلى كتلة جلدية حمراء مخيفة، وذلك بتأثير من ” خبث ” العلة، وقدرتها على
الإصابة.
والثعلب رغم خفَّته، وذيوع صيته في الحكايات الشعبية لدى مختلف الشعوب،
وظرافته بالمقابل، يظهر من حيث التقييم نظيراً للمهرّج، والذي يتم استدعاؤه للترويح
عن الأنفس. المهرّج كائن إنساني، ويمتلك موهبة الإضحاك والإيناس، ويعني ذلك أنه
يمتلك قابلية تفاعل مع الوسط، ورغم ذلك من النادر، وفي وسطنا، وجود من يتمنى أن
يكون ” مهرّجاً “، أي إن الثعلب المثير للضحك ونظير الفكاهة، يطلَب للفرجة فقط، رغم
كامل الاعتراف بحيله. نعم” الحيل ” هي التي تجذب الانتباه وتثير الإعجاب، ولكنها،
وكونها حيلاً، تثير حفيظة الشخص، كما لو أن مجرد الاحتكاك به، يوقعه في
شرَكه.
والثعلب، وفي نطاق ” الحيونة ” الغريبة عن قاموس الحياة اليومية لغالبية
كردنا، كما يظهر، رغم أنهم لا يدخرون جهداً في استعمال أو تداول الكثير مما هو
حيواني فيما بينهم أو في الذم ورد الدم بمثله، يصل ما بين صنف الحيوانات الأكثر
قدرة على الفتك والافتراس والرهبة: الذئب، النمر، الفهد، الأسد..، وقائمة الحيوانات
المنفّرة: ابن آوى، الظربان، الغريري، السالول ” Gorneba  “..الخ، مثلما أنه يجمع
بين الحلال والحرام في الفقه: مباح أكل لحمه لمن يريد، وحرام لمن لا يريد، فهو
مفترس من ناحية، أي من السباع، وهو الحيوان الاستثنائي، أو يكاد، من بين الحيوانات
اللاحمة والوحشية، والمفتى بتناول لحمه من ناحية أخرى، ربما لسهولة رؤيته ومجاورته
النسبية للبشر .
هنا، يؤخَذ من ” الحيونة ” المعنى الأحادي والأكثر إساءة للاسم
نفسه، كما هو وضع الكثير مما يجري تلفُّظه في أوساطنا الاجتماعية وحتى الثقافية،
وما يعنيه ذلك من مدى التصاق عالمنا بعالم الحيوان  من جهة، وصعوبة التحرر من هذا
العالم من جهة أخرى، وما يترتب على ما تقدَّم من اضطراب العلاقات وسوء في التقدير،
وتبلبل الصور والمشاعر، وما في المتداول من مآس تعنينا في عالم يتقاسمنا برغبة منا
أو  جرّاء سطحية أحكامنا، وعدم تمييزنا بين أن يكون أحدنا ثعلباً، وهو إيجاب في
المعنى، وأن يصبح ثعلباً، لأنه ممسوخ من الداخل، فلا يقبل به إنسان ولا ثعلب
بالمقابل .
دهوك
14 نيسان 2015 
 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…