جان كورد كاتباً ومثقفاً وإعلامياً

حاوره: إبراهيم اليوسف

صحيح أنني أتابع
جان كرد -كاتباً وإعلامياً- منذ وقت طويل، وقد كان مجرد ذكر اسمه مدعاة خطر، كما
أسماء بعض كتابنا وسياسيينا في الخارج، من المطلوبة رؤوسهم لأجهزة الاستبداد،
ويواجه بعضهم عواصف من الإساءات، بحقهم، من قبل مجندي هذه الأجهزة، في كل مكان، ولا
أعني -هنا- من يختلفون معه في الرأي، وهو حق مشروع لكل منا، على أن يظل الاختلاف
ضمن  إطار التفاعل بين الرأي والرأي الآخر، في البيت الواحد، أو حتى خارجه، وهو ما
لا يؤمن به من تشرب بروح العنف، وتضخمت أناه، وبات لا ينظر إلى العالم كله، إلا من
خلال مصالح هذه الذات، رغم كل ذلك، لم أكن قد التقيت بالصديق جان، وإن تمت بيننا
مراسلات متقطعة، عندما كنت داخل الوطن، إلا في أواخر ربيع 2004، عندما توجهت وعميد
الشهداء الكرد مشعل التمو إلى أوربا، وكان كاك جان من بين الأوائل الذين حضروا
ندوتنا الأولى في “هيرنة” الألمانية، 
واستمع عن قرب إلى ما قدمناه ارتجالاً عن مجريات الانتفاضة المباركة، وكان الشارع
الكردي وقتها، في أوج غليانه، وشفافيته، وعلى أحسن ما يرام، وكان أغلب ناشطينا داخل
الوطن، وخارجه، يعملون، بإيقاع نضالي عال، كما قلب امرئ واحد، بل أن شبابنا الذين
قادوا المظاهرات أمام السفارات السورية في أوربا هزوا العالم، وكان حراكهم جزءاً من
السند الأعظم الذي كنا نستقوي به، ونحن نواجه في الداخل إرهاب آلة النظام بحق
شعبنا.
ولا تزال بعض عبارات الصديق جان تتردد في مسمعي، وهو يتفاجأ بما سمعه في
الندوة، وراح يكتب عنها، لألتقيه -مرة ثانية- في صيف 2013، في مؤتمر نقابة الصحفيين
الكرد، بعد أن واجه الموت المحدق به، حيث راح يصور لي تفاصيل أزمته القلبية في
ألمانيا، وكيف تم إسعافه بطائرة، ونجا من هذا الموت المحكم بأعجوبة كبرى.
حاولت
خلال الحوار التالي، أن أوجه الحوار صوب الحقلين الثقافي والإعلامي، قدر استطاعتي،
بعيداً عن شجون السياسة الكردية، وأفعالها، وردات الأفعال، ضمن متواليات تكاد لا
تنتهي للأسف، مادام متابعو تجربته يعرفون آراءه هذه عن كثب، ليسبروا –هنا- عوالم
ورؤى أحد أقدم مثقفينا الكرد حضوراً في المشهد الثقافي والسياسي، على حد سواء،
عاملاً بهمة لا تلين، ودون كل أو ملل، في ما يلي نص الحوار:


– عالم
الكتابة، ما الذي شدك إليه؟

* عالم الكتابة مثل عالم
المال، الأوّل تزداد به وعياً وتتسلل به إلى عقول الناس، والثاني تزداد به ثراءً
وتتسلل به إلى جيوب الناس، ولكن احتمال الخسارة في العالم الأوّل أكبر. الكتابة
تساعد على دفع الأمواج التي تتلاطم في عقل المرء إلى الشواطئ، كما أنها وسيلة بشرية
منذ إقامتها في الكهوف ورسم الرسومات على جدرانها لنقل أفكارها وانطباعاتها عن
العالم المحيط للآخرين من بني الإنسان، وترك أثارنا على جانبي الطريق للذين يأتون
من بعدنا. وبالنسبة لي فإن الكتابة لا تقل أهمية عن الزراعة والصناعة والتجارة
والفنون المختلفة في مسيرة التقدّم الإنساني. 


– من الكتاب الأوائل
الذين قرأتهم عالمياً؟ 

* في الحقيقة لا أتذكّر لمن
قرأت بدايةً، إلاّ أنني كنت منذ المرحلة الإعدادية أقرأ كل ما يقع في يدي من كتب.
ولقد تأثرت بقوة الأسلوب لدى الفيلسوف الألماني نيتشه في كتابه الشهير “هكذا تكلّم
زرادشت” والروائي الأمريكي الكبير ارنست هيمنغواي في روايته “الشيخ والبحر” و “لمن
تقرع الأجراس” والروائيين الفرنسيين الكلاسيكيين ومنهم آلبرت كامو، وبخاصة فيكتور
هوجو (البؤساء)، والانجليزي الذي سحرني تشارلز ديكنز، والمسرحي الذي لا يضاهيه أحد
وليام شكسبير، والروائي الروسي دوستويفسكي بشكلِ لا أستطيع وصف تأثيره العظيم في
أعماقي… 
ولكن كما قلت فإنني كنت أقرأ ما يقع بين يدي من قصص ومسرحيات وكتب
تاريخ وسياسة بحيث جعلني أهمل دراستي وصحتي. وفي السنوات الأخيرة زاد اهتمامي
بالرواية العالمية أكثر مما مضى، المترجمة في معظمها من اللغات الأخرى إلى اللغة
الألمانية القوية، ومنها روايات ترجمت إلى عشرات اللغات وطبعت منها مئات الألوف من
النسخ أو تم طبعها مراتٍ ومرات، ولدي الآن خزانة كاملة آمل قراءتها كلها إن بقيت
حياً، فالرواية أحب فنون الكتابة لدي ومن ثم
المسرحية.


وعربياً؟

* في مقدمة الكتاب
العرب كان يشدني إليه الروائي نجيب محفوظ، والمفكر عباس محمود العقاد الكوردي
الأصل، وابن خلدون، والشعراء الجاهليون بالدرجة الأولى، ثم المكتبة العربية بشكل
عام منذ انطلاق العرب من جزيرتهم ليصبحوا قادة العالم في فترةٍ من فترات التاريخ،
بما في هذه المكتبة من شعرٍ وأدبٍ وتاريخ ودراسات قيّمة، فاللغة العربية كانت حتى
قبل عشرين عاماً أهم وسيلة لي للقراءة الأدبية والسياسية والثقافية بوجه عام. ولا
يمكن هنا نسيان أن للقرآن الكريم والحديث الشريف دورٌ كبير في تعلمي لهذه اللغة
والتفكير بها والاستزادة من بلاغتها وفنونها الأدبية المختلفة. 


وكردياً؟

* أنا من أبوين كرديين، وعشت
فترة طفولتي وصباي في قرية كوردية (ميدانكي) الجميلة في منطقة (جبل الأكراد)
الواقعة غرباً على بعد 50-60 كيلو متر من مدينة حلب، ولكن بسبب سياسة منع التعلّم
بلغتي الأم ولكون أبي وأمي أميين فلم أقرأ أي كتابٍ بالكوردية إلا بعد دخولي
المرحلة الثانوية، وذلك في مدينة حلب. ومنذ ذلك الحين وإلى الآن أقرأ بلغتي
الكوردية بشغف، وأهم من تأثرت بهم هم شعراؤنا الكلاسيكيون القدامى، وفي مقدمتهم
أحمد خانى، ملايى جزيرين، فقى تيران، برتويى هكاري، سيابوش، شيخ عسكري، شيخ محمد
جان، شيخ عبد الرحمن آقتبي، ومعظم حلقات هذه السلسلة الذهبية الخالدة، إلى آخر
حلقاتها الشاعر الكبير جكرخوين وسواه ممن وجدت قراءة أشعارهم ضرورة للتعرّف على
الأدب الكوردي والتمكّن من لغتنا التي هي بالفعل لغة رائعة ساحرة وواسعة تضاهي أهم
اللغات العالمية، ولكن مع الأسف لم يتوافر لها مجال مثلما توافر لتلك اللغات من
تعليم واهتمام. 
وهنا أوّد القول بأن للأساطير الكوردية والأغاني الكلاسيكية
التي في معظمها ملاحم شعرية كبيرة قد أثرّت فيّ تأثيراً بليغاً على الدوام، وقد
جمعت منها، من بطون الكتب التي ألفها المستشرقون ومن الجرائد والمجلات عدداً كبيراً
يزيد عن مئات الصفحات، أعود إليها بين الحين والحين فهي كنز لا يفنى من كنوز
المفردات والتعابير الكوردية.  


– هل من الممكن أن تحدثنا عن أول نص
كتبته؟

* أوّل نص كتبته كان بالعربية، وكان محاكاةً
رديئة لنصوص الفيلسوف نيتشه، بعدها كنت أكتب أشعاراً بالعربية لم أنشر منها إلاّ
القليل جداً على الصفحات والمواقع الانترنتية، في هذه السنوات الأخيرة، ثم كتبت عدة
قصص قصيرة بالعربية وأخرى بالكوردية، وأتذكّر أن كل الذين كانوا يقرؤونها يشجعونني
على دوام الكتابة، ولا تزال بعض هذه النصوص والقصص عندي في البيت، ولكن الجزء
الأكبر تم حرقه من قبل والدتي وإخوتي، على أثر اعتقالاتي التي تعرّضت لها فيما بعد.
خوفاً من اكتشاف أمرها لدى تفتيش المنزل. أما أوّل قصيدة شعرية ناجحة فكانت “باران
باري – هطل المطر) بالكوردية، وهي قصيدة غنّاها لأوّل مرّة بصوته الشبيه بصوت “توم
جونز” الأمريكي، الأخ الدكتور حسن شيخو، ثم غنّاها معظم المغنين الكورداغيين من
بعد، وزعم بعض الشعراء والمغنين أنها من تأليفهم وتلحينهم. وكان ذلك في عام 1969
كما أتذكّر.


وماذا عن تجربتك مع النشر وكيف
بدأت؟

* أوّل ما تم نشره لي بالعربية كان أربع مقالات
أدبية، أثناء دراستي في معهد إعداد المدرسين بحلب، في 1971- 1969، وذلك في مجلة
“الطليعة”، وكانت المقالات قصيرة حول الرومانسية والواقعية والالتزام الأدبي، إلا
أن المجلة التي كان يصدرها البعثيون وتوزّع في سائر أنحاء سوريا رفضوا نشر مقالٍ
آخرٍ لي. أما بالكوردية فقد كان مقالاً طويلاً حول القصص والأساطير الكوردية نشرته
لي تحت اسم مستعار (بيكس–لا أتذكّر بالضبط) نشرة كوليستان التي كان الشاعر الكبير
جكرخوين يصدرها دورياً، في عددين متتاليين من الأعداد الخمسة الأوائل، وهذا فعلاً
ما شجعني على الكتابة والنشر باستمرار فيما بعد، وقد صدرت لي عدة كتب متواضعة
بالكوردية وبالعربية.


– هل تقوِّم ما
تكتب؟

* كل ما أكتبه أقرأه مراراً بعيون ناقدة حتى
بعد نشره وكأنني أقرأ لكاتبٍ آخر، وفي كل مرة أكتشف خطأً وأقول: لو ذكرت كذا وكذا
أيضاً لكان أجمل أو لتركت هذا وذاك لكان أفضل. فأنا أؤمن بأن “غير الله غير معصوم”،
وحتى الأنبياء والمرسلون فقد وقعوا في أخطاء نبههم إليها الله تعالى في كتبه، والذي
لا يكتب لن تكون له أخطاء في الكتابة. والكتابة تتأثّر باللحظة النفسية التي فيها
الكاتب، ويلعب الاهتمام بالموضوع دوراً كبيراً، ولذلك هناك للكاتب نفسه نصوصٌ جيدة
وأخرى سيئة، أما الذي يعتبر كل إنتاجه ممتازاً أو رائعاً فإنه برأيي نرجسي ضعيف
وكاتب غير ناجح. 


– أية أهمية تراها للمقال السياسي؟ أو ليس مجرد نص
عابر؟

* لا ليس نصاً عابراً ما نسميه بالمقال
السياسي. أنا لا أكتفي ببيانات الأحزاب السياسية وأخبار نشاطاتها وبرامجها ومناهجها
لتفهم سياساتها، وإنما يشدني ما يصرّح به مسؤولوها وحواراتهم التلفزيونية
ومقابلاتهم الكتابية وما يكتبونه من مقالات وآراء. 
أعلم عن سياسيين لا يكتبون
شيئاً وبذلك أراهم مجهولين في عالم السياسة، مهما كانت أحزابهم كبيرة، فالسياسة
ليست ألاعيب بهلوانية حاذقة وراء الستائر، وإنما آراء ومواقف ونهج وخطاب سياسي، حيث
أن المقال السياسي هو رأي في موضوعٍ قد يكون هاماً لكل المهتمين بشؤون بلدٍ من
البلدان. فما جرى في باريس مؤخراً من جريمةٍ جماعية راح ضحيتها صحافيون ورسامون،
بغض النظر عن منحاهم الإعلامي والسياسي، يفرض على الكاتب السياسي إبداء رأيه فيه،
ليس ببيان حزبي فحسب وإنما عليه المساهمة في الموضوع سلباً أو إيجاباً من خلال
مقالاته وآرائه التي يطرحها بين الناس، لأن هذه الحادثة المرعبة ستؤثّر سلباً على
حياة ملايين المسافرين والمهاجرين ومعظمهم من الكادحين في أوروبا عموماً، وستشجّع
العناصر والفئات العنصرية على أن تحتل حيزاً أكبر في الشارع الأوروبي، وهذا ما لا
يريده أي عاقل. 
ومع الأيام تتحوّل تلك المقالات التي يتركها الكاتب السياسي
وراءه إلى أرشيف يعكس حقائق ووقائع مرحلةٍ ما، يعود إليها الدارسون. إن ما تركه
المنفلوطي والزيات وأحمد أمين وحسنين هيكل وغيرهم يلقى حتى اليوم اهتماماً بليغاً
من دارسي تاريخ السياسة في مصر.


– لوعدت الآن إلى مرحلة مطلع شبابك، أي
الخيارين ستفضل: العمل في الثقافة أم في السياسة؟

*
برأيي لا يمكن الفصل كلياً بين الثقافة والسياسة، وهناك ثقافة سياسية، وسياسة في
الثقافة، فإن رواية فيكتور هوغو (البؤساء) ليست مجرّد عمل ثقافي، بل هي فضح سياسي
صارخ للمجتمع الفرنسي الذي كان قائماً على الظلم والاستغلال في القرن التاسع عشر
قبيل الثورة الفرنسية الشهيرة. وكذلك لا يستطيع أحد الفصل بين ثقافة الكاتب
الألماني (هاينريش بُل) وسياسته، بل لو نظرنا في كل ما كتبه شاعرنا الهام جكرخوين
لرأيناه على الأغلب سياسياً، وعمل حتى أواخر حياته في المجالين الأدبي والسياسي
معاً، والذي يمعن النظر في الملحمة الشعرية (مَم وَزين) للشيخ أحمدى خاني، يدرك أنه
لم يهمل الجانب السياسي من المجتمع الكوردي. 
ولكن هناك فارق في العمل السياسي
وفي المجال الثقافي، فأغلب العمل السياسي يكون بين ومع من تراهم من عامة الناس، في
حين أنك في المجال الثقافي تتعامل مع كتب ومثقفين وناشرين ورؤساء تحرير، أنا أجد
الموضوع متشابكاً ومتداخلاً لا يمكن الفصل بهما وتحبيذ الواحد منهما على الآخر.
وكلاهما السياسي والمثقف مهمان في الحياة الإنسانية كأفراد وكمجتمعات.



كيف انتقلت إلى الكتابة بلغتك  الأم؟

* أنا لم أنتقل
إلى الكتابة من العربية إلى الكوردية، وإنما كتبت وأكتب باللغتين، وبين يدي رواية
كتبت منها بالعربية ما يقارب المائتي صفحة حتى الآن (حزن الأميرة الميتانية – دوتى
خيبا)، إلى جانب ما أكتبه بالكوردية من نصوص مختلفة، إلاّ أن البدء بالكوردية جاء
متأخراً قليلاً لأنها كانت ممنوعة علينا كلغة تعلّم وكتابة في سوريا، مثل منع
التعامل بالمخدرات تماماً أو التخابر مع العدو، في حين أن القرآن الذي نزل بلغة
العرب يقول: “ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم…” بمعنى أن
اللغة الكوردية التي كانت “ممنوعة في التعلّم” بسوريا آيةٌ من آيات
الخالق.   


– أي الهمين-الآن- أكثر سطوة عليك : الثقافي أم
السياسي؟

* السياسة هَمٌ وعمل شاق، ولكن الثقافة حياة
روحية، والعمل السياسي ضمن حدود الحياة الثقافية يمنح الإنسان حيزاً للشعور بالراحة
النفسية. والسياسي الذي لا تهمه الثقافة موظّف بلا مستقبل ولا اهتمامات. إن لنا
مثالاً من السياسيين المثقفين، ألا وهو شهيد الكفاح من أجل الحرية الأخ مشعل التمو،
ولا أعتقد أنه كان يهمل أياً من الجانبين، السياسي والثقافي.


– ألم
تسرقك الكتابة في المجال السياسي عن المجال
الثقافي؟

* كما ذكرت في جوابٍ سابق أنا لا أجد حدوداً
فاصلة بين العمل السياسي والحياة الثقافية، إلاّ أن الانشغال بالسياسة يجبر الأديب
أو الشاعر أو الفنان غالباً على الابتعاد عن الصالونات الثقافية والاحتكاك المستمر
بالزملاء الأكثر ثقافة، والاستفادة من خبراتهم، ومتابعة الإنتاج الثقافي الضخم لمن
حوله. ومن ناحية أخرى تحاصرك القيود الحزبية أحياناً، فلا تنشر لك الصحيفة الفلانية
أو تحرم من المساهمة في تلفزيونات بعض الأحزاب حتى في المجال الثقافي، والأشنع في
هذا كله محاولة الإقصاء من قبل من تدافع عن سياساتهم بقلمك وممارساتك، فالأحزاب
تريد “مثقفاً مأجوراً” مثل كاتب عقود الزواج، وشهادة دفن الموتى، أو مثل القاضي
الذي يطلب كاتباً لا يخرج عن الكلمة التي يمليها عليه. 
ومسألة الوقت مهمة
للغاية، فهناك المهتم بكتابة ونشر كتبه فقط، فلا يضيع منه وقت، في حين هناك من يضع
المسألة السياسية والعمل السياسي فوق مصلحته الشخصية، ويكتسب عداوات ويضطر لإهمال
الكتابةـ وكل منهما يظنّ أنه يخدم شعبه، فهذه الفكرة من صميم الفارق بين المجالين
السياسي والثقافي. وأنا أعتبر نفسي من الذين ضاعت عليهم الفرص المختلفة لأنهم لم
يقبلوا بأن يكونوا عبيداً لأحد. 


– ماذا عن المشهد الثقافي
الكردي الأولي في بدايات تفتح وعيك ؟

* كما ذكرت،
كانت اللغة الكوردية في التعلم والتثقيف ممنوعاً منعاً باتاً في سوريا التي ولدت
ونشأت وتعلمت فيها، ولذلك فإن المشهد الثقافي الكوردي الأولي أمامي كان شبه محصور
في دائرة الشيوعيين الذين كانوا يتزودون بالكثير من الكتب الماركسية واللينينية،
باللغة العربية، ونادراً ما كنت تجد لديهم كتاباً باللغة الكوردية (ولكن بالحروف
الكليرية كما في الاتحاد السوفييتي الذي كانوا يقدسون كل شيء منه). ويدخلون مع
غيرهم وفيما بينهم في مشاحنات سياسية، دفاعاً عن سياسته حيال الكورد، بحيث تلقي
الخلافات والتشنجات ظلالها القاتمة على العمل الثقافي المشترك والعام، 
وكانت
هناك دائرة أضيق فكرياً مقتربة بشدة من الثقافة القومية، مرتسمة في إطار الحركة
السياسية الكوردية التي كانت ولا تزال تعاني من التمزّق التنظيمي الذي أثّر
باستمرار في نمو الحركة الثقافية الكوردية في منطقتنا (جبل الأكراد) سلباً، وكنت
أتردد في حلب على بيت معارف شيوعيين للنقاش معهم حول السماء والأرض وما بينهما من
أفكار ونظريات وسياسات، وهناك تعرفت على بعض المثقفين اليساريين، كالشاعر حامد
بدرخان مثلاً، كما كنت أستعير منهم كتباً للقراءة، كانت على الأغلب حول الشيوعية
والماديتين التاريخية والجدلية. 
ولكن هنا وهناك كنا نلتقي نحن (القوميون
الكورد) فيما بيننا ونتبادل ما نجده من نصوص (كوردية) ونشرات سياسية ودواوين شعر
تأخذ بألبابنا المتعطشة لمعرفة المزيد عن الكورد. لذلك كان المشهد الثقافي من حولي
باهتاً فعلاً، ولم أتردد ولو مرّة واحدة في حياتي على منتدى ثقافي للعنصريين
البعثيين والحمد لله.


– من من الكتاب الكرد الأوائل كنت تتواصل معهم
داخل الوطن؟

* التقيت مرة واحدة في سوريا بالشاعر
جكرخوين في داره وكان نقاشنا حول الحروف الكوردية (اللاتينية) وبعض أبيات شعر ملا
يى جزيري، كما التقيت مرة بالأستاذ المناضل عثمان صبري (آبو)، الذي كان أيضاً
مثقفاً كبيراً وسياسياً عريقاً، كما التقيت بالأستاذ حسن هشيار الذي – مع الأسف –
له العديد من الكتب التي لم تر النور… وهذه اللقاءات كانت في دمشق. 
وإجمالاً
فإن منطقتنا لم تكن متاخمة كمنطقة الجزيرة لجنوب كوردستان الذي نشأت وتقدمت فيه
الثقافة الكوردية، وكان فيها شعراء كبار وكتاب قصص وروايات ودارسون
ومؤرخون…


– ماذا عن لقاءاتك  بالشاعر الكبير حامد
بدرخان؟

* تعرفت على الشاعر حامد بدرخان في بيتٍ
شيوعي كان يتردد إليه مثلي من باب الصداقة مع ساكنيه من المعلمين الملتزمين. وهناك
علمت بأنه مثقف كبير، ولكن حقيقةً يعلم القليل أن أوّل قصيدة له بالعربية كانت
بعنوان “رجوعٌ من واترلو” على أثر الهزيمة العربية الكبرى في حرب 1967. وكانت فيها
أخطاء لغوية عديدة، وكتبها على أوراقٍ أثارت فضولي وإعجابي، ولا تزال في نظري
قصيدته الجريئة تلك التي نشرتها له جريدة “الجماهير” من أروع ما كتبه الشاعر حامد
حتى مماته. وأملي أن أحصل عليها لأترجمها إلى الكوردية كما فعلت لبعض قصائده.
وأتذكّر أنه مدح التزامي القومي السياسي المخالف لالتزام أصدقائه الآخرين وحبي
للمعرفة والثقافة، ومع الأيام نشأت بيننا علاقة حميمة، إذ كان يزورني في بيتي بين
الحين والحين، على الرغم من خوفه الشديد من الدخول في موضوعات سياسية تتعلّق
بالكورد وكوردستان، وكان قد كتب بعض القصائد القصيرة بالكوردية، لا أدري هل كتبها
من قبل أم في تلك المرحلة، بعد أن اشتد نقدنا له على إهماله الكتابة بلغته الأم. 
كان حامد بدرخان يجيد التركية والفرنسية ولذلك كان اضطلاعه واسعاً، وكان يمدح
الشاعر التركي ناظم حكت باستمرار، ويقرأ لنا مما كتبه لوركا وحمزاتوف وبوشكين.
وهناك حادثة أوّد ذكرها هنا: زارني مرةً الأستاذ حامد الذي كنا نتجادل كلما التقينا
حول القضية الكوردية على انفراد فيقول لي أحياناً “أنا لست من وطن العشيرة” وكان
يقصد بذلك حبنا الكبير للقائد الخالد مصطفى البارزاني، ورأى أن أمي تنزع وريقات
الورود وتكدسها في طشت كبير، وهي حزينة للغاية، فقال كلاماً كهذا، بعد أن علم بأن
أمي ستصنع منها مربى للأكل:”يا أختي! هذه الورود للشم والنظر إليها وليس للأكل” فلم
تجاوب أمي، ولكنها طلبت من زوجتي إعداد قهوة للضيف المحترم. فاستغرب حزن والدتي، ثم
علم بعد ذلك أن عليّ تسليم نفسي لأقرب مخفر للشرطة في اليوم ذاته لأقضي سنةً كاملة
في السجن بسبب الحكم عليّ من قبل محكمة أمن الدولة العليا الاستثنائية بتهمة “تشويق
العسكريين للانتساب إلى حزب البارتي”، فاصفّر وجهه وحزن حزناً كبيراً، وتأثّر
تأثّراً بليغاً، وبخاصة عندما سمع من أمي كلاماً فيه نبل وتضحية وأنها ستقف معي
مهما كانت المصاعب كبيرة وقاسية لأنها تؤمن بحق شعبنا في الحرية والحياة. 
وذكر
لي حامد بدرخان قبيل خروجي من سوريا في خريف 1979 بأنه كان في إحدى المرات جالساً
في بيت أحد معارفه الشيوعيين، فسمع من الراديو نبأ وفاة القائد الخالد مصطفى
البارزاني، فقام من مكانه ووقف باستعداد احتراماً وتقديراً، كما ذكر لي بأنه تأسف
لسماع زوجة صاحب البيت وهي تقول: “لنشرب كأساً على نخب الانتهاء من هذا الرجعي
الكبير”. إلاّ أنه كان شيوعياً في ثقافته وشعره وحياته التي عاشها فقيراً، ولكنه
كان يخاف النظام البعثي كثيراً، إلاّ أنه أصبح في السنوات الأخيرة من عمره مشهوراً
جداً، وأتذكّر أنه أُعجِبَ بمسرحيةٍ “عبثية” كنت قد كتبتها على دفتر فأخذها معه
لقراءتها ثانيةً، ولا أدري أين صارت، وهل رماها بين كتبه الكثيرة التي خلّفها وراءه
من ثروات الدنيا.


– وماذا عن لقاءاتك  بالكتاب الكرد خارج
الوطن؟

* خارج الوطن بدأت بالظهور أمامي فسحة واسعة
للتعامل مع الوسط الثقافي الكوردي الذي فيه كتاب من مختلف أجزاء كوردستان، وذوي
نتاجات قيمة وخبرات لغوية وثقافية استفدت منها كثيراً، وبالفعل توسعت دائرة معارفي
وثقافتي القومية من خلال الالتقاء بكثيرين من الشعراء والروائيين والمؤرخين
والسياسيين والفنانين من بني قومي، كنت أحلم برؤيتهم في سوريا. والأسماء المرموقة
كثيرة لا مجال لسردها هنا. 


– منذ متى شخصت النظام السوري القائم، وكتبت
عن ضرورة إسقاطه؟

* يوم اغتصاب الجنرال حافظ الأسد
الحكم في عام 1970 سمعت النبأ من راديو من خارج زنزانة إنفرادية، كنت قابعاً فيها
في معتقل الآمرية للقوى الجوية بدمشق تحت الأرض، وفي الحقيقة علمت بأني كنت في ذلك
المعتقل بعد نقلي منه إلى سجن المزة العسكري، وكلاهما كان رهيبين حقاً. منذ ذلك
اليوم وأنا أعتبر نفسي معارضاً لهذا النظام المسخ (فكرياً) والمستبد (سياسياً)
والطائفي (تكويناً) والمتخلّف الفاسد (ممارسة وإدارةً)، ولم أشعر في يومٍ من الأيام
بشرعيته أو قدرته على حل مشاكل البلاد، ومنها “المشكلة الكوردية”. وعندما استولى
نجله بشاركو (بشار كومباني) على الكرسي ببهلوانية دستورية سقط هذا النظام في عيني
تماماً، بعد أن كان يبدو لي أحياناً كنظام (أمر واقع!) شأنه شأن مختلف أنظمة
المعسكر الاشتراكي المنهارة. وكنت أكتب باستمرار بأساليب مبطنة أحياناً عن ضرورة
تغييره وإقامة النظام الديموقراطي، ولكن في الأعوام الأخيرة، وقبل أن يتفجّر
(الربيع العربي) بدأت بالمطالبة بإسقاطه، وأتذكّر أنني قلت ذلك بصراحةٍ تامة في
مقابلةٍ للاتجاه المعاكس لقناة الجزيرة من لندن في عام 2004


– ماذا عن
تجربة سجنك؟

*هي تجربة أليمة حقاً وتؤذيني
ذكرياتهاحتى اليوم، وعندما أرى صور المعذبين والمهانين على أيدي شبيحة ومرتزقة
النظام تدمع عيناي، فلا أريد الدخول في تفاصيلها هنا، وأكتفي بالقول بأن اسمي مدون
في سجلات عدة معتقلات وسجون لآل الأسد وهي كما تعلمون أكثر عدداً من مستشفيات
البلاد مع الأسف. 
وما يحزنني أكثر ليس المعاملة الفظة التي لا تليق بكرامة
الإنسان في تلك المعتقلات، وليس ما عقب ذلك لي من تجريدٍ من الحقوق المدنية وطردٍ
من الوظيفة ومصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة، وإنما تبرؤ رفاقي مني كوني
رفيقاً منهم، أثناء فترات الاعتقال تلك وما بعدها، وأنا الذي فقدت كل شيء بسبب
القضية التي يدافعون عنها، ومنهم من يتربع اليوم على عرشٍ حزبي كارتوني، لم تصبه
لفحة عابرة مما عانيته، فيزعم أنه لا يعرفني عندما يذكر اسمي في
حضرته.


– وماذا عن الملاحقات؟

* حقيقةً
أجدني ملاحقاً حتى بعد 35 من العيش في المهجر، حيث لا يزال اسمي في سجلات المطلوبين
في سوريا. وحتى قبل سنواتٍ قلائل كانت الأجهزة الأمنية تسأل عني من إخوتي. وخلال
هذه السنوات الطويلة لم أتمكن من زيارة أهلي وقريتي، وقد رحل أبي وأمي وأحد أشقائي
وإحدى شقيقاتي في غيابي.


– أمام خياري الكتابة بلغة غير اللغة الأم أو
عدم الكتابة، أيهما تفضل؟

* حسب اللغة التي أكتب بها،
فإذا كان بمقدوري الكتابة بلغة عالمية كالإنجليزية مثلاً، بهدف إيصال رسالتي
الأدبية أو السياسية إلى العالم كله فلا بأس، وأنا أكتب مقالاتي السياسية في معظمها
بالعربية لأني أريد بها إيصال صوتي والرأي الذي أؤمن به إلى القارىء غير المتمكن من
الكوردية، ولكن بشرط ألا تطغى عليّ الكتابة بغير لغتي الأم طغياناً لا انفلات لي
منه، لذا أتساءل أحياناً: 
هل يمكن اعتبار الشاعر الكبير أحمد شوقي أو الروائي
الشهير ياشار كمال كاتبين كورديين؟ طبعاً، هناك عدد هائل من الكتاب الذين كتبوا
بغير لغتهم الأم، إلا أن نتاجاتهم كانت حول قومهم ومجتمعهم، ومنهم من ترجم بعض
نتاجاته إلى اللغة الأم، كما أن هناك عدد يكتب بلغاتٍ أجنبية وبلغته الأم على حدٍ
سواء، وهذا جيد حقاً ومرهق كثيراً، أما إهمال اللغة الأم (الكوردية هنا) تماماً،
فهذا”انسلاخ” وليس مجرّد “إهمال”.


– ماذا عن مشروع أول منبر إعلامي
أطلقته؟

* شاركت في بعض النشرات السياسية التي كانت
تتضمن مقالات وأشعار بالكوردية أيضاً، وأصدرت بنفسي بعضها مثل عدة أعداد من (ريك –
الطريق) أثناء فترة العمل السري في سوريا، وعدة أعداد من مجلة(ده م – الوقت) أيضاً
بالعربية والكوردية في ألمانيا، بجهد فردي.
ومن ثم كان فكرة تأسيس اتحاد
المثقفين الوطنيين الكوردستانيين، وحقيقةً فإن كلمة (الوطنيين) لم تأتِ مني وإنما
من مثقفين حزبيين. وكنت عضواً في هيئته التأسيسية، ومن ثم الهيئة الإدارية لاحقاً،
وشاركت مع أخٍ من هكاري كان له اسم حركي (نديم) في إصدار الأعداد الأربعة الأولى من
مجلة (ره وشن) الكوردية التي كانت إنجازاً هاماً بالفعل، إلى جانب الكتابة بشكل
متواصل بالكوردية عن اللغة الأم والموضوعات المتعلقة بالكورد في مجلة (به رخودان)
آنذاك، ثم لاحظت بأن المثقفين التابعين لحزب العمال الكوردستاني يعملون جاهدين على
تحويل الاتحاد إلى جمعية تابعة مثلهم للحزب، وضمِ أناسٍ لا علاقة لهم بالثقافة إلى
الاتحاد، ووجدت أنهم حرّفوا تحريفاً كبيراً نص البرنامج الذي تعبنا في صياغته
النهائية يوماً كاملاً، أنا والأخ نديم، الذي كان مناضلاً كوردستانياً لا يكل ولا
يتعب من الكتابة بالكوردية والتركية وله دور أساسي في إصدار (سه رخوبون– الاستقلال)
و (به رخودان– المقاومة) أيضاً، وكان يفهم جيداً دور المثقف في كفاح أمته،قبل أن
يتم التخلّص منه بتصفيته جسدياً فيما بعد، لذا لم أجد أمامي سبيلاً سوى النهوض في
المؤتمر العام للاتحاد وإعلان انسحابي منه، على الرغم من أن اسمي كان من بين الإخوة
المقترحين من قبل السيد عبد الله أوجالان لإدارة الاتحاد بعد المؤتمر، حسبما ذكره
لي مسؤول حزبي كبير يومذاك. وأتذكر أنني قلت بصراحة: 
“هذا البرنامج ليس ذلك
الذي طلبت الهيئة مني ومن الأخ نديم إعداده للمؤتمر، وبالنسبة للاسم آمل أن تغيّروه
إلى (اتحاد المثقفين الماركسيين) عوضاً عن (الوطنيين الكوردستانيين) أو (حزب
المثقفين الثوريين) ليتلاءم مع برنامجكم هذا، فنحن أردنا لهذا الاتحاد أن يكون
جسراً بين المثقفين الكورد ومقاومة شعبهم، وليس منظمة تابعة لحزبٍ من الأحزاب، وأنا
غير مستعد تحت ظل هذا البرنامج للعمل ضمنه بعد الآن.” 
وبعد أكثر من عشرين سنة
كتب لي من السويد الأخ الكاتب الكوردي المعروف (بافى بارزان) الذي انضم للاتحاد
قبيل المؤتمر الأوّل له: 
“لو أن مجموعةً من المثقفين اتخذوا ذات الموقف الشجاع
الذي اتخذتَه في ذلك المؤتمر لتغيّر مسار سياسة حزب العمال أيضاً فيما
بعد.”


– ماذا عن مشاريعك  الأدبية؟

* لي
مشاريع غير مكتملة باستمرار، منها ترجمة نصوص ودراسات من العربية والألمانية إلى
الكوردية وكتابة روايات ودراسات بالكوردية والعربية، ولدي عدة كتب تنتظر النشر،
منها روايات كوردية، إلا أنه بسبب شحة الإمكانات المالية الشخصية وعدم الارتماء في
أحضان أحزابنا المالكة قد لا ترى هذه الكتب النور أبداً، مثل تلك الكتب العديدة
للأستاذ حسن هشيار مثلاً. 


– وماذا عن كتابة مذكراتك، ألم يحن الوقت
لاسيما أن عندك  الكثير الذي يجب أن تقوله لقارئك ؟

*
زوجتي الكريمة التي وقفت إلى جانبي منذ 45 عاماً دون تردد لقوة إيمانها بعدالة
قضيتنا القومية وضحّت كثيراً من أجل دعمي وإفساح المجال لي للكتابة والنضال، ولا
تزال تحضني على ذلك، تقول:
” لقد عانيت الكثير وناضلت طويلاً وسهرت الأيام
والليالي تكتب وتناقش وتخدم شعبك، فاكتب مذكراتك” 
إلاّ أنني لا أريد ذلك حقاً،
ولربما أرحل كجندي مجهول…


– وكيف تنظر إلى استسهال بعضهم صفة “مثقف”
أو ” كاتب”  أو ” شاعر”؟

* السبب في ذلك أن المجتمع
غير متفق تماماً على تعريف “المثقف” أو “الكاتب” أو “الشاعر”. وهذا له علاقة
بالتطوّر الإنساني عبر التاريخ، فالذي كان يرسم رسومات السباع والغزلان في الكهوف
القديمة كان مثقفاً واعياً بالنسبة إلى من حوله، أما اليوم فإنك قد ترى من يسمونه
ب”مثقف” ولم يقرأ سوى كتاب أو كتابين في حياته، أو يسمى شاعراً لأنه رصف كلماتٍ
خلفها نقاط، لا خيال فيها ولا رابط ولا علاقة لمفردات النص ببعضها. 
ولقد أفسح
عالم التكنولوجيا الحديثة المجال للجميع لأن ينشروا ما يدور في رؤوسهم من أفكارٍ
على صفحات المواقع الإنترنتية، بحيث وجب تحديد المفاهيم والتعاريف بدقة. فإن تعريف
“الكاتب” في ألمانيا هو الشخص الذي يعيش من كتابة ونشر منتوجاته الكتابية، فهل
ينطبق هذا التعريف على الكتّاب لدينا؟ لقد قمت بترجمة قصائد بعض الشعراء العرب، وفي
مقدمتهم الشاعر السوري الكبير نزار قباني، ولكن تفاديت الكثيرين منهم لثقتي التامة
بأن نزار قباني هو “شاعر” حقاً، وليس كل من ركّب الجمل تركيباً مقرفاً.  لي شخصياً
عدة قصائد بالكوردية غنّها مغنون، منهم علي باران وبانكينوسربست وسواهم، وعندي ما
يكفي لطبع أكثر من ديوانٍ واحد، إلاّ أني لا أعتبر نفسي شاعراً.


– من
المثقف برأيك ؟

* هذا صعبٌ عليّ بالفعل، وأكتفي
بالقول بأن المثقف يقرأ آفاق العالم من حوله بشكلٍ أفضل من الناس ويفسّر ما يراه
ويسمعه بأسلوبٍ مختلف عما يتحدّث به الناس.


– كيف تقوم المشهد الثقافي
الكردي الحالي؟

* المشهد الثقافي الكوردي الحالي
بانوراما كبيرة وواسعة حقاً، إذ علينا ألا نحدّق فيما نراه سورياً فحسب، إذ هناك
حركة ثقافية أصيلة في سائر أنحاء الوطن الكوردي، وهذا ما يجعل مهمة الناقد أو
الدارس صعبة حقاً. لا يمكن مناقشة هذا الموضوع من دون حشر اسم مدينة السليمانية في
مجال الدراسة والنقد، كما لا يمكن إهمال انتاج المثقفين الكورد في آمد (ديار بكر)
أو مهاباد أو أوروبا ودول الاتحاد السوفييتي المنفرط عقده، حيث كان الأدب الكوردي
منتعشاً فيها. 
لقد أثار انتباهي وتعجبي الحجم الكبير المتزايد منذ سقوط نظام
صدام حسين للترجمة الكوردية الواسعة لمختلف النتاجات الفكرية والأدبية العالمية في
إحدى دور النشر بالسليمانية، وفي إحدى جلسات شرب الشاي رأيت عدداً من مؤلفي الكورد
يهدون زملاءهم في مبنى اتحاد الكتاب بذات المدينة نسخاً مما نشروه حديثاً…
إ
نني متفائل، وبخاصة فإن آفاق النشر بعد عقودٍ طويلة من حرمان الكورد من
التلاقي الثقافي فيما بينهم قد انفتحت وبشكل واسع من جراء الاستخدام الكبير للكورد
للنشر الالكتروني. وما نحتاجه هو نشر كل تراثنا الكلاسيكي بشكل منهجي ومدروس عبر
شبكة الانترنت ليكون في متناول جميع أبناء وبنات أمتنا، وأدعو إلى حركةٍ أوسع
للترجمة من وإلى الكوردية.


– هل أنت راض عن أداء المثقفين منذ آذار 2011
وحتى الآن؟

* إعتقَدَ المثقف السوري عامةً، والكوردي
خاصةً،أن نظام الاستبداد الأسدي سيلحق في فترةٍ وجيزة بنظام (زين الهاربين) التونسي
الذي اكتفى بقتل أقل من مائة مواطن، ولذلك كان حماس المثقف الكوردي منقطع النظير،
فساهم في المؤتمرات وقدّم المقترحات وشكّل الهيئات واندفع إلى الأمام، ولكن بعد أن
سرق الإرهابيون ثورة الشعب السوري، وتكالبت المصالح الدولية والإقليمية على هذا
الشعب لترتوي من دمائه الزكية، وتحوّلت سوريا إلى ساحة حرب، انكمش المثقف الكوردي،
إلا فئة قليلة، على نفسه، وراح يتبرأ من الثورة إلى حدٍ كبير، وهذا ما كان متوقعاً
لأن الانتهازية سائدة في الأجواء، بسبب طول عمر الاستبداد الشرس في بلادنا. فأين
أراغون ولوركا في الثورة السورية؟. 
أتذكّر أن أوّل مظاهرة كوردية سورية في
مدينة بون الألمانية بعد اندلاع الثورة السورية ضد النظام كانت على أيادي العديد من
أنصار النظام ذاته، حيث توقعوا رؤية نهايته في أسابيع أو شهور معدودات، وفي ذات
الوقت كان صديق (يفهم) ما في المشهد من تناقض يصوّر بعض أولئك “الشبيحة الكوردية”
وهم يقفون إلى جانب أو تحت يافطات تطالب بإسقاط الأسد ونظامه، ونضحك ساخرين…
والمثقفون لا يختلفون كثيراً عن هؤلاء الأراجيح مع الأسف.


– ما الذي جعل
المثقفين متفرقين، فجأة، بعد انطلاق الثورة السورية، ما أسباب ذلك  برأيك
؟

* المثقفون متفرقون أبداً، حتى أن لهم عدة روابط
واتحادات عوضاً عن هيئة واحدة، والسبب في ذلك الأنانية الشخصية والتحزّب السياسي
الانشقاقي السائد، وهم يهاجمون الكتل والأحزاب، إلاّ أنهم منشقون عن بعضهم ومتمردون
على “روح الجماعة” أكثر من السياسيين. 
انطلقت الثورة السورية، ثورة الجياع
والمستضعفين الكادحين والمتضررين من سياسات النظام، والمثقفون لا يزالون مرعوبين
كالقنافذ من جراء الاستبداد الذي كانت تعيشه سوريا في ظل حكم العائلة الأسدية
لعقودٍ من الزمن، وسارت الجماهير من دون قيادة المثقفين لها، في حين أن المثقفين
كانوا في مقدمة الثورة الفرنسية قبل قرونٍ من الزمن والثورة الشيوعية في روسيا في
القرن الماضي، ولا ينكر أن عدداً من المثقفين السوريين كانوا في أقبية المعتقلات
ردحاً طويلاً من الزمن وعانوا خلالها ما يحطّم “الكينونة الإنسانية” في النفس. 
والمثقف الكوردي كان إما خارج البلاد وإمّا ساعياً لجلب الخبز لعائلته في
الحارات الموحلة القذرة، حيث كان الحصول على الخبز قد صار أهم واجباته اليومية.
الاستبداد مدمّر للثقافة واستمراره لعقود يقوّض الآمال ويمتص الدماء من
الأجساد.


– كيف تفاعل المثقف الكردي مع التحولات الجارية منذ أربع سنوات
وحتى الآن؟

* لم يختلف تفاعل المثقف الكوردي مع
التحولات الجارية في كلٍ من سوريا والعراق، أو في إيران وتركيا عن تفاعله مع المحيط
الخارجي قبل السنوات الأربع الماضية، من حيث إظهاره عدم رضاه عن أداء الأنظمة
السياسية وأداء الحركة السياسية الكوردستاني عموماً، وظل يبدي أسفه لعدم تمكنه من
القيام بأي تغيير لصالح الشعوب، والأسباب كثيرة وفي مقدمتها عدم امتلاكه الوسيلة
(المال والقوة)، إلا أنه ظل متمرّداً بقلمه إلى حدّ ما، ولكن هناك فئة من المثقفين
ارتدّت عما كانت تؤمن به، وتراجعت عن الصفوف، بل شرعت تطبّل وتزّمر لسياسات حزبية
معينة أو تضع أثقالها في ميزان مصالحه الشخصية وهي أحزابٌ أثبتت فشلها وعدم قدرتها
على خدمة شعبها بالشكل المطلوب، واستغرب لحال هؤلاء في الوقت الذي صار أكثر من نصف
شعبنا مشرّداً خارج البلاد، وهم لا يزالون يمدحون فلاناً أو فلاناً على ما حققه
حزبياً أو إدارياً، ومنهم من كاد يخاطبنا كما يفعل إعلام النظام ذاته. 


– ما هي الآفاق أمام تحولات هذا
المشهد؟

* ثقافياً نحتاج إلى تواصلٍ أقوى بين مختلف
المثقفين الكورد، والتحامٍ أشد بالمثقفين السوريين من غير الكورد، ونحتاج إلى
التعمّق الفاعل في الأوساط الثقافية العالمية بالنسبة للذين يعيشون خارج البلاد،
وهم الآن أكثر ممن يعيشون بداخلها. وسياسياً يجدر بالمثقف المساهمة في المعترك
السياسي لشعبه، لا بهدف منافسة الأحزاب السياسية، وإنما للمساعدة في تصحيح المسارات
وردم الشروخ وتقريب وجهات النظر، وقبل كل شيء للوقوف في وجه “مقصات الرقابة”، بل و
“الإرهاب الفكري” الذي يكاد يصبح اللون المفضّل للعديد من السياسيين الكورد مع
الأسف.


– في العام 2014 نلت جائزة “نقابة الصحفيين الكرد في سوريا” كيف
تلقيت هذا النبأ؟

* طبعاً كانت مفاجأة لي لم أتوقعها،
حيث هناك الكثير من المثقفين والإعلاميين الأجدر بنيل تلك الجائزة القيّمة. وعلى كل
حال آمل أن ينالها من يستحقها فعلاً لجهوده الطويلة الأمد وصبره ومعاناته ونضاله من
أجل الصحافة الكوردية الحرة، وأنا أجد أي جائزةٍ كانت فوق مستواي البسيط وواقعي
الذي أعيشه كإنسان كوردي يقاوم قدر المستطاع. وأشكر بالتأكيد الإخوة الذين قرروا
ذلك وأكرر بأن هناك من كان يستحقها قبلي.


– من من الكتاب يشغلك  الآن
أكثر؟

* كوردياً، كل من يكتب بالكوردية بهدف حماية
هذه اللغة وتطويرها يهمني، بغض النظر عن اتجاهه السياسي وفكره، وسورياً، كل من يقف
مع ثورة الشعب السوري من أجل الحرية والحياة الكريمة ويضع إمكاناته وطاقاته
الثقافية في خدمة الكفاح التحرري من أجل إنقاذ الشعب السوري من حياة المخيمات
والمعتقلات ومن التعذيب والقصف بالبراميل المتفجّرة , وعالمياً أولئك الذين يكتبون
ويكافحون من أجل التعارف والتضامن والتفاعل بين الحضارات البشرية، ويقاومون الظلم
والاستبداد ويدافعون عن الأقليات ويرفضون العنف والإرهاب والعنصرية، ويريدون الحرية
للجميع مثلما يريدونها لأطفالهم وشعوبهم. أنا في الحقيقة مواظب على القراءة يومياً
ويسحرني ماأتعلم منه المزيد عن الثقافات المختلفة.


– كيف تنظر إلى
الإعلام الإلكتروني؟

* الإعلام الالكتروني أزال
الحدود بين البشر، فلا طبقات ولا دول قومية ولا دكتاتوريات عسكرية، وإنما بحورٌ
عميقة وسهولٌ واسعة من الثقافة وانتقال سريعٌ من مكانٍ إلى مكان، وتقريبٌ لا مثيل
بين المنتج والباحث عن الإنتاج في مختلف المجالات، وقد غيّر في النظم الإعلامية
السائدة قبل الآن، وصار البعض يبحث عن أسسٍ لبناء اتحاداتٍ ثقافيةٍ وإعلاميةٍ
الكترونية لحفظ حقوق الناشرين ودعم الصحافة الالكترونية، وأملي هو أن يساهم هذا
الإعلام بقوة في توحيد واستقلال النشاط الثقافي الكوردستاني. 
فما أجمل أن تقرأ
دروس اللغة الكوردية التي يلقيها الأستاذ الكبير زين العابدين زنار عبر الفيسبووك،
أو مقالاً عن حياة الدكتور عبد الرحمن قاسملو كتبه أحد رفاقه المعاصرين له أو ما
كتبه الأخ إبراهيم كوجلو حول السياسة في آمد، أو الأخ كونى ره ش عن العم عثمان صبري
والبدرخانيين، وأنت في غرفتك في ستوكهولم أو في أوتاوا أو آلما آتا؟ أو مع
البيشمركه في جبهات القتال! فهذه ثورة ثقافية كونية بكل معنى
“الثورة”.


– باعتبارك تقيم في أوربا منذ سنوات بعيدة: ألا ترى في ذلك
خطراً على الجيلين الثاني والثالث من أبنائنا؟

* من
خلال مراقبتي أجد الشباب الكوردي الذي نشأ وترعرع كفردٍ من الجيل الثاني أو الثالث
في “مجاهل أوروبا” أشد اهتماماً من أبويه بالقضية الكوردية، على الرغم من عدم تكلمه
باللغة الكوردية سوى داخل بيته أو عدم تكلّمه بها إطلاقاً. رفع العلم الكورد يبجانب
الكومبيوتر أو تعليقه في السيارة أو جعله ستاراً لنافذة الغرفة الخاصة صارت سمة
بارزة للشباب الكوردي، ذكوراً وإناثاً، وفي العالم الالكتروني تجد المساهمة كبيرة
والدخول في المواقع التي تكتب عن القضية الكوردية وكوردستان في ازدياد ملحوظ،
والمشكلة تكمن عند الوالدين وليس عند أطفالهم الذين يلدون في أوروبا، فالآباء لا
يزالون خائفين من أن يعاقبوا فيما إذا عادوا إلى كوردستان وأولادهم لا يجيدون
التركية أو العربية أو الفارسية. 
هناك الآن حق تعلّم اللغة الأم في سائر الدول
الأوروبية، ومنها حق تعلم الكوردية، إلا أن كثيرين من الكورد يرسلون أولادهم لتعلّم
لغات الدول القاسمة لوطنهم، وليس لغتهم الأم، وهذه آفة اجتماعية لم تشغل الأحزاب
نفسها بها بشكلٍ جاد بسبب مشاكلها وضعفها ولا مبالاتها.
وشكراً جزيلاً على
اهتمامكم وأسئلتكم الجميلة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…