الخبر النفيس في «احتلال» تل حميس

 ابراهيم محمود

ليؤخَذ في الحسبان أنني لم أفرح كما فرح
ويفرح الكثيرون من كردنا إثر سماع الخبر” النفيس ” بأن القوات الكردية قد ” احتلت ”
تل حميس، بقدر ما تأسفت وتألمت وتقلقلت تجاه الجاري، ولن ألوم، من ناحية، من أظهروا
فرحهم في مسيرات متلفزة، وكذلك من عبّر، وهو في تل حميس، أن الحدث جاء بمثابة
انتقام لضحايا الكرد ممن قتِلوا على أيدي عرب المنطقة التلحميسيين وخلافهم، وهم
بالمئات في مجزرة بشعة حقاً، من ناحية أخرى، ولن ألوم نفسي ، من جهة ثالثة، إذا
تجاوبت مع فرح من فرح بطريقة ما.
ببساطة، لأن المسألة أبعد من حدود” الاحتلال ”
وأعقد من هذا الكر والفر في مشهديات دموية مختومة بالعنف الداعشي المتأسلم والمتعرب
في الغالب، وينقسم المقيمون في المنطقة على أنفسهم، ويظهر التشدد والتهديد والوعيد
هنا وهناك، كما لو أن هذه الجغرافيا معدومة الذاكرة في العلاقات التي تجمع بين
أهليها.
مؤلم جداً، حين ينبري العربي، هنا وهناك، وهو يهز بندقيته، رشاشه، أو أي سلاح بيده،
وهو يتوعد الأكراد جملة وتفصيلاً، بالويل والثبور، وقد لبس سواداً، أو اكتفى بنصفه،
سوى أنه أطلق لحية شعثاء، أو لبس ثوباً مهلهلاً، ودائماً تحت راية سوداء تحمل عبارة
” الله أكبر “، كما لو أنه بالطريقة هذه يعدِم الجغرافيا في تنوعها الاثني وتاريخها
في تنوعه الاثني، وأنا، كغيري، أتابع مشاهد القتل والتدمير والنهب والسلب والاغتصاب
والغنائم” من النساء والأطفال والعجَّز”، دون أي اعتبار للصور الملتقطة أو جاره
الكردي أو الآشوري أو حتى العربي المختلف بالمقابل.
القوات الكردية احتلت القرى
التالية”…. “، تنظيم الدولة الإسلامية والمكوَّن إجمالاً من عرب المنطقة يغير على
القرى الكردية التالية “..”، أو القرى الآشورية التالية ” …”، وما يصاحب ذلك من
سفك دماء وتخريب ونهب ممتلكات والاعتداء على الأعراض من قبل ” المجاهدين ؟ ” ، وهو
لا يعدو أن يكون إبرازاً للناس أجمعين” من في المنطقة وفي الخارج “، استعراضاً لقوى
مروعة، والأكثر ترويعاً، وحملَة الراية السوداء يصلون أنفسهم بأسلافهم الدينيين،
وفي الواقع، تكون العمليات كلها ترجمة غرائز مميتة غالباً.
كما لو أن الأخوة
العرب في المنطقة التلحميسية والتلبراكية، والتلتمرية، انعدموا ذاكرة الجيرة في
الجزيرة، كما لو أنهم أفصحوا عما يخالف بعضاً جلياً ومؤثراً من أعراف العشيرة
الصالحة، ليكون الجاري تطبيقاً لما هو كامن وملغوم في النفوس.
أتحدث، ومن خلال
المشاهدات المسجلة: لكم حاولت رؤية مشهد يمثّل نهب كردي عادي، أو مقاتل كردي لبيت
عربي أو سواه وهو يقاتله دفاعاً عن أرضه ووجوده، والحرب تفسح في المجال لكل شيء
غالباً، أن يمد يده إلى عرضه، أو يؤذي صغيره، أو يحرق بيته مباشرة، أو يهدده
بالتصفية…الخ، لأتأكد من أن العنف الضاري يوحّد بين الجميع، وأن ثمة من هم همج من
الكرد فيما يقومون به، سوى أنني لم أجد لذلك أثراً يُذكر، وأن الكثير من الدعايات
والشائعات ” وهذه لها مسار آخر” تروَّج لتحفيز الطرف الآخر على إعمال المزيد من
العنف الضاري، وكأنها رد فعل على عنف الآخر.
بالمقابل، لكم كنت آمل أن أجد مسيرة
أو ما يشبه المسيرة لأخوة عرب في محيط قامشلو وخارجها، وهم يستنكرون مثل هذه
الأعمال الهمجية في الاعتداء على الآخرين: كرداً وآشوريين، كما يجري الآن في القرى
الاشورية، ليكون ذلك تعبيراً عن المختلف وطمأنة لأهل المنطقة من الاثنيات الأخرى أن
ثمة أملاً مستقبلياً بالتعايش، وأن ما كان يُعمَل لأجله يؤتي ثماره المرجوَّة، ولم
يتحقق شيء من هذا.
ذلك ما يترك خزان العنف قيد الانفجار باستمرار، والمسألة لا
تتوقف عند حدود طرد هذا الطرف لذاك، أو بالعكس، إنما في القادم من الأيام، وما يجب
التفكير فيه بالنسبة للذي يساوم على الجميع من ذوي النفوذ السلطوي من وراء ستار
وقبله” علانية ” داخل النظام وفي الجوار، لأن الخاسر الوحيد هو جميع الذين تجاوروا
معاً لزمن طويل، ولهم علاقات مختلفة، وأكثر من مصير مشترك.
لعل التحدي الأكبر هو
الذي يعيشه العرب في مجموعهم، وفي المنطقة بصورة خاصة تجاه المتحولات، وتحديداً
إزاء المعتقَد المتأصل في أذهانهم أن كل شيء على ما يرام، وأن القوة التي سمَّتهم
وقدَّمتهم على الآخرين، بوصفهم في الدرجة الثانية في الاعتبار، بتفعيل سلطوي، بعثي
وقومجي، عروبي، لا تمتلك أهلية البقاء أو القدرة على الثبات دائماً.
إنه الرهان
التاريخي الذي يحتّم على من يمتلكون قابلية التفكير في المستجدات، النظر في الجهات
الأربع، حباً بما هو إنساني متبقٍّ، وأنفسهم وأولادهم ونسائهم وتاريخهم بالمقابل،
بقدر ما يكون الرهان هذا فارضاً نفسه على الآخرين أيضاً: الكرد في الواجهة، وهم
أكثر ضبطاً لأنفسهم وشعاراتهم، وبعداً عن الاستفزاز للآخرين، حباً بالمكان المشترك،
أو حتى بالصورة التي يجدون أنفسهم فيهم ذوي سلطان هذه المرة، ويلقون ترحيباً من لدن
من كانوا في هذا الموقع في الأمس القريب. إن القوة الوحيد تتمثل في كيفية كسب ود
الآخر وليس تنفيره!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…

إبراهيم اليوسف إنَّ إشكالية العقل الأحادي تكمن في تجزئته للحقائق، وتعامله بانتقائية تخدم مصالحه الضيقة، متجاهلاً التعقيدات التي تصوغ واقع الشعوب. هذه الإشكالية تطفو على السطح بجلاء في الموقف من الكرد، حيث يُطلب من الكرد السوريين إدانة حزب العمال الكردستاني (ب ك ك) وكأنهم هم من جاؤوا به، أو أنهم هم من تبنوه بإجماع مطلق. الحقيقة أن “ب ك ك”…

شيروان شاهين سوريا، الدولة ذات ال 104 أعوام البلد الذي كان يومًا حلمًا للفكر العلماني والليبرالي، أصبح اليوم ملعبًا للمحتلين من كل حدب وصوب، من إيران إلى تركيا، مرورًا بكل تنظيم إرهابي يمكن أن يخطر على البال. فبشار الأسد، الذي صدع رؤوسنا بعروبته الزائفة، لم يكتفِ بتحويل بلاده إلى جسر عبور للنفوذ الإيراني، بل سلمها بكل طيبة خاطر…

ماجد ع محمد بعد أن كرَّر الوالدُ تلاوة قصة الخريطة المرسومة على الجريدة لأولاده، شارحاً لهم كيف أعادَ الطفلُ بكل سهولة تشكيل الصورة الممزقة، وبما أن مشاهِدَ القصف والتدمير والتدخلات الدولية واستقدام المرتزقة من دول العالم ومجيء الجيوش الأجنبية والاقليمية كانت كفيلة بتعريف أولاده وكل أبناء وبنات البلد بالمناطق النائية والمنسية من بلدهم وكأنَّهم في درسٍ دائمٍ لمادة الجغرافيا، وبما…